بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
}أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إلى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ{(25).
{أَلَمْ تَرَ} ألم ينته إلى علمك، فالرؤية هنا «رؤية علم»، والاستفهام هنا للتعجب من حالة اليهود في شدة ضلالهم، فإن هذه الحال يتعجب منها كل عاقل.
{إِلَى الَّذِينَ} وَعُرِفَ الْمُتَحَدَّثُ عنهم بطريق الْمَوْصُولِيَّةِ دون لقبهم، أعني اليهود، لأن في الصلة ما يزيد التعجيب من حالهم؛ لأن كونهم على علم من الكتاب قليل أو كثير من شأنه أن يصدهم عما أخبر به عنهم. على ما في هذه الصلة أيضا من توهين علمهم المزعوم.
{أُوتُوا} من الله تعالى {نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ} النصيب: القسط والحظ.
يحتمل أنه يفيد التقليل، أو التكثير، فيكون المراد أنهم أوتوا نصيبًا كبيرًا من الكتاب، بحيث يكون حاملًا لهم على الاهتداء، ولكنهم -والعياذ بالله- استكبروا. ويحتمل أنه ليس عندهم إلا علم قليل، وأنه لو فرض أن عندهم علمًا كثيرًا، فإن هذا العلم لم ينفعهم، فصاروا كالذي أوتي نصيبًا قليلًا من العلم.
قال ابن عاشور: وتنكير {نَصِيبًا} للنوعية، وليس للتعظيم؛ لأن المقام مقام تهاون بهم، ويحتمل أن يكون التنوين للتقليل. و {مِنَ} للتبعيض، كما هو الظاهر من لفظ النصيب، فالمراد بالكتاب جنس الكتب، والنصيب هو كتابهم، والمراد: أوتوا بعض كتابهم، تعريضا بأنهم لا يعلمون من كتابهم إلا حظا يسيرا، ويجوز كون من للبيان. والمعنى: أوتوا حظا من حظوظ الكمال، هو الكتاب الذي أوتوه.
وفيه أنه ليس كل من أعطي علمًا يوفق للعمل به.
{يُدْعَوْنَ إلى كِتَابِ اللَّهِ} والداعي لهم: هو رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن دعا بدعوته إلى يوم القيامة.
{لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} أسند الحكم إليه لأن الحكم صار به، ويضاف الشيء إلى سببه كثيرًا.
والحكم قد يكون فيما أنكروه واختلفوا فيه من صفاتك وشأن نبُوَّتك ورسالتك.
وأيضا الحكم في كتاب الله يكون في كل شيء؛ في العبادات والمعاملات والأخلاق والأعمال؛ لأنه لم يخصص منها شيء. ويتفرع على هذه الفائدة الرد على من قال: إن الشرع إنما جاء في تنظيم العبادات فقط. أما المعاملات فهي إلى الخلق واستدلوا لذلك بحديث تأبير النخل.
فروى الإمام مسلم «بَاب وُجُوبِ امْتِثَالِ مَا قَالَهُ شَرْعًا دُونَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ مَعَايِشِ الدُّنْيَا عَلَى سَبِيلِ الرَّأْيِ».
عن عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ مَرَرْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْمٍ عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ فَقَالَ مَا يَصْنَعُ هَؤُلَاءِ فَقَالُوا يُلَقِّحُونَهُ يَجْعَلُونَ الذَّكَرَ فِي الْأُنْثَى فَيَلْقَحُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَظُنُّ يُغْنِي ذَلِكَ شَيْئًا قَالَ فَأُخْبِرُوا بِذَلِكَ فَتَرَكُوهُ فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فَقَالَ: "إِنْ كَانَ يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ فَلْيَصْنَعُوهُ فَإِنِّي إِنَّمَا ظَنَنْتُ ظَنًّا فَلَا تُؤَاخِذُونِي بِالظَّنِّ وَلَكِنْ إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ اللَّهِ شَيْئًا فَخُذُوا بِهِ فَإِنِّي لَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ".
وفي رواية له أيضا: قَدِمَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وَهُمْ يَأْبُرُونَ النَّخْلَ يَقُولُونَ يُلَقِّحُونَ النَّخْلَ فَقَالَ مَا تَصْنَعُونَ؟ قَالُوا كُنَّا نَصْنَعُهُ قَالَ لَعَلَّكُمْ لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا كَانَ خَيْرًا فَتَرَكُوهُ فَنَفَضَتْ أَوْ فَنَقَصَتْ قَالَ فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ:"إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ دِينِكُمْ فَخُذُوا بِهِ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ رَأْيٍ فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ".
وفي رواية له عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِقَوْمٍ يُلَقِّحُونَ فَقَالَ لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا لَصَلُحَ قَالَ فَخَرَجَ شِيصًا فَمَرَّ بِهِمْ فَقَالَ مَا لِنَخْلِكُمْ قَالُوا قُلْتَ كَذَا وَكَذَا قَالَ: "أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ".
قالوا: فوكَّل علم أمور الدنيا إليهم، بل جعلهم أعلم منه بهذا؛ وعلى هذا فأمور الدنيا لا يتدخل فيها الشرع.
ولكن هذا فهم خاطئ، بل باطل؛ وذلك لأن أمور الدنيا إما «أحكام شرعية» كالتحليل والتحريم، فهذه مرجعها إلى الشرع، وإما «أمور فنية» تدرك بالتجارب والتعلم، فهذه مرجعها إلى أهل الخبرة. فكم من عالم عنده علم واسع غزير في أمور الشرع لا يستطيع أن يصنع بابًا ولا إبرة، ويأتي رجل جاهل من أجهل الناس ويستطيع أن يصنع بابًا من أحسن الأبواب، وإبرة من أحسن الإبر.
ومسألة التأبير مسألة فنية بلا شك، تدرك بالتجارب، والنبي عليه الصلاة والسلام كما نعلم ولد بمكة، ومكة ليست ذات نخل، ولا يعلم عن هذا شيئًا، فأهل المدينة الذين مارسوا التجارب في هذه الأمور، كانوا أعلم منه بذلك.
ولا يعارض هذا أننا نرجع إلى العرف في أمور كثيرة؛ لأنَّ الشرع هو الذي ردنا إلى العرف كما قال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}[النساء:۱۹]، {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ}[الطلاق:٢].
وفي الآية دلالة على أن من دعا خصمه إلى حكم الشرع لزمته إجابته، لأنه دعا إلى كتاب الله تعالى.
قال القرطبي: وإذا دعي إلى كتاب الله وخالف، تعين زجره بالأدب على قدر المخالِف، والمخالَف.
قال ابن حيان في البحر المحيط: وهذا الحكم جارٍ عندنا بالأندلس وبلاد المغرب، وليس بالديار المصرية.
قال ابن خويزمنداد المالكي: واجب على من دعي إلى مجلس الحكم أن يجيب ما لم يعلم أن الحاكم فاسق.
{ثُمَّ يَتَوَلَّى} التولي مجاز عن النفور والإباء، وأصله الإعراض والانصراف عن المكان {فَرِيقٌ مِنْهُمْ} لا كلهم؛ لأن بعضهم قد هُدي إلى نور الإسلام.
{وَهُمْ مُعْرِضُونَ} جملة حالية مؤكدة لأن التولي هو الإعراض، أو مبينة لكون التولي عن الداعي، والإعراض عما دعا إليه، فيكون المتعلق مختلفًا، أو لكون التولي بالبدن والإعراض بالقلب، أو لكون التولي من علمائهم والإعراض من أتباعهم، قاله ابن الأنباري.
والمعنى: وهو مصمم على عدم العودة إلى الحق، إنما قال ذلك لأن الإنسان قد يتولى لسبب طارئ، لكن في قلبه شيء من الإقبال. أما هؤلاء فإنهم متولون، وهم قد امتلئوا إعراضًا عن كتاب الله.
فالتولي مذموم كله وقد يكون عن إعراض وقد يكون عن غير إعراض، ولكن إذا كان عن إعراض وعدم مبالاة كان أشد.
وهذه الآية كقوله تعالى: {وَإِذَا دُعُوا إلى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ}[النور:48].
{ذَلِكَ} التولي والإعراض {بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} أيامًا قلائل؛ لأن كل معدود فهو قليل، ودليل ذلك قوله تعالى: {وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَّعْدُودٍ}[هود:١٠٤]، فكل شيء معدود فهو قليل؛ لأن شيئًا يمضي بالعدد، ولا بد أن ينتهي.
قال ابن عاشور: الإشارة إلى توليهم وإعراضهم، والباء للسببية: أي إنهم فعلوا ما فعلوا بسبب زعمهم أنهم في أمان من العذاب إلا أياما قليلة، فانعدم اكتراثهم باتباع الحق؛ لأن اعتقادهم النجاة من عذاب الله على كل حال جرأهم على ارتكاب مثل هذا الإعراض. وهذا الاعتقاد مع بطلانه مؤذن أيضا بسفالة همتهم الدينية، فكانوا لا ينافسون في تزكية الأنفس. وعبر عن الاعتقاد بالقول دلالة على أن هذا الاعتقاد لا دليل عليه وأنه مفترى مدلس، وهذه العقيدة عقيدة اليهود.
وقيل في الأيام المعدودات: أربعين يومًا، قدر عبادتهم العجل يوم غاب موسى عنهم لمناجاته ربه تعالى في جبل الطور، ثم يَخْلفهم المسلمون.
وفي البقرة: {وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً}[البقرة:80] وهنا: {معدودات}، وهما طريقان فصيحان تقول: جبال شامخة، وجبال شامخات.
{وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ} الغرور والخداع بمعنى واحد متقارب، أي انخدعوا في دينهم.
وفيه أن الإنسان قد يغره ما هو عليه من الدين؛ فيغتر بأنه يصلي ويزكي ويصوم ويحج، ثم يقول في نفسه: *لن أعذب*. وهذا قصور في النظر؛ لأنه ليس الشأن أن تصلي أو تزكي أو تصوم أو تحج، الشأن كل الشأن أن يقبل منك هذا العمل، فكم من عامل ليس له من عمله إلا التعب لوجود مبطل سابق أو لاحق. فالسابق كعدم الإخلاص مثلًا، واللاحق كالإعجاب بالعمل، والإدلال به على الله عزّ وجل، وأن يرى الإنسان لنفسه حقا على ربه.
وقد يبتلى الإنسان بالبدعة!! كم من أناس يحبون الخير وعندهم رغبة ومحبة الله ورسوله، ولكن لجهلهم يبتدعون في دين الله ما ليس منه فيكون عملهم مردودًا؛ لأن من شرط قبول العمل أن يكون موافقًا لما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ"[رواه مسلم عن عائشة].
{مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} قال مجاهد: الذي افتروه هو قولهم: {لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ} وقال قتادة: بقولهم: {نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ}[المائدة:18] وقيل بقولهم: {لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى}[البقرة:111] وقيل: مجموع هذه الأقوال.
فهذه الدعوى اليهودية ما هي إلا فرية افتراها علماؤهم ليهونّوا عليهم ارتكاب الجرائم وغشيان عظائم الذنوب، كما حصل للمسلمين في القرون المظلمة من تاريخ الإِسلام حيث أصبح مشايخ التصوف يُدَجِّلون على المريدين بأنهم سيستغفرون لهم ويغفر لهم.
قال ابن عاشور: وقد أخبر الله تعالى عن مفاسد هذا الغرور والافتراء بإيقاعها في الضلال الدائم، لأن المخالفة إذا لم تكن عن غرور فالإقلاع عنها مرجو، أما المغرور فلا يترقب منه إقلاع. وقد ابتلى المسلمون بغرور كثير في تفاريع دينهم وافتراءات من الموضوعات عادت على مقاصد الدين وقواعد الشريعة بالإبطال.
وفيه أن أفسد شيء للأديان بعقائدها وشرائعها وعباداتها الافتراء فيها والابتداع عليها والقول فيها بغير علم.
وفيه أن النفس قد تمني الإنسان ما لا يكون؛ وتحذير الإنسان أن يتكل على الأماني؛ لأن هذا من صنع اليهود والنصارى وكثير من العامة الآن يقعون في المعاصي، ويمنون أنفسهم بالمغفرة إذا وقعوا في المعصية. صحيح أن الله غفور رحيم، لكن الله قال أيضًا: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ}[الحجر:٤٩-٥٠].
فيتمنى بعض العاصين الأماني ويقول: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ}[النساء:٤٨]، فهو يريد أن يزني ويسرق ويشرب الخمر ويعمل كل شيء دون الشرك، ثم يقول: إن الله يقول: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ}، وهذا خبر من الله عز وجل وهو أصدق القائلين!!فنقول: اقرأ الآية، لا تكن أعمى، أو أعور لا تنظر إلا بعين واحدة. فالله يغفر ما دون ذلك لمن يشاء، ومن لا يشاء لا يغفر له، وأنت لا تجزم بأنك ممن شاء الله أن يغفر له، إذن أنت على خطر، على أن الذي يستخف بالمعصية، ويُلبس على نفسه وعلى الناس، قد يكون ممن لا يشاء الله أن يغفر له -والعياذ بالله- لأن هذا مستهتر مستهين.
وفيه أن هؤلاء يؤمنون بالبعث ولكن لم ينفعهم الإيمان؛ لقولهم: {لَن تَمْسَنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} ويتفرع على هذا أنه لا يكفي في الإيمان أن يؤمن الإنسان بوجود الله، وباليوم الآخر، دون أن يستلزم هذا الإيمان قبولًا وإذعانًا، فمجرد التصديق لا يعتبر إيمانًا، ودليل هذا نصوص كثيرة منها: أن أبا طالب عم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقر بأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبي حق، ومع ذلك لم ينفعه هذا الإقرار؛ لأنه لم يصحبه قبول وإذعان. وختم له في الآخر -والعياذ بالله- بأنه قال: هو على ملة عبد المطلب، ولكن نظرًا لما حصل منه من دفاع عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذن الله لنبيه محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يشفع له، فشفع، فكان في ضحضاح من نار، وعليه نعلان يغلي منهما دماغه أبد، وهذا أهون أهل النار عذابًا، ولم نعلم أن كافرًا نفعت فيه الشفاعة على الإطلاق، بمعنى أنه سلم من العذاب أبدًا، ولم نعلم أن كافرًا خفف عنه العذاب بالشفاعة إلا أبا طالب.
فروى البخاري عَنْ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ أَبَا طَالِبٍ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ دَخَلَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ أَبُو جَهْلٍ فَقَالَ: "أَيْ عَمِّ، قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ" فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: يَا أَبَا طَالِبٍ تَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَلَمْ يَزَالَا يُكَلِّمَانِهِ حَتَّى قَالَ آخر شَيْءٍ كَلَّمَهُمْ بِهِ: عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْهُ" فَنَزَلَتْ {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} وَنَزَلَتْ: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}.
وروى أيضا عن الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَغْنَيْتَ عَنْ عَمِّكَ فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لَكَ؟ قَالَ: "هُوَ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ، وَلَوْلَا أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرَكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ".
وروى أيضا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذُكِرَ عِنْدَهُ عَمُّهُ فَقَالَ: "لَعَلَّهُ تَنْفَعُهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُجْعَلُ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ النَّارِ يَبْلُغُ كَعْبَيْهِ يَغْلِي مِنْهُ دِمَاغُهُ".
{فَكَيْفَ} استفهام للتعجب من حالهم، واستعظامه لعظم مقالتهم حين اختلفت مطامعهم، وظهر كذب دعواهم، إذ صاروا إلى عذاب ما لهم حيلة في دفعه.
وهذا الاستفهام لا يحتاج إلى جواب، وكذا أكثر استفهامات القرآن، لأنها من عالم الشهادة، وإنما استفهامه تعالى تقريع وتوبيخ.
{إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ} اللام تأتي بمعنى «في» ويسمونها لام التوقيت، ومنها قوله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ}[آل عمران:9] وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}[الطلاق:١] أي: في استقبال عدتهن
{لَا رَيْبَ فِيهِ} لا شك في وقوعه، أي يوم القيامة، وهذا تهويل لشأنهم، واستعظام لما يحيق بهم.
{وَوُفِّيَتْ} يعني أعطيت. ومنه قولهم: وفاه حقه، أي: أعطاه حقه وافيًا
{كُلُّ نَفْسٍ} من البشر والجن، يعني من المكلفين الذين أمروا ونهوا، فهم الذين يوفون أجورهم. أما من لم يتوجه إليه أمر ولا نهي، فإنهم يجمعون يوم القيامة، ولكن ليس لهم أعمال يجازون عليها، فلا يشملهم الحساب.
{مَا كَسَبَتْ} من خير أو شر.. الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة. وأما في الشر فتوفى السيئة بمثلها إن لم يعف الله، أو تكن لها أعمال صالحة تكفر عنها هذه السيئات. فجزاء الله -عزّ وجل- وتوفيته للأعمال دائر بين الفضل والعدل، فالفضل لأهل الخير، والعدل لأهل السوء.
وفيه أن يوم التوفية الكاملة هو يوم القيامة؛ لقوله: {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} والإنسان قد يوفى شيئًا من عمله في الدنيا، كما قال الله تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِب}[الطلاق:٢-٣] مخرجًا من كل ضيق، وسعة في الرزق، ويرزقه من حيث لا يحتسب، هذا في الدنيا وهذا جزاء.
وهناك جزاء آخر أعظم وأنفع وهو «الهدى» قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ}[محمد:١٧]؛ لأن الهدى إذا زاد الله الإنسان منه انشرح صدره واستنار قلبه واطمأن، وصارت التقوى عنده أسهل من كل شيء، وصارت الأعمال الصالحة رياض قلبه وسرور نفسه، ولهذا قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ"[أحمد]، والمؤمن كل الأعمال الصالحة قرة عينه؛ لأنه يشعر في كل عمل صالح بأمرين عظيمين:
الأمر الأول: أنه يتعبد الله بالعمل الصالح، فيزداد ذلا لربه ومحبة له، وإنابة إليه.
الأمر الثاني: أنه بذلك متبع لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهو يشعر حين فعل العبادة أن إمامه محمد، فيزداد محبة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتعظيمًا لقوله، وتعظيمًا لهديه وسنته. وهذا أعظم كسب؛ أن يحصل لك هذا الأمر في العبادة والتقوى.
{وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} بنقص حسناتهم إن كانت لهم حسنات، ولا بالزيادة في سيئاتهم وما لهم إلا السَّيئات. فإن من أوفى غيره حقه فإما أن يوفيه بالفضل أو بالعدل أو بالجور، والجور -وهو الظلم- ممتنع على الله؛ لقوله تعالى: {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}[الكهف:٤٩]، {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}[فصلت:٤٦]، {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا}[طه:112].
وفي الحديث القدسي أن الله تعالى قال: "يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا"[مسلم].
وانتفاء الظلم عن الله سبحانه وتعالى هو من «الصفات السلبية»، ويكون نفي الظلم لكمال العدل، فنأخذ من هذا قاعدة مفيدة في باب الصفات، وهي أن: «كل صفة نفاها الله عن نفسه، فإنما يراد بها ثبوت كمال الضد».
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد