بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
القرآن الكريم إجابة على الأسئلة الثلاثة الأهم في حياة الناس، وهي: من خَلَقَهم وخَلَقَ كل شيء؟، وماذا يراد منهم في هذه الحياة؟، ثم ماذا ينتظرهم بعد الوفاة؟؛ ومن خلال الإجابة على هذه الأسئلة الثلاثة يتم ربط العبد بربه في كل شيء، ربطَ مخلوقٍ بخالق، ربط فقير لا يملك شيئًا بغني مالك كل شيء؛ بمعنى ترسيخ الحقيقة الكبرى في هذه الحياة وهي محورية الله،}ولِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ{(هود:123).
وواحدة من أهم الطرق التي يعلمنا الله إياها في كتابه للاهتداء إلى تفرده بالكمال والعبادة التأمل (التدبر) في كل شيء وفي جميع الأحوال. في القرآن الكريم}كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آياته{(ص:29)، وفي آثار السابقين من نجا منهم ومن هلك}أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم{(محمد:10)، وفي ذات الإنسان:}وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ{(الذاريات: 21).
وفي جميع الأحوال:، فحينًا يأمر الله عباده بالسير في الأرض من أجل النظر والتأمل}قلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا{(النمل:69)، وحينًا يحضهم على السير والتأمل،}أولم يسيروا{ وحينًا لا يكون أمرًا ولا حضًا وإنما طلبًا رقيقًا ممن يضرب في الأرض أن يتأمل حال سيره،}قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ{(الأنعام:11). فهي دعوة لإعمال الفكر في كل ما يرد على الإنسان فحتى الذين لا يستطيعون السير عليهم أيضًا أن يتأملي في الأخبار التي تأتيهم ممن ساروا وشاهدوا، وانظر إلى ختام هذه الآية الكريمة:}أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيات أَفَلَا يَسْمَعُونَ{ ذكر السماع لينبه من لم يمش إلى أن يتأمل في الأخبار التي سمعها ممن مشى في مساكن السابقين ورأى كيف هلاكهم. ولنا أن نسأل: ماذا يفهم من الدعوة للتأمل في كل شيء وفي جميع الأحوال؟
الذي أفهمه أن الله سبحانه وتعالى ذكره يُرسخ التأمل كمنهجية (Method)/ (approach) للتعلم والتفاعل عند المؤمنين. يُثَبت التأمل كحالة تتصف بها الشخصية المؤمنة بالله. فليس للمؤمن وهو مؤمن أن لا يفكر فيما يعرض عليه؛ بمعنى صياغة شخصية يقظة تدقق النظر وتعمل الفكر في كل ما يَرِدُ عليها. وقد ظهر هذا جليًا في الصحابة رضوان الله عليهم، فأثمر تأملهم وتفكرهم تساؤلات ظهرت كأنها اعتراض أو استشكال: (أمنزل أنزلك الله أم هي الحرب والمكيدة؟.... ليس بمنزلٍ إذًا يا رسول الله)، (رأي تراه لنا أم وحي أمرك الله به... ليس لهم عندنا إلا السيف)، ويطلب منهم المشورة فيشيرون عليه بغير ما يرى ويظلون به حتى يوافقهم كما حدث في يوم أحد وفي حصار الطائف حين هم بفك الحصار ولا زالوا به حتى أمهلهم يومًا آخر، صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم؛ ويعرض على بعضهم حكمًا فلا يجد حرجًا من أن يُظهر ما في صدره منه (أيجد أحدنا رجلًا مع زوجته وينطلق يلتمس البينة؟!!)، (والله لا تكسر سن الربيع يا رسول الله).. فكانت شخصية يقظة تمارس التفكير والنقد وتعبر عما في صدرها دون خجلٍ. نعم هذا حالهم وهم أطوع الناس وهو سيد الناس رسول مؤيد بالوحي من الله، صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم؛ واليوم بعض الوعاظ ومن ينقلون كلام العلماء، أولئك الذين أحضرتهم أدوات العلمانية على مسرح الأحداث، حين تعترض عليه بحق ينتفخ سحره ويصول ويجول ويحشد المتعصبين من أتباعه، يفعل ما لم يفعله النبي، صلى الله عليه وسلم!!
ودعني أتلو عليك بعض ما أرى لأزيد الفكرة وضوحًا:
الناس متخصصون بطبعهم:
حين يترسخ التأمل في الشخصية المسلمة فإن الناس ينصرفون إلى ما يحسنون أو إلى ما يحبون، كل يتأمل فيما يحسنه أو فيما يحبه، فالناس متخصصون بطبعهم، وهذا واضح من مواقف الصحابة رضوان الله عليهم فمن تحدث في تحديد أرض المعركة غير من تحدث في بيان شأن الأسرى، غير من تحدث في الموقف من الخروج لقتال المشركين على جبل أحد. كل موقف يستدعي الذين يفهمون فيه، ويحترم كل واحد إمكاناته الشخصية (تخصصه) فلا يتحدث فيما لا يعلم. وحين انتشر الدين تخصصوا أيضًا: فكان بعضهم في حلق العلم فقيهًا كزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل وعبد الله بن عباس، وكان بعضهم في القتال يدير المعارك كأبي عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد أو ينازل الأبطال كالزبير، وكان بعضهم في السياسة والحكم كأبي بكرٍ وعمر بن الخطاب، وكان بعضهم في قراءة القرآن وتعليمه كعبد الله بن مسعود وأبي بن كعب، وكان بعضهم في التجارة كعبد الرحمن بن عوف، ثم كان الأئمة بعد ذلك: فقهاء، ومحدثين، ومؤرخين، وأدباء (كالخليل بن أحمد) وعلوم طبيعية (الخوارزمي ومن بعده)...
تدبر القرآن الكريم:
انتشرت مؤخرًا بشكلٍ ملفت الدعوة للتدبر، ويقصرون التدبر على كتاب الله، ولا أدري لماذا؟، فالقرآن الكريم أمر بالتأمل (التدبر) في كل شيء وليس القرآن الكريم فقط، وأريد هنا أن أسجل بعض الملاحظات على هذه الدعوة في ضوء ما سبق:
أولًا: لن نتدبر جميعًا، فالناس متخصصون بطبعهم، ومما يرصد هنا أن الذين رووا حديث التدبر (حدثنا من كانوا يقروؤننا القرآن... فتعلمنا الإيمان والقرآن معًا... الحديث) لم يعرف عنهم التدبر، ولا عن الذين أخذوا عنهم، وإنما عنوا بضبط النص وتعليمه للذين جاءوا من بعدهم، ولا زالوا يتطورون كما غيرهم في العلوم الأخرى حتى ظهر علم القراءات واستقل، ولم يعرف أئمة القراءات بغير القراءات. بل إن عددًا من كبار أئئمة القراءات طعن في روايته للحديث. أدلل بهذا على التخصصية العالية التي اشتهر بها الأوائل ممن يحتج بهم علينا الآن.
ثانيًا: الدعوة للتدبر انتشرت هذه الأيام بعد تكرار الفشل السياسي للحالة الإسلامية، وبهذا مثلت ساحة هروب لكثيرٍ ممن فشلوا في المواجهة السياسية، وأمارة ذلك في التحول المفاجئ لبعضهم من الاهتمام السياسي والفكري إلى حديث عن التدبر. والطبعي أن يحدث تطور ونمو للفكرة، أما القفز المباشر تكون له دوافع أخرى غير الاقتناع بالفكرة، وإن رأيت أحدهم يتحرك بين مربعات مختلفة فجأة ويدعي أن مقتنع بما يفعل فلا تصدقه، هو في الحقيقة يتحرك في المساحات الخالية، بمعنى أنه يتحرك حيث يسمح له، وهذا لا تعول عليه. فإنه في الحقيقة تبع.
ثالثًا: الذي أفهمه من حال الصحابة رضوان الله عليهم، أن قراءة القرآن ثابت مشترك بين الجميع. كان القرآن موردًا.. مأدبة يردها الجميع كل يوم، ويتدبرون التدبر العادي الذي يفهمه الجميع ويمارسه الجميع دون مشقة؛ ثم ينطلقون إلى ما يحسنون أو إلى ما يحبون، بعقلية يقظة متأملة متخصصة مثمرة...
رابعًا: عامة المتحدثين عن التدبر والزهد لا يعلمون الناس أدوات التدبر الحقيقية والتي أولها التفسير واللغة، وإنما ينقلون النكات العلمية عن أئمة المسلمين الأول كابن القيم وابن تيمية، ولذا وقعوا في الاغتراب وخسروا المعارك الحقيقية في الواقع المعاصر. إنها ليست حالة من نشر التدبر وإنما حالة من الهروب من واجب الوقت. وقد أكثر ابن القيم في أكثر من مكان بأن أفضل الأعمال هو واجب الوقت يليه ما تعدى نفعه للغير.
بعضهم حسن النية نحسبه محبًا لله ورسوله؛ يريد شخصية قرآنية مطمئنة لم تتلوث بفضلات الفكر العلماني ويظن أن العزلة والبناء بعيدًا عن هوث العلمانية يكفي، والأمور ليست هكذا. فالعلمانية شيء يتشربه الجميع قبل أن يدرك أنه مسلم، شيء اجتاح المفاهيم والتصورات وأصبح من المسلمات في العادات والسلوك. هل تجد الآن خاليًا تغرس فيه ما تشاء وتعزله عما تشاء؟؟!!.
فيا أيها الكرام الأفاضل المعركة منذ كانت ذات شقين: كفر بالطاغوت وإيمان بالله، وقدم الله في كتاب الكفر بالطاغوت على الإيمان بالله}فمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا{ (البقرة:256)، وكلمة التوحيد نفي قبل الإثبات.
إن التدبر حالة. وصفٌ لازم للشخصية المسلمة ويظهر في مجالات متعددة حسب ما يحسن الشخص أو ما يحب. نعم نحتاج لإعمال التدبر.. النقد.. التفكير في كل ما يرد علينا وليس فقط في القرآن الكريم، وإن فعلنا خرجنا من حالة التبعية التي أثمرت الهوان والذلة عند عامة الناس والتحزب والتشيع (النسق المغلق) عند الملتزمين.. إن أعملنا التدبر والتأمل وانطلق كل لما يحسن أخرجنا فردًا يقظًا حساسًا يصعب اقتياده وتوجيهه.. إن أعملنا التدبر كل فيما يحسن أو يحب خرجنا من التبعية للريادة.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد