بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
تفضيل اللبس الأبيض على غيره من الثياب، والنهي عن لبس الأحمر منها.
فهذا مبحث لطيف في بيان الأقرب للسنة، والمفاضلة بين غطاء الرأس الأحمر (الشماغ) والأبيض (الغترة)، وقد نظمته في مسائل.
المسألة الأولى: تفضيل اللبس الأبيض والعلة في ذلك:
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم وكفنوا فيها موتاكم" رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح وابن حبان في صحيحه.
وعن سمرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "البسوا البياض فإنها أطهر وأطيب وكفنوا فيها موتاكم" رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح والنسائي وابن ماجه والحاكم وقال صحيح على شرطهما.
المسألة الثانية: كراهة اللبس الأحمر
ثبت عن البراء رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نهى عن المياثر الحمر و القسي". رواه البخاري وغيره. وفي الباب بمعناه عن علي عند النسائي وغيره وصححه الألباني (صحيح النسائي برقم 5165).
وعن ابن عباس قال نهيت عن الثوب الأحمر وخاتم الذهب وأن أقرأ وأنا راكع. رواه النسائي وغيره وصححه الألباني (صحيح النسائي برقم 5266).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ويل للنساء من الأحمرين الذهب والمعصفر" رواه ابن حبان في صحيحه.
وعن عمران بن حصين مرفوعا "نهى عن ميثرة الأرجوان". أخرجه الترمذي (2789) و له شاهد من حديث علي قال: "نهى عن مياثر الأرجوان". أخرجه أبو داود (2 / 175) والنسائي (2 / 288) وقال الألباني في الصحيحة 2396: و هذا إسناد صحيح.
وعن علي رضي الله عنه قال: "نهاني حِبِّي صلى الله عليه وسلم عن ثلاث - لا أقول: نهى الناس - نهاني عن تختم الذهب وعن لبس القِسِّيِّ و عن العِصْفِر الـمُفَدَّمُ". أخرجه النسائي (1 / 168 و 2 / 287) وفي رواية: "وعن لبس المفدم و المعصفر". أخرجه النسائي أيضا (1 / 160 و 2 / 287). والمفدم المشبع بحمرة، قاله ابن عبدالبر.
وعن ابن عمر قال نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم: *عن المفدم قال يزيد قلت للحسن ما المفدم قال المشبع بالعصفر* أخرجه ابن ماجة (2 / 377) وفيه ضعف، ويغني عنه حديث علي المتقدم.
وعن جابر رضي الله عنه أحسبه رفعه أن رجلا كان في حلة حمراء فتبختر واختال فيها فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة رواه البزار، قال المنذري في الترغيب والترهيب ورواته رواة الصحيح.
المسألة الثالثة: هل ثبت النهي عن اللباس الأحمر عن النبي صلى الله عليه وسلم
ورد في النهي الشديد عن اللباس الأحمر عدة أحاديث، ولا تثبت وهي:
1- حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما في تركه صلى الله عليه وسلم رد السلام على من لبس الأحمر، وقد رواه الترمذي 5/116 وفي سنده أبو يحي القتات ضعيف.
2- حديث رافع بن خديج رضي الله عنه مرفوعا: *ألا أرى هذه الحمرة قد علتكم* وقد أبو داود 4/53 وغيره، وفي سنده مجهول.
3- حديث حريث السليحي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على امرأة أسدية تصبغ الثياب بمغرة (طين أحمر). وقد رواه أبو داود 4/53، وضعفه ابن حجر والمنذري بسبب وجود محمد بن إسماعيل بن أبي عياش، ووالده، وكلاهما فيه مقال. (فتح الباري 10/306).
4- حديث عمران بن الحصين رضي الله عنه مرفوعا وفيه أن الحمرة أحب اللباس إلى الشيطان، وبمعناه حديث رافع الثقفي رضي الله عنه. وقد رواهما الطبراني بأسانيد ضعيفة، وراه ابن أبي شيبة عن الحسن البصري مرسلا، ومراسيل الحسن كالريح، فهي ضعيفة لكونه من صغار التابعين. (مجمع الزوائد 5/130، فتح الباري 10/306).
المسألة الرابعة: في كون النهي للكراهة وليس للتحريم
الراجح عند الأصوليين أنه إذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء من أمور الآداب ثم ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه فعله، فإن ذلك دالٌّ على أن النهي للكراهة، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لبس الأحمر وأقر لبسها في عدة وقائع، فمنها:
أولا: في حجته صلى الله عليه وسلم، ودليل ذلك:
عن أبي جحيفة رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة وهو بالأبطح في قبة حمراء من أدم ورأيت بلالا أخذ وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأيت الناس يبتدرون ذاك الوضوء فمن أصاب منه شيئا تمسح به ومن لم يصب منه شيئا أخذ من بلل يد صاحبه ثم رأيت بلالا أخذ عنزة فركزها وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في حلة حمراء مشمرا صلى إلى العنزة بالناس ركعتين ورأيت الناس والدواب يمرون من بين يدي العنزة. متفق عليه.
وحديث هلال بن عامر رضي الله عنه في وصفه لخطبة منى، وأن عليه بردا أحمر، رواه أبو داود 4/54 والترمذي وحسنه ابن حجر.
ثانيًا: في سوق ذي المجاز قبل الهجرة ودليل ذلك:
كما في حديث طارق بن عبدالله المحاربي رضي الله عنه، رواه ابن حبان 14/518 والحاكم 2/668 وغيرهما.
ثالثًا: في وصفه صلى الله عليه وسلم، ودليل ذلك:
وعن البراء رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مربوعا بعيد ما بين المنكبين له شعر بلغ شحمة أذنيه رأيته في حلة حمراء لم أر شيئا قط أحسن منه. متفق عليه
حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه عند الترمذي 5/118، وصححه البخاري.
خامسًا: إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لبس الصغار للباس الأحمر، ودليل ذلك:
صح عن بُرَيْدَةَ (بن الحُصَيْبِ) قال: خطبنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فأقبل الحسن والحسين رضي الله عنهما؛ عليهما، قميصان أحمران، يعثران ويقومان، فنزل فأخذهما فَصَعِدَ بهما، ثم قال: "صدق الله! }إنما أموالكم وأولادكم فتنة{ ؛ رأيت هذين فلم أصبر"؛ ثم أخذ في الخطبة. رواه أبو داود برقم 1016 وابن ماجه برقم 3590 والترمذي برقم 2969 والنسائي برقم 1413، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح برقم 6159.
والأصل أن ما جاز للصغار جاز للكبار، إلا بدليل.
المسألة الخامسة: هل يحمل النهي على الأحمر القاني الذي لم يخالطه لون آخر، ذكر بعض أهل العلم أن النهي خاص بالأحمر الذي لم يخالطه غيره، وانفرد به ابن الهمام في شرح فتح القدير 2/71 وتبعه ابن القيم رحم الله الجميع.
وتعقبه الشوكاني بقوله في نيل الأوطار 2/90 (المنيرية).
وقد زعم ابن القيم أن الحلة الحمراء بردان يمانيان منسوجان بخطوط حمر مع الأسود وغلط من قال إنها كانت حمراء بحتا قال: وهي معروفة بهذا الاسم ولا يخفاك أن الصحابي قد وصفها بأنها حمراء وهو من أهل اللسان والواجب الحمل على المعنى الحقيقي وهو الحمراء البحت والمصير إلى المجاز أي كون بعضها أحمر دون بعض لا يحمل ذلك الوصف عليه إلا لموجب فإن أراد أن ذلك معنى الحلة الحمراء لغة فليس في كتب اللغة ما يشهد لذلك وإن أراد أن ذلك حقيقة شرعية فيها فالحقائق الشرعية لا تثبت بمجرد الدعوى والواجب حمل مقالة ذلك الصحابي على لغة العرب لأنها لسانه ولسان قومه فإن قال إنما فسرها بذلك التفسير للجمع بين الأدلة فمع كون كلامه آبيا عن ذلك لتصريحه بتغليظ من قال إنها الحمراء البحت لا ملجئ إليه لإمكان الجمع بدونه كما ذكرنا مع أن حمله الحلة الحمراء على ما ذكر ينافي ما احتج به في أثناء كلامه من إنكاره صلى الله عليه وسلم على القوم الذين رأى على رواحلهم أكسية فيها خطوط حمر. أ هـ
والراجح: كراهة لبس الأحمر بدرجاته ولو خالطه غيره، بشرط أن يكون الأحمر غالبًا، لثبوت النهي عنها وصرف النهي للكراهة ثبوت لبسه صلى الله عليه وسلم للأحمر من الثياب، والله أعلم.
المسألة السادسة: هل يقال بكراهة لبس الشماغ الأحمر
الغترة البيضاء أقرب للسنة لدخوله في "البسوا من ثيابكم البياض"، والغترة من الثياب، ويدل عليه حديث:" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استجد ثوبا سماه باسمه عمامة أو قميصا أو رداء ثم يقول: "اللهم لك الحمد كما كسوتنيه أسألك خيره وخير ما صنع له وأعوذ بك من شره وشر ما صنع له". رواه أبو داود والترمذي وأحمد عن أبي سعيد وصححه الألباني.
وهل هو للعمامة أقرب، أو أنه قريب من الرداء مع امتداده ليغطي الرأس؟ فيه احتمال.
وقد صح عن جابر قال: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح وعليه عمامة سوداء) رواه مسلم.
وصح لبسه العمامة السوداء في حديث عمرو بن حريث عن مسلم، وعن ابن عمر عند ابن ماجه وغيره عند دخوله مكة يوم الفتح. وعن ابن عباس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس وعليه عمامة دسماء). وفي المعجم الوسيط: دسم واغبر اغبرارا يميل إلى السواد فهو أدسم وهي دسماء، ويقال عمامة دسماء سوداء.
ولكن قياس الشماغ على العمامة محل نظر.
وبكل حال، فالأحمر داخل في النهي.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد