بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
بعد أن أجاز مجمع اللغة في القاهرة استعمال لفظ (مبروك) في التهنئة بمعنى (مبارك) عزمتُ على ردِّ حكمهم وتفنيد أدلتهم فكانت هذه الرسالة سائلًا اللهَ أن يظهرَ الحقُّ بها.
ودليل المجمع ومن وافقه في إجازتها أنه سُمع عن العرب قولهم: طعامٌ بريك، فاشتقاق (فعيل) يدل على وجود ما اشتُقَّت منه، فدلَّ ذلك على أن الفعل (برَكَ) بمعنى (بارك) موجود في اللغة، ومنه اشتقت الصفة (بريك) ولما جاز أن يشتق منه (بريك) جاز ولا بدَّ أن يشتقَّ منه (مبروك).
قلت:
فقد بنوا حكمَهم هذا على ثلاثة أصول فاسدة:
الأول: أنهم زعموا وجود الفعل (بركَ) بمعنى (بارك) في اللغة، وقد أجمعَ أهل الصرف على أن الفعل (بركَ) أغنى عنه (باركَ) فهو غير موجود ولا يصح استعماله، وقد نقلتُ إجماعهم في هذه الرسالة بعون الله.
والثاني: أنهم ادَّعوا أن (فعيل) لا تُبنَى إلا من الثلاثي المجرد (فعلَ) وقد أجمع أهل الصرف على خلاف هذا.
والثالث: زعمهم أن كل ما اشتقَّ منه (فعيل) جاز أن يشتق منه (مفعول)، وهو باطل بدليل أنه لا يصح أن تقول في (مريض) (ممروض) ولا في (جميل) (مجمول) وغير ذلك من الأمثلة كثير.
فأمَّا إغناء الفعل (باركَ) عن (بركَ) فهو مجمَعٌ عليه لا خلاف فيه، وقد فرق أهل الصرف في اصطلاحهم بين الموافقة والإغناء، فالموافقة تعني اعتدال الصيغتين في صحة الاستعمال، والإغناء يعني العدول عمًّا أغنيَ عنه إلى ما أغنى، حتى لا يصحُّ استعمال الصيغة الأولى ويجبُ استعمال الثانية التي أغنت عنها.
قال المرادي :وإغناء (فاعلَ) عن المجرد، نحو: قاسى، وبالى، وباركَ اللهُ فيك. 1
قلت: يريد أن (فاعلَ) أغنى عن الثلاثي المجرد (فعلَ) في بعض الأفعال، منها (قاسى) كما في قولنا: قاسى زيدٌ هذه الشدة، فلا يقال في مثل ذلك (قسا)، ومنها (بالى) من المبالاة، فيقال: لا أبالي بأمره، ومنها الفعل (بارك) فلا يصح أن يقال: برك الله فيك.
وقال ناظر الجيش :والذي لموافقة المجرد: كـ جاوزتُ الشيءَ وجزته، وسافرت وسفرت، وواعدته ووعدته.
والمغني عنه: نحو: قاسى، وبالى به، وبارك الله فيه. 2
قلت: يريد أن (فاعلَ) توافق المجرد (فعلَ) مثل الفعل (جاوزَ) فإن له معنى الفعل (جازَ) نفسه، فهما متوافقان، ثم قال في الإغناء ما قاله المرادي.
وقال خالد الأزهري :ولموافقة (فاعلَ) المجرد، نحو: {واعدنا} و{قاتلهم الله}، أي: وعدنا، وقتلهم الله.
والإغناء عنهما، أي: عن أفعل والمجرد، مثال الإغناء عن (أفعلَ): (واريتُه) فإنه أغنى عن أن يقال: أوريته، بمعنى: أخفيته، ومثال الإغناء عن المجرد: (بارك الله فيك) فإنه أغنى عن (برك). 3
وقال محمد بن العباس التلمساني :ويغني (فاعلَ) عن المجرد كَـ باركَ الله في أعمالنا. 4
وقال محمد بن عيسى السليلي :ولموافقة (فاعلَ) المجرد: جاوزتُ الشيءَ وجزته، وللإغناء عنه: بارك الله فيك. 5
وقال ابنُ أبي القاسم السجلماسي :كذاكَ قد أغنى عن المجرَّدِ.. كباركَ اللهُ لنا في العددِ
أي: إن (فاعلَ) أغنى عن فعل الثلاثي المجرد من الزوائد، كما أغنى عن أفعلَ ذي الهمز، أي: سُمع (فاعلَ) في بعض المواد دونَ (فعلَ) المجرَّد. نحو: بارك الله فيك، وقاسى زيد هذه الشدة. ولم يُذكر من هذا المعنى (بركَ) ثلاثيًّا مجردا. 6
وقال الآقشهري:
باب فاعلَ: واعلم أن هذا الباب يجيء لمعان أُخَر، كالصيرورة، نحو: عافاك الله، أي: صيرك ذا عافية، والتكثير نحو: ضاعفته، وللإغناء عن (أفعَلَ) نحو: واريته، والإغناء عن (فعلَ) نحو: بارك الله فيك. 7
قلت: ومما تقدَّم نعلم أن استعمال (مبروك) لا يصح لأن فعلها (يُبرَك) غير مستعمَل إذ أغنى عنه الفعل (يُبارَك) فوجب أن يكون بناء المفعول منه على وزن (مفاعَل).
قال ابن يعيش: ولا يجوز أن يبنى *مفعول* إلا مما يجوز أن يُبنى منه (يُفعَل) لأنه جارٍ عليه. 8
قلت: وأما قولُهم: (طعامٌ بريك) فيُخرَّج على وجهين: الأول: أنه بمعنى (طعام ذو بركة)، والثاني: أن الصفة المشبهة (بريك) جاءت بمعنى اسم المفعول من فوق الثلاثي، أي: طعامٌ مبارَك، كما ذكروا هذين الوجهين في معرض تفسير قوله تعالى: {تلك آيات الكتاب الحكيم}.
قال الفخر الرازي في تفسير قوله تعالى: {تلك آيات الكتاب الحكيم): إن من وجوه (الحكيم) أن تكون بمعنى (ذي الحكمة) لاشتماله عليها، وأن تكون بمعنى (المُحكَم) والإحكام معناه المنع من الفساد. 9
قلت: فمجيء (فعيل) من فوق الثلاثي واردٌ ولا خلافَ فيه، ومنه قول النمر بن تولب:
وأبغض بغيضَكَ بغضًا رويدا *** إذا أنت حاولتَ أن تحكما
فقوله (بغيض) بمعنى اسم المفعول (مُبغَض) من الفعل الرباعي (أبغض).
وقد أجمعوا على مجيء فعيل من فوق الثلاثي.
قال الرضي: وقد يجيء (فعيل) بمعنى (مُفعَل) قليلًا كالذكر الحكيم، أي المحكَم على تأويل، وبمعنى مفاعل كالجليس والحليف. 10
وقال تقي الدين الفارسي:
وزن فعيل قد يجيء بمعنى فاعل كالرحيم بمعنى الراحم، وبمعنى مفعول كالقتيل بمعنى المقتول، وبمعنى مفاعل كالحليف بمعنى المحالف، والجليس بمعنى المجالس، والأكيل بمعنى المؤاكل، وبمعنى مفعَل كالحكيم بمعنى المحكَم. 11
وجاء في حاشية القونوي على تفسير الإمام البيضاوي في تفسير قوله تعالى: {إني معكم رقيبٌ} منتظر:
قوله: (فعيل بمعنى الراقب كالصريم) ذكر لفعيل ثلاثة معانٍ وقدَّم هذا إذ كون فعيل بمعنى فاعل كثير شائع فلا حاجة إلى الاستشهاد بقوله كالصريم، أي بمعنى الصارم.
قوله: (أو المراقِب كالعشير) أي الفعيل بمعنى المفاعِل، ولقلِّته يحتاج إلى الاستشهاد بقوله: كالعشير بمعنى المعاشر.
والحمد لله أن وفَّقني لبسط الأدلة على تفنيد حجتهم في هذه الرسالة.
والله تعالى أعلم
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
1- شرح التسهيل: 1/268
2- تمهيد القواعد: 5/192
3- موصل النبيل إلى نحو التسهيل: 2/295
4- تحقيق المقال وتسهيل المنال: 243
5- شفاء العليل في إيضاح التسهيل: 2/247
6- مفتاح الأقفال: 321
7- تلخيص الأساس في التصريف: 160
8- شرح المفصَّل: 4/104
9- التفسير الكبير: 4/527
10- شرح الرضي على الكافية: 3/333
11- الزبدة في الصرف: 50
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد