وأما بنعمة ربك فحدث


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

 

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}...

معاشر المؤمنين الكرام: جُبِلَت النفوسُ على حُبِّ من أحسنَ إليها، ولا أحدَ أعظمُ إحسانًا من الله جلَّ في علاه؛ فالمخلوقُ يتقلَّبُ في نعَمِ من الله لا تُعدُ ولا تحصى، ومع هذا فاللهُ تبارك وتعالى يقول:{وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}...

ولا شكَّ أن ذِكرَ النِّعمِ وشُكرَ المنعِم أمرٌ واجبٌ على كلِّ مؤمن... فالله جلَّ وعلا يقول:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ}، وقال تعالى:{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}... وقال تعالى:{وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}، فشُكرُ المنعِمِ والتَّحدُثَ بنِعمه هو منهجُ الأنبياء والمرسلين، فهذا سليمانُ عليه السلام يقول:{رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ}... وقال تعالى مثنيًا عليه وعلى أبيه داوود:{اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}... وأثنى قبل ذلك على جدهم إبراهيمُ عليه السلام فقال تعالى:{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}... ومن بعدهم موسى عليه السلام يُعاهِدُ ربَّه فيقول:{رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ}... وعيسى عليه السلامُ يتحدثُ بنعمة اللهِ عليهِ فيقول:{إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا}، وقال اللهُ تعالى لخاتم أنبيائهِ وأفضلِ رُسله: {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ}، فقام حتى تفطرت قدماه، وحين تعجبَ الصحابةُ من طول قيامه، قال: أفلا أكونُ عبدًا شكورًا...

فيا أُخيَّ المسلم: أذكر نِعمتَ اللهِ عليك: وأنَّ الله تباركَ وتعالى هو الذي أوجدكَ من العدم، وسواك في أحسنِ تقويم، ونفخَ فيك من روحه، وعلمك ما لم تكن تعلم، ورزقك من الطيبات، وهو الذي أطعمك وسقاك، وكساك وآواك، وهو الذي متَّعك بسمعك وبصرك، وعقلك وعافيتك، وسائر قواك... وهو الذي كرَّمك وحملك في البر والبحر، وفضَّلك على كثيرٍ ممن خلقَ تفضيلًا... {وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا}...

فيا أُخيَّ المبارك: أذكر نعمتَ اللهِ عليك: فهو الذي هداك لهذا الدين العظيم، وهو الذي وفقكَ لصراطه المستقيم، وهو الذي شرح صدرك، ونور قلبك، وهو الذي ثبتكَ على شرعه القويم... وهو الذي:{حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ}...{فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}،{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا}...

ويا معاشر المؤمنين أذكروا نعمتَ اللهِ عليكم: فـــ{هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا}، و{هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ}... {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ}...

ويا أيَّها المؤمنون أُذكروا نعمتَ اللهِ عليكم: فـ{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}، و{هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ}، و{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا}، و{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}... و{هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}، وهو الذي{أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شيئًا}، و{هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ}، وهو الذي:{أَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً}، وهو الذي غمركم بفضله وإحسانه:{وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}، وهو الذي{سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}...

ويا أيَّها المؤمنون الكرام: أُذكروا نعمتَ اللهِ عليكم:فــ{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ * وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}...

ويا أيها الذين أمنوا اذكروا نعمة الله عليكم، فهو الذي أنعم عليم بنعمة الأمن والأمان، قال تعالى:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ}، وقال تعالى:{فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ}، وقال تعالى:{أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}...

ويا أيها الذين أمنوا اذكروا نعمة الله عليكم، فلقد خَصَّ اللهُ المؤمنين بالمزيدِ مِنْ فَضلِه: فتفضَلَ عَليهم بالهدَايةِ:{فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا}، وخصهم بالمغفِرة:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}، وخصهم بالعَفو عَنهم:{وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}، وبمضَاعَفةِ الأجُورِ:{فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ}، وبشَّرَهُم بالجنَّة:{وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا}، وبإعطَائِهم مَا يَشاؤونَ فِيها:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ}...

وحين يتأمَّلُ المسلمُ نِعم اللهِ عليه وعظيم فضلهِ، وما أكرمه الله به من الطاعات، فضلا عن غيرها من سائر النعم، يجدُ أنَّ كلَّ شيءٍ من اللهَ تباركَ وتعالى، ابتداءً وانتهاءً، فهو الذي أوجدَ وخلق، وهو الذي أعطى ورزق، وهو الذي ألْهم ووفَق، وهو الذي علَّمَ وهدى، وهو الذي أعانَ وقوَّى، وهو الذي يسرَّ وسهَّل، وهو الذي تمَّمَ وأكمل، ثم هو الذي يتكرمُ فيتقبَّل، ثمَّ يُثيبُ ويأجُر، ويُضاعِفُ الثوابَ ويشكُر... فما أعظمَ اللهَ وما أعظمَ قُدرته، وما أوسعَ حِلمهُ ورحمته، وما أجلَّ كرمهُ وما أعظم نِعمته، وما أبلغَ عِلمهُ وحِكمته... و{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}....  

 

اتقوا اللهَ عبادَ اللهِ وكونوا مع الصادقين، {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}

معاشرَ المؤمنين الكرام: تأمَّلوا قولَ الحقّ جلَّ وعلا:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا}، وكيفَ أن الانسان مع كُلِّ خفقةِ قلبٍ، ومع كلِّ طرفةِ عينٍ، ومع كلِّ حركةِ عضوٍ، ومع كلِّ خاطرةِ عقلٍ، هناك نعمٌ لا تعدُ ولا تحصى... ومع كُلِّ كلمةٍ ينطقها، أو عِبارةٍ يسمعها، أو معنىً يفهمهُ, هناك نعمٌ لا تُعدُ ولا تُحصى... مع كلُّ لقمةٍ يأكلها، أو شربةٍ يشربها، أو نفسٍ يتنفسه، هناك نعمٌ لا تُعدُ ولا تحصى... ومن بات آمنًا في سربه، معافًا في بدنه، عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها...

تأمل أيها الانسان في جسمك العجيبِ... ملياراتُ الخلايا، ملايينُ الأنسجة، الآلافُ الكيلوات من الشعيرات الدموية، والنهايات العصبية، وما لا يُتصورُ من التفاعلات الكيميائية، والعملياتِ الحيوية، كُلُّها تَتمُّ على مدار اللحظةِ والثانية، وكُلُّ واحدةٍ منها، فيها من النِّعمِ والآلاءِ ممَّا لا يُعدُ ولا يُحصى... ثم إنَّ هناك نِعمٌ أُخرى هائلةٌ وغزِيرةٌ، لها اشكالٌ وأحوالٌ وفروعٌ جِدُ كثيرة، لا يتصورها خيال، ولا تَخطرَ على بالِ، فضلًا عن أن تُعرفَ أو تُستقصى... {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}.... وإذا كان الذي وصَلَنا من الخيرات والنِّعمِ لا يُعدُ ولا يُحصر، فإنَّ ما صَرفَهُ اللهُ عنَّا من الشرور والأخطارِ أكثرَ وأكثر... ومن تأمَّلَ حِكمةَ اللهِ في المنعِ والعطاءِ، عَرفَ أنَّ بعضَ العطاءِ منعٌ، وبعضَ المنعِ عطاء، وإذا كان العَطاءُ نِعمةٌ، فإن المنعَ نِعمةٌ أيضًا، بل ربما كان المنعُ أفضلَ من العطاء:{وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}... فلو نقصت الحموضةُ في الدم أو زادت، أو لو نقصَ ضغطُ الدم أو زاد، أو لو نقصَ السُّكرُ في الدم أو زاد، أو لو نقصت سيولةُ الدم أو زادت، أو لو نقصت خلاياك البيضاء أو زادت... لولواتٌ كثيرةٌ، واحتمالاتٌ عديدةٌ، في أوضاع الدمِ فقط، فكيفَ بالقلب، وكيف بالكبدِ، وكيف بالرئةِ والكليةِ والمعدة والدماغِ والأعصاب ووغيرها من الأعضاء... والتي كُلُّها بفضل اللهِ ونعمتهِ تسيرُ على ما أحسنِ ما يُرام... . ثم إنَّ هناك الملايين بل مئاتُ وألوفُ الملايين من الميكروبات والفيروساتِ والفطريات والحشراتِ السامة، وغيرها من المخلوقات الضارة، كُلُّها تعيشُ معنا ومِن حولِنا أو في أجوائِنا أو في داخِلَ اجسامِنا، ولا يخلو منها طعامٌ ولا شرابٌ ولا هواءٌ ولا مكانٌ... وهناك العشراتُ والمئاتُ من الأمراض المعدية، والأوبئةِ المهلكة، والأخطارِ المحدقة، تتنقلُ بيننا بسرعةٍ مذهلة... ولكن الحافظَ سبحانهُ يُنعمُ علينا فيحمِينا من شرها، ويحفظنا من أذاها... {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}...

وكم للهِ من لُطفٍ خَفِيٍ.... يَدِقُ خَفَاهُ عن فَهْمِ الذَّكِي...

وهذه الأرض التي نسكن عليها، كم فيها من النعم، فلو تحركت قليلًا، بل لو تحرك هواءها، أو فاض ماءها، أو ماج بحرها، أو أخرجت بعض ما في جوفها... {وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ}... وحين يتنقلُ الانسانُ بأيِّ وسيلةٍ من وسائل المواصلات، فإنَّ احتمالَ تعرُضهِ للحوادث بعدد الثواني التي يستغرقُها مشوارهُ، بل هي أكثر... تأمَّل قوله تعالى:{لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ}، فقد جاءَ في تفسيرها: أنهم ملائكةٌ يحفظونَ الانسانَ من بين يديه ومن خلفه, فإذا جاءَ قدرهُ خَلَّوا عنه... وما أجملَ قولَ الشاعر:

كم نطلبُ اللهَ في ضُرٍ يحِلُ بِنا، فإن تولت مُصيبتنا نسيناه، ندعوهُ في البحر أن يُنجي سفينتنا، فلمَّا رجعنا إلى الشاطئ عصيناه،  ونركبُ الجو في أمنٍ وفي دعةٍ، فما سقطنا لأنَّ الحافظَ اللهُ...

ووالله يا عباد الله: لو لَمْ يَكُنْ في الشَّدَائِدِ من المِنَحِ إلَّا أن يَصدُقَ المؤمنُ في الالتِجَاءِ والعودةِ إِلى ربه تبارك وتَعَالَى، لَكْفى بها من نِعمةٍ عظمية... {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا}...

فالحمدُ للهِ على نِعَمهِ كُلِّهَا، أولِهَا وآخِرهَا، ظَاهِرهَا وباطِنُها، ما عَلِمنَا مِنهَا وما لم نَعلَم.... ويا ابن آدم عش ما شئت...

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply