وقفات مع سورة الإخلاص


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

 

مُقتَرَحُ خُطبَة الجُمُعَةِ الرَّابِعَةِ مِن شَهرِ جُمَادَى الآخِرَةِ، وَدُرُوسُ هذا الأُسبُوعِ، وَدُرُوسُ النِّسَاءِ:

1- فَضَائِلُ سُورَةِ الإِخْلاصِ.

2- مَعَانِي كَلمات سُورَةِ الإِخْلاصِ.

3- الأَوْقَاتُ والأَحوَالُ التي تُشرَعُ قِرَاءَتُهَا فِيهَا.

الهَدَفُ مِنَ الخُطبَةِ: التذكيرُ بفضائل سورة الإخلاص، ومعانيها، وترسيخ العقيدة الصحيحة في ذات الرب جل جلاله؛ في ضوء ما تضمنته من معاني عظيمة.

مُقَدِّمَةٌ ومَدَخَلٌ للمُوْضُوعِ:

أيُّهَا المُسلِمُونَ عِبَادَ اللهِ، لِقَاؤُنا بإذن الله تعالى مع سورة هِيَ مِن أعظم سور القرآن الكريم، آياتها أربعُ آيات، وكَلِماتُها معدُودَة، ونُكَرِّرُها في اليوم والليلة مرَّاتٍ عديدةٍ، ويَحفَظُها الكبِيرُ والصَّغِير.

سُورَةٌ عظيمةٌ تُرسِّخ معاني التوحيد والإيمان في قلب المسلم، وتؤكد وحدانية الله عز وجل وتفرُّده وعظمته، وتتضمَّن إثبات صفات الكمال، ونفي صفات النقص والعيب عنه سبحانه تعالى، مع نفي الشبيه والمثيل والمكافئ، ونفي الصاحبة والولد. 

إِنَّها سورةُ: الإخلاص، أو: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}؛ وسُمِّيت بسورة الإخلاص؛ لأنَّ الله تعالى أخلصها لنفسه، فليس فيها إلا الكلامُ عن الله وحده وأسمائه وصفاته وكماله، ولأنَّها تُخلِّص مِن الشرك مَن قرأها معتقدًا وعاملًا بما دلَّت عليه، ويكون في عِداد عباد الله المخلِصين.

هذه السُّورَةُ على قِلِّة آياتها، وقِصَر كلماتها، إلا أنَّها تُعدُّ مِن أعظم سور القرآن الكريم؛ وذلك لكثرة ما ورَد في فضلها مِن أحاديث نبوية صحيحة؛ فهيَّا بنا نتَعَرَّفُ على فَضَائلِها، وَمَعَاني كلِمَاتِها، والأَوْقَاتِ والأَحوَالِ التي تُشرَعُ قِرَاءَتَها فِيهَا.

الوقفة الأُولَى: فَضَائِلُ سُورَةِ الإِخْلاصِ.

1- فَمِنْ فَضَائِلِ سُورَةِ الإِخْلاصِ: أنها من أعظم سور القرآن الكريم، ولم ينزل مثلها في الكتب السابقة.

عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه، قَالَ: لَقِيتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لِي: "يَا عُقْبَةُ بْنَ عَامِرٍ، أَلاَ أُعَلِّمُكَ سُوَرًا مَا أُنْزِلَتْ فِي التَّوْرَاةِ وَلاَ فِي الزَّبُورِ وَلاَ فِي الإِنْجِيلِ وَلاَ فِي الْفُرْقَانِ مِثْلُهُنَّ، لاَ يَأْتِيَنَّ عَلَيْكَ لَيْلَةٌ إِلاَّ قَرَأْتَهُنَّ فِيهَا: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وَ{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} وَ{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} قَالَ عُقْبَةُ: فَمَا أَتَتْ عَلَيَّ لَيْلَةٌ إِلاَّ قَرَأْتُهُنَّ فِيهَا، وَحُقَّ لِي أَنْ لاَ أَدَعَهُنَّ وَقَدْ أَمَرَنِي بِهِنَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم"[رواه أحمد، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة.[

2- وَمِنْ فَضَائِلِهَا: أَنَّهَا تتضمَّنُ صِفَةُ الرَّحْمَنِ جَلَّ جَلَالُه، وأنها من أسباب محبته سبحانه وتعالى. 

فَفِي الصحيحين عنْ عَائِشَةَ رَضيَ اللهُ عَنْهَا، أَنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، بَعَثَ رَجُلًا عَلَى سَرِيَّةٍ، فَكَانَ يَقْرَأُ لِأَصْحَابِهِ فِي صَلَاتِهِم فَيَخْتِمُ بـ{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، فَلَمَّا رَجَعُوا ذَكَرَوا ذَلِكَ لِلنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: "سَلُوهُ: لِأَيِّ شَيءٍ يَصْنَعُ ذَلِكَ؟"، فَسَأَلُوهُ، فَقَالَ: لِأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ، وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقرْأَ بِهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: "أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللَّه يُحبُّهُ".

3- وَمِنْ فَضَائِلِهَا: أَنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ القُرْآنِ.

ففي صحيح مُسْلِم عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ فِي لَيْلَةٍ ثُلُثَ الْقُرْآنِ؟ قَالُوا: وَكَيْفَ يَقْرَأْ ثُلُثَ الْقُرْآنِ؟ قَالَ: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ"

وفي رواية: "إِنَّ اللهَ جَزَّأَ القرآن ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ، فَقُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ثُلُثَ القُرْآَنِ".

وفي صحيح البخاري عن أبي سعيد الخُدْرِيّ رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "أيعجِزُ أحدكم أن يقرأ ثُلُثَ القرآن في ليلةٍ؟"، فشقَّ ذلك عليهم، وقالوا: أيُّنا يطيق ذلك يا رسول الله؟! فقال: "الله الواحد الصمد ثُلُثُ القرآن".

وفي صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أَنَّ رَجُلًا سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} يُرَدِّدُهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ جَاءَ إلى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، وَكَأَنَّ الرَّجُلَ يَتَقَالُّهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا لَتَعْدِلُ ثُلُثَ القُرْآنِ".

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "احْشُدُوا، فَإِنِّي سَأَقْرَأُ عَلَيْكُمْ ثُلُثَ الْقُرْآنِ"، فَحَشَدَ مَنْ حَشَدَ، ثُمَّ خَرَجَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَرَأَ: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ}.

والسِّرُّ في أنها تعدِلُ ثلث القرآن:

قال النووي رحمه الله: (وذلك لأن العلماء قسموا القرآن إلى: أحكام، وعقائد، وقصص وأخبار؛ وقد جمعت {قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ} أحَدَ الأثلاث، وهو العقائد وما يجب على العبد معرفته من أسماء الله وصفاته).

قال السيوطي رحمه الله: (هذه السورة ليس فيها ذكر جنة ولا نار، ولا دنيا ولا آخرة، ولا حلال ولا حرام، انتسب الله إليها فهي له خالصة؛ من قرأها ثلاث مرات عدل بقراءة الوحي كله).

4- ومِنْ فَضَائِلِهَا: أنَّها تضمَّنت اسم الله الأعظم، والدعاء به مستجاب.

عن بُريدة رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنِّي أَشْهَدُ أَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، الأَحَدُ الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ، وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ، فَقَالَ: "لَقَدْ سَأَلَ اللَّهَ بِاسْمِهِ الَّذِي إِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى، وَإِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ"[رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وصححه الألباني].

5- ومِنْ فَضَائِلِهَا: أنَّهَا حِصنٌ حَصِين وحِرزٌ متين من كل شر وبلاء لمن تعوَّذ وَتَحَصَّنَ بها.

عَنْ عَبْدِاللهِ بنِ خُبَيبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: خَرَجْنَا فِي لَيْلَةِ مَطَرٍ وَظُلْمَةٍ شَدِيدَةٍ نَطْلُبُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهِ عَلَيهِ وَسَلَّمَ لِيُصَلِيَ لَنَا، فَأَدْرَكْنَاهُ، فَقَالَ: "أَصَلَّيْتُمْ؟" فَلَمْ أَقُلْ شَيْئًا، فَقَالَ: "قُلْ" فَلَمْ أَقُلْ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ: "قُلْ" فَلَمْ أَقُلْ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ: "قُلْ" فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا أَقُولُ؟ قَالَ: "قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ، وَالمُعَوِّذَتَيْنِ حِيْنَ تُمْسِي وَحِيْنَ تُصْبِحُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ؛ تَكْفِيكَ مِنْ كُلِّ شَيءٍ"[رَوَاه أَبُو دَاوودَ، وَحَسَّنَهُ الأَلْبَانيُّ].

6- ومِنْ فَضَائِلِهَا: أنَّ قراءَتَها مع المُعَوِّذَتَيْنِ عِندَ النُّومِ؛ تكفِي مِنَ الشرِّ، وتمنَعُهُ.

ففي صحيح البخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضيَ اللهُ عَنْهَا: "أَنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، كانَ إذا أوَى إلى فِراشِهِ كُلَّ لَيْلَةٍ جَمع كَفَّيْهِ، ثُمَّ نَفَثَ فِيهِما فَقَرَأَ فِيهِما: قُلْ هو اللَّهُ أحَدٌ، وقُلْ أعُوذُ برَبِّ الفَلَقِ، وقُلْ أعُوذُ برَبِّ النَّاسِ، ثُمَّ يَمْسَحُ بهِما ما اسْتَطاعَ مِن جَسَدِهِ، يَبْدَأُ بهِما علَى رَأْسِهِ ووَجْهِهِ وما أقْبَلَ مِن جَسَدِهِ، يَفْعَلُ ذلكَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ".

7- ومِنْ فَضَائِلِهَا: أنَّ حُبَّها يُوجِبُ دخول الجنة.

فعن أنس رضي الله عنه، قال: جَاءَ رَجُلٌ إلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّ هَذِهِ السُّورَةَ: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "حُبُّكَ إِيَّاهَا أَدْخَلَكَ الجَنَّةَ"[رواه الترمذي، والبخاري في صَحِيحِهِ تعليقًا].

8- ومِنْ فَضَائِلِهَا: أَنَّ من قَرَأهَا عَشرَ مَرَّات بَنَى اللَّهُ لَهُ قَصْرًا فِي الْجَنَّةِ.

عَنْ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ الْجُهَنِيِّ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ قَرَأَ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ حَتَّى يَخْتِمَهَا عَشْرَ مَرَّاتٍ، بَنَى اللَّهُ لَهُ قَصْرًا فِي الْجَنَّةِ" فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: إِذًا نَسْتَكْثِرَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُ أَكْثَرُ وَأَطْيَبُ"[رواه أحمَدُ، والمُنْذِرِيُّ، وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانيُّ].

نسأل الله العظيم أن يجعلنا من أهل القرآن، الذين يتلونه حق تلاوته.

 

الخطبة الثانية: مع الوقفة الثانية: مَعَانِي كَلمات سُورَةِ الإِخْلاصِ.

{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}

أَيْ قُلْ: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ قَوْلًا جَازِمًا بِهِ، لِمَنْ سَأَلَكَ عَنْ صِفَةِ رَبِّكَ وَنِسْبَتِهِ: أَنَّ اللهَ تعالى هُوَ الأَحَدُ، الذِيْ لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى، وَالصِّفَاتُ الكَامِلَةُ العُلْيَا، وَالأَفْعَالُ الـمُقَدَسَةُ، الذِي لَا نَظِيرَ لَهُ وَلَا مَثِيْلَ.

وَسَبَبُ نُزُول هَذهِ السُّورُة:

عَن أُبَيِّ بنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهً، أَنَّ الـمُشْرِكِيْنَ قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اِنْسِبْ لَنَا رَبَّكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ}[رواه أَحْمَدُ، وَالتِرْمِذِيُّ، وَحَسَنَهُ الأَلْبَانيُّ].

ومن أجل هذه الكلمة أُوذي موسى عليه السلام؛ كما قال تعالى: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ}.

وأوذي من أجلها النبي محمد صلى الله عليه وسلم، حين قام أبو بكر رضي الله عنه ليردع عنه إيذاء المشركين قائلا لهم: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ}، وأوذي من أجلها المؤمنون من بعده؛ كما قال تعالى: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ}.

}اللَّهُ الصَّمَدُ{

أَيْ: الـمَقْصُودُ فِي جَمِيع الحَوَائِجِ؛ كما قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: (يَعْنِي الذِّي يَصْمُدُ إِلَيهِ الخَلَائِقُ فِي حَوَائِجِهِمْ وَمَسَائِلِهِم) فَهُوَ السَّيدُ الذِي قَدْ كَمُلَ فِي سُؤْدُدِهِ، وَالشَّرِيفُ الذِي قَدْ كَمُلَ فِي شَرَفِهِ، وَالعَظِيمُ الذِي قَدْ كَمُلَ فِي عَظَمَتِهِ، العَلِيمُ الذِي قَدْ كَمُلَ فِي عِلْمِهِ، الحَلِيمُ الذِي قَدْ كَمُلَ فِي حِلْمِهِ، الرَّحِيم الذِيْ وَسِعَتْ رَحْمَتُهُ كُلَّ شَيءٍ، وَهَكَذَا سَائِرُ أَوْصَافِهِ.

{لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ}

أي: لم يكن له ولد لانتفاء من يجانسه؛ إذ الولد يجانس والده والمجانسة منفية عنه سبحانه وتعالى، وَلَمْ يُولَدْ؛ أي: ليس بمحدث بأن لم يكن فكان؛ فهو كائن أولًا وأبدًا سبحانه وتعالى. 

وقد جاءت هذه الآية الكريمة لتنفيَ العقائد الباطلة، وتَرُدُّ على اليهود والنصارى والمشركين، الذين نسبوا لله تعالى الصاحبة والولد؛ فمشركو العرب زعموا: أن الملائكة بنات الله، وقالت اليهود: عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله، تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا.

قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}. 

وقال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا}.

وقال تعالى: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَاحِبَةٌ}.

وفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا أَحَدَ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ، إِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لَهُ وَلَدًا وَهُوَ يَرْزُقُهُمْ ويعافيهم".

وفي رواية: "مَا أَحَدٌ أَصْبَرَ عَلَى أَذًى يَسْمَعُهُ مِنَ اللهِ تَعَالَى، إِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لَهُ نِدًّا، وَيَجْعَلُونَ لَهُ وَلَدًا، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَرْزُقُهُمْ وَيُعَافِيهِمْ وَيُعْطِيهِمْ".

وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قَالَ اللَّهُ: كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ: فَزَعَمَ أَنِّي لاَ أَقْدِرُ أَنْ أُعِيدَهُ كَمَا كَانَ، وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ، فَقَوْلُهُ: لِي وَلَدٌ، فَسُبْحَانِي أَنْ أَتَّخِذَ صَاحِبَةً أَوْ وَلَدًا".

فلا يجوز مشاركتهم في أعيادهم، ولا تهنئتهم بها، ولا مساعدتهم في إقامتها، ولا حضور إقامتها؛ لأنها من صور الموالاة المُحَرَّمَةِ للكفار، ولأن في ذلك تشبه بهم، ومتابعة لهم في عقيدتهم الباطلة.

{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}

أي: أَنَّه سبحانه وتعالى لَا يُشْبِهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ، وَلَيْسَ لَهُ مَثِيلٌ أَوْ نَظِيرٌ أَوْ نِدٌ، لَا فِي أَسْمَائِهِ وَلَا فِي أَوْصَافِهِ، وَلَا فِي أَفْعَالِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ.

كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (تضمنت هذه السورة من وصف الله سبحانه وتعالى الذي ينفى قول أهل التعطيل، وقول أهل التمثيل، ما صارت به هي الأصل المعتمد في مسائل الذات).

وقد انحرفت طوائفٌ من أهل الأهواء والبدع؛ فخاضوا في صفات الله تعالى ما بين مُعَطِّلٌ وَمُشَبِّهٌ:

فالمعطِّلَةُ: هم الذين عطلوا صفات الرب جل جلاله، وهذا مُعتَقَدٌ باطل وفاسد؛ لأنه مبني على جحد صفات الرب ونفيها عنه سبحانه وتعالى.

والمُشَبِّهَةُ: هم الذين يشبهون صفات الله تعالى بصفات المخلوقين.

أما أهلُ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ: فيثبتون ما أثبته الله عز وجل لنفسه، وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم؛ بلا تشبيه ولا تعطيل. 

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (نؤمن بما وصف الله به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تحريف، ولا تعطيل، ومن غير تكييف، ولا تمثيل).

الوقفة الثالثة: الأَوْقَاتُ والأَحوَالُ التي تُشرَعُ قِرَاءَتُهَا فِيهَا.

1- يستحب قراءة سور الإخلاص والمُعَوِّذَتَيْنِ: في الصباح والمساء؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ، وَالمُعَوِّذَتَيْنِ حِيْنَ تُمْسِي وَحِيْنَ تُصْبِحُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ؛ تَكْفِيكَ مِنْ كُلِّ شَيءٍ". 

2- ومِنْها: عند النوم؛ كما في صحيح البخاري عنْ عائشةَ رضي الله عنها: (أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ إذَا أوَى إلى فِراشِهِ قرأَها مع المعوذتينِ، ومَسَحَ ما استطاعَ مِنَ جسدِهِ).

3- ومِنْها: دُبُر الصلوات المكتوبة؛ فعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: "أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقرأ بالمعوِّذات في دُبُرِ كل صلاة"؛[رواه أبو داود، والنسائي، وأحمد، وصححه الألباني].

4- في الركعة الثانية من سنة الفجر القَبْلية؛ ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في ركعتي الفجر": {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}و{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}".

5- في الركعة الثانية من سنة المغرب البعدية؛ فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "رمقتُ النبي صلى الله عليه وسلم أربعًا وعشرين مرةً - أو خمسًا وعشرين مرةً - يقرأ في الركعتين قبل الفجر وبعد المغرب: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}"؛ [رواه النسائي، وأحمد، وصحح إسناده أحمد شاكر، وقال الألباني: قوي بالمتابعة].

6- في الركعة الأخيرة من صلاة الوتر؛ فعن أبي بن كعب رضي الله عنه، قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الركعة الأولى من الوتر بـ{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}، وفي الثانية بـ{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، وفي الثالثة بـ{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}"؛ [رواه النسائي، وصححه الألباني].

7- في الركعة الثانية من ركعتي الطواف؛ فعن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في ركعتي الطواف بسورتَي الإخلاص: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}"؛ [رواه الترمذي، وصححه الألباني].

نسأل الله العظيم أن يُقَوِّيَ عقيدتنا، وأن يُرسِّخَ إيماننا.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply