ولقد آتينا موسى الكتاب


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

 

}وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ{(87).

{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى} ابن عمران أفضل أنبياء بني إسرائيل{الْكِتَابَ} التوراة، وأُنزلت عليه جملة واحدة {وَقَفَّيْنَا} أتبعنا لأن التابع يأتي في قفا المتبوع {مِن بَعْدِهِ} قفوت الأثر: اتبعته، والأصل أن يجيء الإنسان تابعًا لقفا الذي اتبعه، ثم توسع فيه حتى صار لمطلق الاتباع، وإن بعد زمان المتبوع من زمان التابع.

ِالرُّسُلِ} أي أرسلناهم على أَثَرِه كقوله تعالى:{ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا}[المؤمنون:44] وهم: يوشع، وشمويل، وشمعون، وداود، وسليمان، وشعيا، وأرميا، وعزير، وحزقيل، وإلياس، وأليسع، ويونس، وزكريا، ويحيى، وغيرهم.

وقال تعالى:{إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ}[المائدة:44].

{وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ}أضاف عيسى إلى أمه ردًا على اليهود فيما أضافوه إليه. وعيسى بالسريانية معناه المبارك ومريم بمعنى الخادم.

وخص كل من موسى الذي كلمه الله، وعيسى من بين الأنبياء لما أوتيا من الآيات العظيمة، والمعجزات الباهرة، ولأن آيتيهما موجودتان، فتخصيصهما بالذكر طعن على تابعيهما حيث لم ينقادوا لهذين الرسولين العظيمين، ووقع منهم المنازعة والخلاف.

كما أجمل الله تعالى ذكر الرسل، وفصل ذكر عيسى، لأن من قبله كانوا متبعين شريعة موسى، وأما عيسى فنسخ شرعه كثيرًا من شرع موسى.

{الْبَيِّنَاتِ} الحجج الواضحة الدالة على نبوّته، وتشمل الآية الشرعية، كالشريعة التي جاء بها؛ والآية القدرية الكونية، كإحياء الموتى، وإخراجهم من قبورهم بإذن الله، وإبراء الأكمه، والأبرص، وأنه يخلق من الطين كهيئة الطير، فينفخ فيه، فيكون طيرًا يطير بإذن الله؛ وكذلك أيضًا يخبرهم بما يأكلون، وما يدخرون في بيوتهم؛ قال العلماء: إنما أعطي هذه الآية الكونية؛ لأن الطب في عهده ارتقى إلى درجة عالية، فأتاهم بآيات لا يقدر الأطباء على مثلها؛ كما أن محمدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ترقى في عهده الكلام إلى منْزلة عالية في البلاغة والفصاحة؛ فآتاه الله سبحانه وتعالى القرآن العظيم الذي عجزوا أن يأتوا بمثله.

ونص هنا لعيسى على الآيات {البينات} تقبيحًا لأفعال اليهود حيث أنكروا نبوّته مع ما ظهر على يديه من الآيات الواضحة.

{وَأَيَّدْنَاهُ} قويناه، من الأيد، وهو القوة، كقوله تعالى:{فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ}[الصف:14] أي قويناهم عليهم، كما قال الله تعالى:{وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ}[الذاريات:47] أي بقوة..

{بِرُوحِ} الروح هي التي بها حياة الأجسام {الْقُدُسِ} و"القُدُس"، و"القُدْس" الطاهر، كقوله تعالى:{إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ}[المائدة:110].

وروح القدس هو جبريل عليه السلام في أصح الأقوال، وهو الرسول الكريم الموصوف في القرآن بالقوة والمكانة عند الله تعالى، قال الله:{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ}

[التكوير:19-21].

وفي سبب تسميته بروح القدس، قال النحاس: وسمي جبريل روحا وأضيف إلى القدس، لأنه كان بتكوين الله عز وجل له روحا من غير ولادة والد ولده، وكذلك سمي عيسى روحا لهذا. وروى غالب بن عبد الله عن مجاهد قال: القدس هو الله عز وجل. وكذا قال الحسن: القدس هو الله، وروحه جبريل.

ويقول الإمام الواحدي:وإنّما سُمي جبريل رُوحًا؛ لأنه بمنزلة الأرواح للأبدان؛ يحيا بما يأتي من البيان عن الله عز وجل من يُهدَى به، كما قال عز وجل:{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ}[الأنعام:122]، أي: كان كافرًا فهديناه.

وجمع هذه الأقوال في البحر المحيط: وتسمية جبريل بذلك، لأن الغالب على جسمه الروحانية، وكذلك سائر الملائكة، أو لأنه يحيا به الدين، كما يحيا البدن بالروح، فإنه هو المتولي لإنزال الوحي، أو لتكوينه روحًا من غير ولادة.

ومعنى قوله تعالى:{أيدناه}، أي: قويناه، وأعناه.ومن وجوه التأييد:

أن جبريل ربَّى عيسى عليهما السلام، وكان معه في جميع أحواله، وصعد به إلى السماء.والتأييد في دعوته إلى الدين، لأنه الذي يلقي إلى عيسى ما يأمره الله بتبليغه.

على أن أعظم وجوه التأييد مطلقا، تأييد بوحي الله جل جلاله، وخبر السماء؛ وإنما خص جبريل بذلك، لأنه ملك الوحي الموكل به.

قال شيخ الإسلام:وروح القدس: قد يراد بها الملك المقدس كجبريل، ويراد بها الوحي والهدى والتأييد الذي ينزله الله بواسطة الملك أو بغير واسطته، وقد يكونان متلازمين، فإن الملك ينزل بالوحي، والوحي ينزل به الملك، والله تعالى يؤيد رسله بالملائكة وبالهدى، كما قال تعالى عن نبيه محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:{فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا}[التوبة:40].

وقال الشيخ الطاهر ابن عاشور رحمه الله وقوله:وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس:البينات هي المعجزات الظاهرة البينة، وروح القدس هو جبريل، فإن الروح هنا بمعنى الملك الخاص، كقوله:{تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا}[القدر:4].

والقدس، بضم القاف، وبضم الدال عند أهل الحجاز، وسكونها عند بني تميم؛ بمعنى: الخلوص والنزاهة، فإضافة روح إلى القدس من إضافة الموصوف إلى الصفة، ولذلك يقال:«الروح القدس».

وقيل القدس اسم الله كالقدوس، فإضافة روح إليه إضافة أصلية، أي روح من ملائكة الله.

وروح القدس هو جبريل قال تعالى:{قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ}[النحل:10].

وفي الحديث:"إِنَّ رَوْحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رُوعِيَ أَنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ أَجَلَهَا وَتَسْتَوْعِبَ رِزْقَهَا فَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ"[رواه أبو نعيم في الحلية].

وفي البخاري عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّهُ سَمِعَ حَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيَّ يَسْتَشْهِدُ أَبَا هُرَيْرَةَ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ هَلْ سَمِعْتَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:"يَا حَسَّانُ أَجِبْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُمَّ أَيِّدْهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ" قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ نَعَمْ. وفي رواية للبخاري"اهْجُهُمْ أَوْ هَاجِهِمْ وَجِبْرِيلُ مَعَكَ".

وإنما وصف عيسى بهذين، مع أن سائر الرسل أيدوا بالبينات وبروح القدس؛ للرد على اليهود الذين أنكروا رسالته ومعجزاته، وللرد على النصارى الذين غلوا فزعموا ألوهيته، ولأجل هذا ذكر معه اسم أمه- مهما ذكر- للتنبيه على أن ابن الإنسان لا يكون إلها، وعلى أن مريم أمة الله تعالى، لا صاحبة؛ لأن العرب لا تذكر أسماء نسائها وإنما تكني، فيقولون ربة البيت، والأهل، ونحو ذلك، ولا يذكرون أسماء النساء إلا في الغزل، أو أسماء الإماء.

{أَفَكُلَّمَا} استفهام للتوبيخ والتقريع{جَاءكُمْ} والخطاب في جاءكم يجوز أن يكون عامًا لجميع بني إسرائيل، إذ كانوا على طبع واحد من سوء الأخلاق، وتكذيب الرسل، وكثرة سؤالهم لأنبيائهم، والشك والارتياب فيما أتوهم به، أو يكون عائدًا إلى أسلافهم الذين فعلوا ذلك. وسياق الآيات يدل عليه، أو إلى من بحضرة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أبنائهم، لأنهم راضون بفعلهم، والراضي كالفاعل.

وقد كذبوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما جاء به، وسقوه السم ليقتلوه، وسحروه.

{رَسُولٌ} من أولئك الرسل {بِمَا} بشرع {لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ} وأسند الهوى إلى النفس، ولم يسند إلى ضمير المخاطب، فيكون «بما لا تهوون» إشعارًا بأن النفس يسند إليها غالبًا الأفعال السيئة، قال تعالى:{قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا}[يوسف:18]{إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ}[يوسف:53]{فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[المائدة:30].

والتعبيرُ عنه بالهوى للإيذان بأن مدارَ الردِّ والقبولِ عندهم هو المخالفةُ لأهواء أنفسِهم والموافقةُ لها لا شيءٍ آخرَ.

{اسْتَكْبَرْتُمْ} وفي ذلك ما كانوا عليه من طبيعة الاستكبار الذي هو محل النقائص ونتيجة الإعجاب. وهو نتيجة الجهل بالنفس المقارن للجهل بالخالق، وإن ذلك كان يتكرر منهم بتكرر مجيء الرسل إليهم، وهو استبكار بمعنى التكبر، وهو مشعر بالتكلف والتفعل لذلك لا أنهم يصيرون بذلك كبراء عظماء، بل يتفعلون ذلك ولا يبلغون حقيقته، لأن الكبرياء إنما هو لله تعالى، فمحال أن يتصف بها غيره حقيقة.

وفيه أن من استكبر عن الحق إذا كان لا يوافق هواه من هذه الأمة فهو شبيه ببني إسرائيل؛ فإذا استكبر عن الحق. سواء تحيل على ذلك بالتحريف؛ أو أقر بأن هذا الحق، ولكنه استكبر عنه. فإنه مشابه ببني إسرائيل.

والخارجون عن الحق ينقسمون إلى قسمين: قسم يقرُّ به، ويعترف بأنه عاصٍ؛ وهذا أمره واضح، وسبيله بيّن، وقسم آخر يستكبر عن الحق، ويحاول أن يحرف النصوص إلى هواه؛ وهذا الأخير أشد على الإسلام من الأول؛ لأنه يتظاهر بالاتباع وهو ليس من أهله.

{فَفَرِيقًا}طائفة{كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ}معطوف على قوله:{استكبرتم}، فنشأ عن الاستكبار مبادرة فريق من الرسل بالتكذيب فقط، حيث لا يقدرون على قتله، وفريق بالقتل إذا قدروا على قتله. وتهيأ لهم ذلك، كزكريا ويحيى عليهما السلام، ويتضمن أن من قتلوه فقد كذبوه. واستغنى عن التصريح بتكذيبه للعلم بذلك، فذكر أقبح أفعالهم معه، وهو قتله.

وتقديمُ {فريقًا}في الموضعين للاهتمام وتشويق السامعِ إلى ما فعلوا بهم، وإيثارُ صيغةِ الاستقبالِ في القتل لاستحضار صورتِه الهائلةِ.

وأتى بفعل القتل مضارعًا، إما لكونه حكيت أنه الحال الماضية، إن كانت أريدت فاستحضرت في النفوس، وصور حتى كأنه ملتبس به مشروع فيه، ولما فيه من مناسبة رؤوس الآي التي هي فواصل، لأنه لو قال:*فريقًا قتلتم* لم تتناسب مع التي قبلها، والتي بعدها، وإما لكونه مستقبلًا، لأنهم يرومون قتل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولذلك سحروه وسموه.

ففي سنن البيهقي أَهْدَتْ لِلنَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم يَهُودِيَّةٌ شَاةً مَحْنُوذَةً [مشوية] سَمَّتْهَا فِى ذِرَاعِهَا فَأَكَلَ مِنْهَا هُوَ يَعْنِى وَغَيْرُهُ. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:"مَا زَالَتِ الأُكْلَةُ الَّتِى أَكَلْتُ مِنَ الشَّاةِ تُعَادُّنِى حَتَّى كَانَ هَذَا أَوَانَ قَطَّعَتْ أَبْهَرِي".

وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند موته:"ما زالت أكلة خيبر تعاودني فهذا أوان انقطاع أَبْهَرِي"[ابن السني وأبو نعيم وصححه الألباني] وكان في ذلك على هذا الوجه تنبيه على أن عادتهم قتل أنبيائهم، لأن هذا النبي المكتوب عندهم في التوراة والإنجيل، وقد أمروا بالإيمان به والنصر له، يرومون قتله. فكيف من لم يكن فيه تقدم عهد من الله؟ فقتله عندهم أولى.

قال ابن عطية عن بني إسرائيل: كانوا يقتلون في اليوم ثلاثمائة نبي، ثم تقوم سوقهم آخر النهار. وروي سبعين نبيًا، ثم تقوم سوق نقلهم آخر النهار.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply