من إبداعات خالد القرشي النثرية 2


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

في مقال سابق تم عرض نماذج من إبداعات الكاتب الناقد خالد بن سفير القرشي النثرية، وفي هذا المقال عرض لنماذج أخرى.

يقول الكاتب الناقد خالد بن سفير القرشي:

شكرًا لكل وقحٍ مررت به في حياتي أو مر بي؛ فمنه عرفتُ شؤم اللؤم، وشامة اللئيم، ولحن قوله.

شكرًا لكل سيءٍ احتجب في أوزار سوئه عني وعن الناس؛ ولم يوقعها بغافل منا أو بريء.

وشكرًا لكل صامتٍ لم ينطق بشرٍ .. وهو القادر عليه.

وشكرًا لكل معضلةٍ لم تعترض طريقي وطريق عباد الله؛ فبلغنا الغاية والمقام المحمود.

وشكرًا لكل طائلةٍ كفَّت يدها عني وعن المسلمين.

وشكراً لكل رامٍ علمته الرمي؛ فلما اشتد ساعده شاح بقوسه ونبله عني وعن معلميه؛ ولم يجعلنا غرضاً من أغراض رمايته، ولا هدفاً من أهدافه.

وشكراً لكل الأنفاس الحانقة؛ المحبوسة حياءً وإجلالا، وهي أحواج ما تكون إلى تنفس الصعداء.

شكراً لكل بسمةٍ أخفت ندما.

ولكل عينٍ حبست دمعة.

ولكل وجهٍ جميل وارى شكاية.

ولكل مبسمٍ حسنٍ لم تغيِّر القبائح والأحزان محاسنه.

ولكل علاقةٍ فاضلةٍ ظلت على قيد المحبة والفضل والاتصال؛ ولم تلتفت إلى دواعي القطع ولم تستجب لنداءات القطيعة.

وشكراً لك يا الله وحمداً كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك؛ أن مننت علينا مرة، تلو مرة، تلو ثالثة، وماتزال مننك تتصل بنا وتترى.

هوية الإنسان:

يقول الكاتب الناقد خالد بن سفير القرشي:

أكاد أجزم؛ أن هوية الإنسان لم تضطرب طيلة أيام الدنيا، مثل اضطرابها هذا العصر، ولم يلحقها الارتباك قط، كما لحقها هذا الزمان، إذ أن رسوخها وثباتها في سالف الأزمان، سببه رسوخ المبادئ، وعمق الانتماءات، ومتانة الوجود الذي أثمرها، وقوة المقدمات المنطقية التي بُنيت عليها .. فلما صار الإنسان إلى هذا الزمن المتسارع، وتورط منطقه في مقدمات جوفاء، وارتكست نفسه في انتماءات متحركة متقلبة سيالة، واجتالته المادية المارقة، واحوجته وساوسه إلى وجود رمادي مشنوق؛ لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء؛ اضطربت هويته، وارتبك وجوده، وتزيَّفت انتماءاته؛ فصارت سؤالات الهوية تحيط به من كل جانب؛ فطفق إلى عقدٍ واهيةٍ زائفة؛ ينفث فيها؛ ظناً منه أن نفثات الوهن، وأن السعي وراء السراب، سوف يمنحه هوية راسخة أو أنه سوف يورَّث أبناءه هوية ذكية قادرة على إجابة كل أسئلتهم الوجودية!

تلطف ابن حزم في طوق الحمامة:

يقول الكاتب الناقد خالد بن سفير القرشي:

تلطف ابن حزم -عليه رحمة الله- في  طوق الحمامة  غاية اللطف، وأفاض فيه طبائعه اللطيفة، وجاء إلى الحب من كل زواياه، وتتبع مسالكه وتجلياته وأسباب انبساطه وانقباضه.

حتى بلغ به اللطف إلى قول غاية في الدقة، لا يتذوقه إلا عارفٌ محبٌ معتدلٌ بصير، وهو قوله : (ومن علامات الحب، علامات متضادة، والأشياء إذا أفرطت وقفت في انتهاء حدود اختلافها وتشابهت؛ فالثلج إذا حبس في اليد فعل فعل النار، والضحك إذا كثر واشتد أسال الدمع من العينين، فنجد المحبين إذا تكافيا في المحبة وتأكدت بينهما تأكيداً شديداً أكثر بهما جدهما وتضادهما في القول تعمداً، وخرج بعضهما على بعض في كل يسير من الأمور، وتتبع كل منهما لفظة صاحبه وتأولها على غير معناها؛  ليبدو ما يعتقده كل واحد منهما في صاحبه).

انظر اللطف الفريد، والنظر الاستثناء، وشاهد الحب المتنكر في عباءة ضده، رجاء أن تعتدل مع من تحب، ولا تسيء الظن به؛ فالحب إذا بلغ اليقين صار إلى الشك، وإذا سكن اضطرب، وإذا ارتوى غشاه الظمأ.

والذي أحسبه، أن غالب اختلافات المحبين، في هذا الزمان، سببها هذا المزلق، وهذه الزواية، فالغلو -فيما أحسب- سمة من سمات هذا العصر؛ لأن العلاقات ظاهرة، والمقارنات قائمة على سوقها، والنفوس لا تخلو من ضعف وهشاشة، فيسبق إليها التطرف، ويحيق بها الغلو، فتعمد إلى المقالة أعلاه، رجاء التثبت، ومخافة التحول إلى غير ما تعودت.

فلا يكن في صدرك حرج من تكرار شهادة الحب لمن تحب، واستمسك بعروته الوثقى، وإن جادلتك صاحبتك فقل لها : أحبك؛ لتشرق نفسها، وتستعيد روحها؛ وإياك إياك وقول مقولة ناقضة له؛ تمعن في غروبها أو تغري بها الظنون.

ومسائل الحب شائكة؛ ليست كما تظن، بل هي كما قال صاحب #طوق_الحمامة وها هو بين يديك؛ فتأمله.

وصف الصديق:

يقول الكاتب الناقد خالد بن سفير القرشي:

يقول ابن الخطيب واصفا صديقه ابن خلدون -رحمهما الله رحمة واسعة- بعد صداقة استمرت أكثر من (١٥) سنة : (رجل فاضل، حسن الخلق، جم الفضائل، باهر الخصال، رفيع القدر، ظاهر الحياء، أصيل المجد، وقور المجلس، خاصِّي الزي، عالي الهمة، عزوف عن الضيم، صعب المقادة، قوي الجأش، طامح لقنن الرياسة، خاطب للحظ، متقدم في فنون عقلية ونقلية، متعدد المزايا، سديد البحث، كثير الحفظ، صحيح التصور، بارع الحظ، مغري بالتجلة، جواد الكف، حسن العشرة، مبذول المشاركة، عاكف على رعي خصال الأصالة، مفخرة من مفاخر التخوم المغربية).

احذر هؤلاء:

يقول الكاتب الناقد خالد بن سفير القرشي:

إذا رأيت الرجل يسخر من الرجال النبلاء وينتهج الاستهتار والاستخفاف في حديثه، ويعيد في نهجه ويزيد؛ فاعلم أنه نذير شر، ومن دعاة الفتنة، ومن أرباب الشقاق ومساوئ الأخلاق.

الروح والجسد:

يقول الكاتب الناقد خالد بن سفير القرشي:

لأن الروح إذا انكشفت غاية الانكشاف؛ حاول الجسد إلباسها لباساً يواريها استبقاءً لتوهجها؛ خشية الانطفاء، وامضاءً لكبريائها؛ خوف الامتهان؛ فتراه يأمر الشفتين فتبتسم في الحزن المغرق، ويأمر العينين فتدمع في الأفراح الغامرة .. الجسد يراوغ إجلالاً للروح التي تحمله.

مخالفة عقلية غاية في المقت:

يقول الكاتب الناقد خالد بن سفير القرشي:

ادعاء الإنسان الربوبية لنفسه أو لأحدٍ من الخلق، مخالفة عقلية غاية في المقت، لما تنطوي عليه من مخالفة أصل الخلقة الإنسانية، إذ أن طينة الإنسان معجونة بحب التشارك، ومجبولة على التخلق به...  فلا سواء عقلي ولا فطري إلا بمشاركة الإنسان أخاه الإنسان؛ ولا يمكن تصور حياة إنسانية مستقلة بذاتها استقلال الأرباب!

وأوضح ما ترى هذا السواء، عند مخالطة أصحاب  السمو الإنساني، من الشعراء و الأدباء، وأهل الفن وأرباب  المهن وأصحاب المهارات الإنسانية  المختلفة،  إذ أن سموهم  الإنساني، الذي  بلغوه، عمَّق من محبة مشاركتهم الآخرين؛ فترى الواحد منهم لا غناء له عن مخالطة الناس والأنس بهم، وإن طلب التفرد  بنفسه، فإنما  يطلبه لصقل موهبته، ليعود بحالة أجدر  بالمشاركة، وأدعى للقبول.

ومن مفارقات سمو النفس الإنسانية، أنها تطلب  التفرد،  طلبا  في تفردها في الموضوع، لا طلبا  في تفرد الذات؛  لأن طلب تفرد الذات نقيض  الإنسانية،  ومنشأ خطيئة إبليس، التي أوجبت عليه لعنة الله،  ولأن  سمو  الإنسان لا يثمر ما  يناقض إنسانيته، بل  يثمر ما يعمقها ويروي غراسها ويصقل فطرتها.

ولهذا، يكرر الفلاسفة  قولهم : "الفن : ابن الدين".

ولهذا  أيضا، انتهى الفيلسوف المجاهد علي عزت  بيغوفيتش رحمه  الله، في كتابه *الإسلام  بين الشرق والغرب* إلى قوله : إن الفن في بحثه عما هو  إنساني، أصبح باحثُا عن الله!

يقول الكاتب الناقد خالد بن سفير القرشي:

أقل ما تكون حيلة الإنسان، عندما تماثل حالته الجوَّانية حالةً برانية، كالقلوب المسترخية لحظة الغروب!

هذا من حيث تماثل الانطفاء.

وأما تماثل الوهج، فلا أوضح من ملاقاة الغضبان لغضبانٍ مثله، انظر إلي اشتعال الرعونة فيهما، وإلى قلة قدرتهما على التعقل، وإلى استباقهما مهاوي الردى!

بخلاف الغضبان عند ملاقاة الحليم الحنَّان.

ومن وعى هذا التماثل وأثره النفسي استفاد في سياسة نفسه وسياسة الآخرين.

فإن نازعتك قواك الجوانيَّة إلى نازعةٍ وأردت اندفاعها؛ فقابلها بخلافها؛ كمن يقابل أوار النار بالماء المدرار؛ يريد اندفاعها.

وإن لقيت عاشقاً تضطرم في جوفه نيران عشقه؛ فلا تبتدره بالتأنيب والتبكيت، إياك إياك أن تفعل؛ وإياك أن تلهب وجدانه بسياط الوعظ وأقاويل الحكمة؛ فلا هي بالحكمة ولا أنت إليها.

وإن أردت صلاحه والنهج الذي يصلح عليه؛ فخذه بمواعيد العفو واذهب معه مذاهب الأمل، وامدد الآمال بين يديه مدا، وابسط الأرض والآفاق أمام ناظريه بسطا، وازرع تحت قدميه تباشير وصاله، وافض محاسن الظن على فلذة كبده؛ حتى يعتدل مزاجه، ويرتد إليه وعيه؛ فيلين للنصح وينقاد.

 ولا تلقَ العذاب بعذابٍ يماثله، ولا البؤس ببؤسٍ يعانقه؛ فتزيد الطين بِلَّة والأمور تعقيدا وسوءا.

وكن كالسماء كلما أبدت إليها الأرض عطشا؛ أفاضت عليها عمائم المطر؛ حتى تمتلئ أوديتها بالرحمة؛ فتفيض بالحياة والسعادة، وبأسباب السعة واليَسَار شغافها.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

المراجع :

هذه المقالات بنصها مما كتبه الكاتب الناقد خالد بن سفير القرشي في حسابه.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply