الأستاذ الداعية عصام العطار


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

 

رحمَ اللهُ الزعيمَ الذي عُرضَت عليه أعلى المناصب في سوريا فرفضَها، واختار أشرفَ المواقع وأعظمها أجرًا عند الله وأكثرَها تأثيرًا في الناس، منبرَ المسجد، فكان خطيبًا مفوّهًا لم تعرف منابرُ الشام أصدقَ لهجةً ولا أعظم تأثيرًا منه.

داعيًا إلى الله على بصيرة، صادعًا بالحق، لا يخافُ في اللهِ لومةَ لائم، فكان له في الخمسينيات صولاتٌ وجولات على منبرِ مسجد جامعة دمشق، ولم يتجاوز آنذاك عقده الثالثِ من عمره. وكانت الشوارعُ تعجُّ بالمصلين حول المسجد يأتونه من معظم محافظات سوريا ليسمعوا هذا الصوتَ المُجلجِل يصدعُ بأصدق الكلام، وأحسنِ الحديثِ وبأبلغ أسلوب مما يحاكي الواقع، ويلامسُ حاجاتِ الناس، ويحرّك المشاعر، وينفُذُ بسرعةٍ إلى القلوب.

انتشرت أشرطةُ خُطَبه في أرجاء العالم الإسلامي، وكتبَ اللهُ له القبول بين الناس في معظم بلدانها، لكنه تعرض لكل أشكال الظلم والاضطهاد في بلده، وظلّ شامخًا صابرًا مُحتسبًا، إلى أن طُردَ من وطنه سنة ١٩٦٤ لما ذهبَ للحج إلى بيت الله الحرام فمنعوه من العودة، فطلبَ الدخول ولو إلى السّجن فرفضوا، فبدأ رحلةَ الهجرة إلى الله، واستمر في كل المواقع قائمًا بدعوته بلسانه وقلمه ومنبره، فكان من أعظم الناس تأثيرًا على أبناء شعبه، فحاولوا إسكاتَه بقَتلهِ ولم يُفلحوا، فقَتَلوا زوجته بنان علي الطنطاوي رحمها الله تعالى.

وحاولَ أن يطعنَ به الطاعنونَ من الإخوان في خاصرته لينتزعوا منه لقبًا لم يكُن مثلُه حريصًا على مثلِه، وهو في أصعب أحواله وأشدّ أمراضه، فلم يلتفت إليهم، وأبى أن يفتح جبهةً مع إخوانه، فأثبتَ أنه لم يكُن متحزبًا لجماعة إلا لأمته، ولا متعصبًا إلا إلى لدينه، أثبتَ بذلك أصالته ونُبلَ أخلاقه، واستقامته على مبادئه.

كان حريصًا -منذ نشأته- على اتباع الكتاب والسنة والتفقه بهما، والدعوةِ إلى هذا المنهج بالحكمةِ والموعظة الحسنة، أديبًا بليغًا شاعرًا، وكان ذا مشاعرَ مرهفة، وعاطفةٍ جياشة، روحَه وثّابة، متسقًا مع ذاته، أدبَه جم، ويهمهُ الكيفُ لا الكم، إنسانيته مُفرطة، وابتسامته حانية، وكان سياسيًا كبيرًا بارعًا، يهتمّ كثيرًا بشؤون أمته، ويعرف متطلبات عصره.

له كلمتُه المشهورة في خُطَبه: (من الجذور يجبُ أن نغيّر هذا الواقع)، أحبَّه كل من عرفه عن قُرب، وأثنى على دماثة خُلُقه، ولين عريكته، وشهدَ بسعة اطلاعه كلُّ من خالطه وتعامل معه.

وصفه عمُّه الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله بقوله: *خطيبٌ بليغ مِصْقَع، صارَ نابغةَ الخُطَباء. وأخي وولدي وأحد الفرسان الثلاثةِ مع زهير الشاويش ومحمد بن لطفي الصباغ*.

أشهد أن شيخنا الألباني رحمه الله كان يثني عليه ويذكره دائمًا بالخير والفضل، سمعتُه يقول عنه أنه سلفي المنهج، وكان يفاخر بأن العطارَ من تلامذته، أتيتُهُ في العيد مرةً فسمعتُه ممتنًا له بالتواصل معه على الهاتف، وكان العطار يعرف قدرَ شيخنا بالرغم من كل أعدائه الصوفيين والمبتدعة في سوريا. فكان سببًا في إشراك شيخنا بمعسكرات شباب الإخوان والتأثير بهم ونشر الدعوة السلفية بينهم.

وكان يتدارس في مجلس خاص مع عمي د. محمد أمين اللبابيدي في دمشق، بعضَ كتب اللغة والأدب وأحاديثَ البيوع، كما أخبرني عمّي بنفسه، رحمهم الله جميعًا.

وكان -مع الشيخ زهير الشاويش- هما من طلبا من شيخنا تخريجَ وتحقيق بعض الكتب النافعة، وأهمها كتاب منار السبيل، فصدر كتاب (إرواء الغليل) في ثمانية مجلدات والذي يعرف عظيمَ قدره طلاب العلم، جعلها الله في ميزان حسناتهما رحمهما الله.

كان وفيًا لمشايخه وأصدقائه وإخوانه وتلامذته، دائمَ التواصل بهم، كثيرَ السؤال عنهم بالرغم من مرضه الذي أقعده لسنوات عديدة، أذكر اتصاله بي من ألمانيا ومكالمته الرقيقة التي كانت بلسمًا لقلبي لما اتصل بي سنة ١٩٨٩ م معزيًا بوفاة والدي رحمه الله ومادحًا له ولمواقفه وللأُخوة التي كانت بينهما، وذكرني بقوله تعالى: {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا}.

كان من شعره -رحمه الله-:

وما الحياةُ سوى حُلْمٍ ألمّ بنا                    قد مرّ كالحُلم ساعاتي وأيامي

لولا يقيني بربي لا شريكَ له                   لَمَا حسبتُ حياتي غير أوهامِ!

وها هو قد أدركهُ الموت في ليلة الجمعة، بعيدًا عن أهله ووطنه، مهاجرًا إلى الله ورسوله، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا مَاتَ فِي غَيْرِ مَوْلِدِهِ قِيسَ لَهُ مِنْ مَوْلِدِهِ إلى مُنْقَطَعِ أَثَرِهِ فِي الْجَنَّةِ".

 فهذه شهادتنا فيه والله حسيبه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: " أنتم شُهَداءُ اللَّهِ في الأرْضِ".

 أسأل الله أن يتقبلَ عملَهُ وهجرتَه، وأسأله تعالى أن يجمعنا فيه مع حبيبه في الفردوس الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وأن يعوض الأمة خيرًا، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

فجر الجمعة ٢٣ شوال ١٤٤٥ للهجرة، الموافق ٣/ أيار/ ٢٠٢٤ م.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply