حول الخلاف في إخراج زكاة الفطر نقودًا


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

 

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد، هل يجوز إخراج زكاة الفطر نقودًا؟ هذا العنوان مفاده أنني سأخوض في خلاف تجده كثيرا في أماكن متعددة، وليس ذاك غآية كلامي، وإنما أحببت أن أعلق حول ما يثار من ردود حول هذا الخلاف.

هو بلا شك خلاف متكرر بين من يجيز إخراجها نقودًا، ومن يوجب إخراجها طعاما، لا تذكر زكاة الفطر إلا مقرونة به، وكثرة التكرار بلا جدة؛ تنفر منه بعض النفوس، ثم كل من طرفي الخلاف مستمسك بمذهبه، فلا يعدو ذكر الخلاف إلا تأصيلا للتنازع، ثم لا يخلو الكلام أحيانًا من غض أحد الطرفين للآخر، فمن يرى لزوم إخراجها قوتا قد يرمق مخالفه بعين عدم تعظيم السنن، وغوآية تقديم الرأي، وصاحب القول بإخراجها قيمة يرشق مخالفه بضعف ملكة الفقه، وعدم تسوره معراج مقاصد الشرع في رعآية مصلحة الفقير، وتغير عادات الأزمنة.

وأحب أن أسجل في ذلك تعليقات معدودات:

أولا: تكرار ذكر الخلاف في إخراج زكاة الفطر هو حقيقتها كمسألة فقهية مختلف فيها، فلا ذكر لها إلا بذلك، فالخلاف فيها ليس من فضول طلبة العلم المعاصرين، وإنما هو وراثة فقهها عن أئمة العلم جيلا بعد جيل.

ثانيا: مسائل الخلاف الفقهي بلا حصر، فلا يخلو باب من أبواب الفقه من مسائل الخلاف، فليس ذاك حصرا لمسألة زكاة الفطر.

ثالثا: وقوع الخلاف في المسائل الفقهية؛ واضح أنه مقصود في التشريع الإسلامي؛ فإن الشرع الحنيف بنى الأحكام على أدلة محتملة الأفهام، وما كان ربك ليعجزه أن يجعل في كل مسألة نصا قاطعا لكل خلاف، وأيضًا فإن الله تعالى فاوت بين قدرات عقول الناس، فهذا وذاك يؤدي حتما إلى الخلاف، ويدل قطعا على أن هذا الخلاف مقصود.

يقول الإمام الزركشي أحد كبار المصنفين في علوم الشريعة وصاحب كتاب البحر المحيط، وهو من أجل كتب أصول الفقه: (اعلم أن الله تعالى لم ينصب على جميع الأحكام الشرعية أدلة قاطعة، بل جعلها ظنية قصدا للتوسيع على المكلفين، لئلا ينحصروا في مذهب واحد لقيام الدليل عليه).

رابعا: بروز المسائل الفقهية على منحى الاختلاف هو منهج خير القرون من الصحابة، خير الأمة وأفقهها، فإليهم يرد أكثر مسائل الخلاف، ثم من بعدهم من التابعين والأئمة اتبعوهم بإحسان في هذا المسلك، وقد صارت الأمة في جميع قرونها على هذا النهج.

ولذا يقول عمر بن عبد العزيز رحمه الله):ما أحب أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا؛ لأنه لو كان قولا واحدا كان الناس في ضيق وإنهم أئمة يقتدى بهم.(

خامسا: هذا الخلاف الفروعي مآله الرحمة الواسعة في تشعب مذاهب المسألة؛ ما دام كل مؤهل للاجتهاد استفرغ وسعه في إصابة الأرجح دليلا عنده، ولذا قال الإمام ابن قدامة:(اتفاقهم حجة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة).

وحين عمد رجل إلى كتابة مصنف في الخلاف قال له الإمام أحمد بن حنبل: لا تسمه " كتاب الاختلاف " ولكن سمه " كتاب السعة".

سادسا: بناء الفقه الإسلامي على الخلاف هو بيان ساطع لعظمة هذا الفقه، لأنه سبب الجهد في تحصيل أبوابه، وسبيل بناء مسالك الاجتهاد في مسائله، ولو كانت كل مسائل الفقه قطعية لا مجال للاجتهاد فيها؛ لاستحال العلماء إلى آلة تكرر بلا وعي ولا اختيار، وإنما تعبدنا الشرع بمسلك الفقه؛ بتعدد عطاءات نصوص التشريع، واختلاف أفهام العلماء فيها، بل جعل ذلك من أجل عبادات الشرع.

سابعا: إن الخلاف في الاجتهاد هو سبيل لبناء أمة ذات عقول ناضجة، وصدور واسعة، فنختلف في الرأي، ولا يفسد بيننا الود، ونختلف في الفروع ونجتمع على أصول واحدة، أما أن تكون فروع الفقه قطعية؛ فلا مجال حينها لاتساع الصدور لأي خلاف، فهذه تربية جديرة بهلكة أصحابها في دروب حياة مبنية على الخلاف في جميع مسالكها.

ثامنا: حين قرر الشرع الخلاف الفقهي المبني على الاجتهاد الصحيح؛ قرر معه أنه لا إنكار في مسائل الاجتهاد، فليتعبد كل منا ربه بما أداه اجتهاده؛ أنه أقرب لتحقيق الشرع، ولا يجوز أن يتهم أحدنا غيره أو أن ينكر عليه لاختلافه الفقهي، بل مدارسة علمية راقية، فذاك هو مسلك الشرع العظيم.

وأخيرا فما أحوجنا أن نتبصر عظمة التشريع الإسلامي، ونتفقه مناحي حكمته ومقاصده، وفقنا الله لفهم دينه.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply