العالم المربي أسامة عبدالعظيم


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

 

الأرض لا تخلو من قائم لله بحجة

إنّ من الناس من يختارهم الله؛ فيكونون قدوةَ في هذه الأمة: يُغرسون ويُنشَّأون ويُهذَّبون ثم يرفعون ليكونوا قدواتها الذين يدلُّونها على الله بأحوالهم وأعمالهم فوق ما يدلُّونها عليه بأقوالهم وعلومهم، وهؤلاء –بفضل البرِّ الجواد– لا يخلو منهم زمان من الأزمنة إلى يوم القيامة.

وإلى هذا يشير الحديث النبوي الشريف الذي أخرجه ابن ماجه وحسَّنه الألباني من حديث أبي عنبة الخولاني رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرسًا يستعملهم فيه بطاعته إلى يوم القيامة."
وهؤلاء المكرَّمون كما نجدهم في كلِّ زمان.. نجدهم –بمشيئة الكريم الحميد– في كلِّ مجال، وفي كلِّ مكان، وفي كلِّ مستوى من المستويات، وما شئت، فهي سلسلة ربانية لا تنقطع حلقاتها، كما هو موعود الله – عزَّ ثناؤه – لنا بقوله: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا}، فإن من أظهر معاني هذه الآية الكريمة ما ورد عن مجاهد بن جبر – رحمه الله تعالى -: “اجعلنا أئمة نقتدي بمن قبلنا، ونكون أئمة لمن بعدنا”.

زخر زماننا هذا بجماعة مِن أولئك المكرمين كانوا قدوات الناس، كلٌّ في مجاله، ومنهم من كان أمَّة علّق الله أنظار الأمة كلها بشخصه، ومنهم من تفوَّق في أكثر من مجال، بحسب عطاء الله جل في علاه، فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

 

الشيخ أسامة عبد العظيم قدوة في العلم والعمل

وشيخنا الأستاذ الدكتور أسامة محمد عبد العظيم حمزة –الذي وافته المنية قبل يومين– ممَّن جمع الله في شخصه القدوة والأسوة للطالبين والسالكين على السواء، فهو إمام فقيه أصولي أذعن لعلمه أحبارُ فنِّه وروَّادُه، وعابدٌ متنسكٌ خضع لفرط عبادته رهبان الطريق وعبَّادُه.

ففي الوقت الذي يكتب فيه الشيخ الإمام – رحمه الله تعالى – للمتخصصين من أجل “تجديد علم أصول الفقه” نظريًّا وتطبيقيًّا سلسلته التي ضمَّت لآلئ وذخائر جعلتهم يرفعونها إلى مصافِّ الكتب الرائدة.. نراه يكتب للسائرين إلى الله تعالى عن “إحياء الربانية”، و “ما لا يستغني عنه العابد والزاهد”، وغيرهما من السلسلات التي تضم كل منها كتبًا عديدة تتخطَّى بعضها عشرين جزءًا، جعلت الوعاظ والزهاد والعباد والسائرين إلى الله يتخذونها منهجًا وكشافًا يكشف لهم طريقهم.

وقامة مثل هذه – قدوة في العلم والعمل – حقٌّ علينا أن نقف معها وقفات نتعرف خلالها على شيء من سيرتها ونستقرئ هذه السيرة لنستخرج الدروس لحياتنا – الحاضرة والمستقبلة – منها، رغم أن السطور تضيق عن استقصاء ذلك، والقلب يضعف عن تحمله في هذا الظرف العصيب الذي يعتصر فيه الفؤاد، وتهمل فيه العين، ويشرد فيه الذهن، لكن ما لا يدرك كله لا يترك قله.

 

معالم في حياة الشيخ أسامة عبد العظيم

وهذه رءوس أقلام حول معالم في حياة شيخنا –رحمه الله تعالى– تثير في قارئها النشاط للاستقصاء وتحضه على التفتيش عن التفاصيل للاستهداء..

 

الدعوة العلمية:

ولد شيخنا رحمه الله تعالى في 13 ربيع الأول لعام 1367 هـ الموافق 25 / 1/ 1948م بمنطقة التونسي، بحي الخليفة، بمحافظة القاهرة، وتخرج في القسم العالي للدراسات الإسلامية والعربية بكلية الشريعة والقانون جامعة الأزهر بالقاهرة سنة 1967م، ثم حصل على الماجستير في أصول الفقه عن أطروحته: (حجيَّة قول الصحابي)، وذلك سنة 1974م، وبعدها حصل على الدكتوراه عن أطروحته: “شرح الولي العراقي على منهاج البيضاوي، المسمَّى بالتحرير لما في منهاج الوصول من المعقول والمنقول.. دراسة وتحقيق”، سنة 1983م.

هذا طرف من تدرُّج الشيخ في الحياة الدراسية انتهى به إلى رئاسة قسم الشريعة في كلية الدراسات  الإسلامية والعربية بجامعة الأزهر الشريف.

 

بعض مصنفاته:

وكان له خلال هذه الرحلة الطيبة نبوغ علمي واضح أثمر مصنفاتٍ عديدةً، منها – في الجانب العلمي التخصصي:

 1ــ عيون الأصول.

 2ـ - مدخل الهائب إلى تيسير وتحرير شرح ابن الحاجب، للإيجي.

3ـ - نصوص أصوليَّة من شرح الإسنوي على منهاج البيضاوي في مسائل المجمل والمبين والنسخ والسنة والإجماع.

 4ـ-نصوص أصولية من شرح الإسنوي على منهاج البيضاوي في مسائل القياس والأدلة المختلف فيها.

 -5السبيل لتصفية علم الأصول من الدخيل.

 -6أصول الفقه المصفَّى المحلَّى.

7 -نحو منهج جديد في تخريج الفروع على الأصول.

8 -بحث أصولي مبتكر عن شروط الاجتهاد.

9 -أسباب الإجمال في الكتاب والسنة وأثرها في الاستنباط.

10 -مقدِّمات النَّـسْخ.

11 -الاشتراك اللفظي وأثره في استنباط الأحكام.

12 -القصص القرآني وأثره في استنباط الأحكام.

13 -مذكرة المعاوضات في فقه البيوع.

وغيرها من المؤلفات التي تدلُّ على علم عميق، واتصال وثيق بالفن والتخصص إلى حد الكتابة عن التجديد فيه وفيما يتعلق به، كما نرى.

 

الدعوة العامة:

وكما عرفَت الحياةُ العلميَّة للدكتور أسامة عبد العظيم عالمًا يكتب في مباحث الأصول، ويشتغل بالتجديد فيه داخل أسوار الجامعة وبين روادها وطلابها.. عرفتْه الدعوةُ العامة في أماكنَ عدةٍ من الحياة، أبرزها: الشارع، ومعرض الكتاب، ومصايف الشواطئ، ومكتبات الكتب، وساحات المساجد، فلم يكن  الشيخ رحمه الله تعالى ليكتفي بما يبثُّه من علمٍ بين الطلاب – وهم كُثر جدًّا – لكن سوف تبقى جهوده حبيسة أسوار الجامعة.

وقد كان رحمه الله رجلَ دعوة؛ ولهذا انطلق يؤسس لدعوته في المسجد الحالي – الفتح – في التونسي، قريبًا من مسجد الإمام الشافعي (ستة أدوار)، ذلك المسجد الذي ظلت الأعداد الغفيرة تؤمُّه من مصر وخارجها لعقود عدَّة حتى أيام قليلة خلت، الأمر الذي هيأ الله الشيخ له في الشق الثاني من طريقه – إلى جانب العلم والتخصصية، وهو -: العمل والتربية، في قرب من شباب الجامعة وخارجها، وقرب من كافة فئات المجتمع؛ ليأخذ بأيديهم إلى الله على طريقة اختارها في الترقي إليه تعالى، تتلخص في المسجد: تعلمًا للعلم، واشتغالًا بالقرآن – حفظه وتلاوته ودراسته والتعبد به-، وأخذًا للنفس بالعبادة – من صلاة وصيام وزهد.

 

جهوده العلمية مع التراث:
ومن أجل هذا اشتغل الشيخ – رحمه الله تعالى – على عددٍ من نصوص التراث شرحًا وتعليقًا وتهذيبًا وترتيبًا، منها:

1ــ مختصر الترغيب والترهيب، لابن حجر العسقلاني.

2 ــ إتحاف الأكابر بتهذيب كتاب الكبائر، للذهبي.

3ــ الصوفية والفقراء، لابن تيمية.

4ــ يقظة أولي الاعتبار مما ورد في ذكر النار وأصحاب النار، لـصِدِّيق حسن خان.

5ــ رسالة إلى كل مسلم، لابن قيم الجوزية.

6ــ شرح حديث ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم، لابن رجب.

وغيرها لتكون زادًا للسائرين، إضافة إلى خطب الجمعة التي كان المئات يحضرونها، وكانت تسجل أثناء ذلك ويحتفظون بها للسماع، ثم تفرغ وتطبع في رسائل صغيرة وكتيبات، مع كتابات أخرى لطيفة يقدمها الشيخ – رحمه الله تعالى – علاجًا لظاهرة، أو يضمنها توجيهًا لخير ونفع، أو تحذيرًا من شر وضر.

 

كما في رسائله:

1 -حراسة التدين.

2 -نذير الاستبدال.

وغيرهما.

 

ودروس في أيام الأسبوع عنيت بالتربية، وقد شرح الشيخ – رحمه الله تعالى – خلالها:

1- مدارج السالكين، لابن القيم.
2-
وزاد المعاد لابن القيم.
3-
كفاية الأخيار، للحصني.
4-
الشفا، للقاضي عياض.
5-
كتاب أسرار الصلاة، لابن القيم.

وغيرها.

 

ثمرات جهد الشيخ ودعوته:

لقد كان الشيخ – رحمه الله تعالى – شعلة من النشاط، اهتم بالعلم فوفَّاه حقه، واهتمَّ بالتربية فتوفَّر عليها جهده، نحسبه والله – تعالى – حسيبه.
وقد أثمرت دعوته – رحمه الله – فكان لها في بداية الأمر أثرها في الجامعة، والحي الذي يسكنه والأحياء التي حوله، وسرعان ما امتد تأثيره مع الوقت وكثرة الوافدين لمسجده، وما أعانه الله عليه من بذل الجهد إلى جهات كثيرة من مصر، ثم العالم العربي والعالم الإسلامي.
حمل ذلك عنه طلاب الأزهر الوافدون، ومن جاءوا لزيارته من أهل هذه البلاد من غير الطلاب.

ولم يكن الشيخ – رحمه الله – بالذي ينتظر حتى يأتيه المدعوون إلى مسجده أو يلقاهم مصادفة في طريقه، بل كان يقصد هو إليهم قصدًا في أماكنهم، وقد عرفته أواخر الثمانينيات من القرن الماضي مصايف مصر في شاطئ بلطيم وغيره؛ كان يصطحب الأسر الملتزمة إلى هناك ويقيم بهم معسكرًا كبيرًا للاستجمام ومكاثرة غير المتدينين ودعوة الناس أجمعين، كما كان ذا حضور فاعل في صلوات الجمعة بمعرض القاهرة الدولي للكتاب مدة غير قصيرة.

-إن الحديث عن الشيخ – رحمه الله تعالى – ذو شجون، وجوانب حياته الرائدة متشعبة، وسردها – من غير الوقوف عندها وتأملها لاستنباط العظات المفيدة والعبر الكاشفة – يحتاج إلى مئات الصفحات، لكن الكلمات تكاد تحفر في النفس أخاديد وهي تتناثر على الورق والعبارات، وتوشك أن تنتزع القلب من موضعه وهي تتراص إلى جوار بعضها في السطور، فإن تحت كل حرف منها ذكرى شاخصة وموقف حي يناديان النفس بالهم ويحملان العين على البكاء، وعسى الله أن يهيئ لهذا وقتًا وحالًا مناسبين، ويرزق فيهما المقال المسدد والعطاء غير المجذوذ.

 

وفاة الشيخ وجنازته:

ظل الشيخ خادما للعلم، مربيًا داعيا، قائما بالعبادة والزهد والورع حتى وافاه الأجل المحتوم، وذلك يوم الاثنين 7 ربيع الأول 1444هـ الموافق 3 كتوبر 2022م، وشهدت وسائل التواصل الاجتماعي ضجة كبيرة بالكتابة عنه وذكر مآثره من علماء ودعاة، وجهات علمائية كثيرة.

وقد كانت جنازته في اليوم التالي مشهودة أعادت لأنفسنا الثقة في أمور كثيرة؛ حيث خرج وراءه الكبير والصغير، وكانت جنازة حاشدة يتجلى فيها قول الإمام أحمد رضي الله عنه: “بيننا وبينكم يوم الجنائز”، رحمه الله وغفر له، وتقبله في العلماء العاملين والدعاة الصادقين الربانيين.

-كان الله لأمتنا التي تنتقص أطرافها من كل جهة –حقيقة ومجازًا -، ولا تعوَّض، بل يزداد ذلك يومًا بعد يوم.. فإن واقعها مخيف ومستقبلها مرعب لو استمر الوضع على ما هو عليه؛ نُشيع كل يوم إمامًا وقدوة، ويقل أن نغرس مكانه خليفة يخلفه وعاقبًا يقفوه.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply

التعليقات ( 1 )

صديق من طرف واحد

-

عصام رزق

06:09:08 2022-12-07

فرحت بمسجده وشرفت بمعرفته رحمه الله من 1998 ، فكان لي منذ ذلك التاريخ صديقا لابد أن أسمع درسه قبل أن أوي إلى فراشه وفرحت بالصلاة خلفه حتى سافرت 2001 إلى الخليج ولكن علاقتي بصديقي لم تنته حيث أنني واظبت على محاضراته وخطب الجمعة والفتاوى يوميا حتى أنني كنت أنتظر خطبة الجمعة صباح السبت بفارغ الصبر ، وعندما دخل رحمه الله المستشفى شعرت أن جزءا مني قد قطع ومن يومها وحتى وفاته رحمه الله عرفت قيمة الصديق الذي لا يفارقك رحمه الله كان يمشي معي منذ أكثر من ربع قرن وتركني . رحمه الله و نحسبه والله حسيبه وجمعنا معه وأهلنا وأحبابنا على حوض النبي الكريم صلى الله عليه وسلم