مفارقة التسامح


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

مفارقة التسامح – محمود أبو عادي

في كتابه "المجتمع المفتوح وأعداؤه" يلتقط الفيلسوف النمساوي الشهير كارل بوبر، مفارقة فلسفية وعملية مهمة يُسمّيها:

مُفارقة التسامح  Paradox of tolerance

بحسب بوبر، فإن التسامح غير المشروط مع جميع الأفكار والآراء لا بد وأن يُفضي تلقائيًا إلى اختفاء التسامح، أي أنّ أعتى الأنظمة العالمية تسامحًا لا بد وفي نهاية المطاف أن تُطالب بحقّها في "عدم التسامح" مع مَن هُم "ضد التسامح".

ما يستشكله بوبر على المجتمعات التي تدّعي القيم الليبرالية المطلقة والانفتاح غير المشروط مع الآخرين، هو أنّ "التسامح والتعدّدية" كفكرة مُقدّسة أو كقيمة أخلاقية مُطلقة بحدّ ذاتها، هي قيمة مأزومة بُنيَويًا وساقطة عمليًا، لأنّه ومن أجل حماية هذه القيمة، لا بد على المجتمع الليبرالي أن يُمارس قدرًا من اللاتسامح مع أولئك الذين لا يتسامحون مع فكرة التسامح.

في النُكتة التي يرويها سلافوي جيجك، حول المساواة المُزيفة والمَيل العُصابي للمِزاج الرأسمالي للعالم نحو خلق فروقات طبقية وعنصرية داخل حتّى أكثر الأنظمة أخلاقية، يروي:

في يوم السبت وفي أحد المعابد اليهودية (كنيس)..

يأتي الحاخام ويقول: إلهي! من أنا لأقف بين يديك، أنتَ العظيم وأنا نكرة لا شيء!

ثمّ يأتي رجلٌ غنيّ من أغنياء اليهود، ويقول: إلهي! من أنا؟ أنا نكرة تقف أمام عظمتك وجلالك وهيبتك!

ثُمّ يأتي رجلٌ فقير من فقراء اليهود، ويقول: يا رب! من أنا أمام عظمتك وجبروتك؟ أنا لا شيء!

وحين يسمع الرجلُ الغنيّ، الرجلَ الفقير يدعو ربّه بهذه الكلمات، يقوم بوكز الحاخام ويقول ساخطًا: هذا الفقير، مَن يظنّ نفسه.. كي يدعو الله مثلي ومثلك؟ كيف يجرؤ أن يقول للربّ كلامًا نقوله أنا وأنت وكأنّه مثلنا؟

تخبرنا النكتة أنّ بعض الحضارات وبعض النفوس كذلك، لا تستطيع أن تفهم نفسها إلّا من خلال "دونية الآخر" أو التواجد في أوساط يكون فيها الآخر أقلّ درجة أو أكثر فقرًا.

إنّ التواضع والتذلّل أمام الله الذي مارسه الرجل الغنيّ برفقة الحاخام، ليس إلّا أداء تمثيلي ومسرحي لإشباع الذات (يا لي من متواضع! رغم ثرائي الفاحش) ومُجرد طريقة أخرى لتأكيد المكانة الاجتماعية المُتفوّقة للأغنياء "المُتواضعين".

مَن يقف في أعلى التسلسل الهرمي الاجتماعي أو الحضاري، هو وحده من يُسمح له بإظهار التواضع والتسامح مع "الآخرين" الأقل مكانةً والأقل حضارةً، وحين تُقلَب الآية، سيشعر "مدّعو الحضارة" بالإهانة والإذلال.

يعكس حفل افتتاح الأولمبياد في باريس، أنّ المشروع الّليبرالي لم يعد مشروعًا لاحتواء "الآخر" وإنّما مشروع لإهانته ومعاداته. فالآخر لكي يكون آخرًا لا بُد أن يكون على مقاسنا، مُلوّن البشرة، أو مُعادي للأديان، أو متحوّل جنسيًا، أمّا "الآخر" كما يُريد أن يكون، بمشروعه الحضاريّ، وأصالته، وتقاليده وقيمه، فهذا غير مسموح!

تُشير دراسات الاستشراق وتفكيك الاستعمار، إلى أنّ الغرب انتقل في تعاطيه مع الحضارات الأخرى وشعوبها قد تنقّل في أربعة مستويات:

مرحلة (1): المجتمعات الأخرى بربرية وهمج، غير حضارية، تحتاج إلى تمدين وبنى تحتية (عبر الاستعمار).

مرحلة (2): المجتمعات الأخرى لُغز مثير، بحاجة لاستكشاف (التخييل الجنسي للمجتمعات الأخرى: ألف ليلة وليلة).

مرحلة (3): الحضارات الأخرى سلطوية متخلفة، بحاجة إلى المشروع الديمقراطي (أهداف التنمية المُستدامة).

مرحلة (4): المجتمعات الأخرى جاهلة، النساء مقهورات وكائنات طفولية تحتاج للتعليم والعمل (مشاريع المنظمات الدولية).

"الآخر" بالنسبة للغرب مشكلة دائمًا، إنه تذكير بعُقَده النفسية، وحدود مشروعه "الأخلاقي" لريادة العالم، ومن الواضح أن المرحلة الخامسة التي يتّجه نحوها الغرب هي "إقصاء الآخر" كمحاولة تسوية أخيرة قبل تعدّد الأقطاب.

وقد اشتهرت مقولة سارتر في مسرحيته: "الآخر هو الجحيم" قاصدًا بذلك عبء العلاقات الإنسانية ونظرات الآخرين تجاه الذات وإطلاق الأحكام على الفرد، وسعى المشروع التنويري للغرب للتحرّر من إطلاق الأحكام التقليدية، وتوفير مساحة آمنة "للذات" عبر الفردانية، يصير فيها الإنسان ما يريد دون أن يتمّ الحكم عليه being judged.

لكن هذا الهاجس من عدم إطلاق الأحكام على الآخرين، نجم عنه أكبر مشروع إطلاق أحكام judgmental في التاريخ، فصار الغربيون اليوم أكثر جماعة بشرية تَصِم الآخرين بوصمات التخلّف والإرهاب والانغلاق وأكثرها حساسية تجاه "الآخر" المخالف!

الفيلسوف الألماني- الكوري بيونغ تشول هان، يصطلح على هذه الظاهرة اسم:

"إقصاء الآخر" أو طرده Expulsion of the Other

إنّ شدّة التركيز على "قبول الآخر" هي في الحقيقة توجّس عميق ممّا يُمكن أن يكونه الآخر، وأنّ النتيجة الحقيقية لهاجس التعدّدية هو (شيوع التشابه).

إنّها محاولة لتوحيد الآخرين، كي يكونوا آخرين ضمن الخيارات المُتاحة (متحوّل جنسيًا، أقلّية، إنسان يُعرّف نفسه بوصفه كلب أو أريكة..) إنّها تقليل للآخرية وللغَيرية، كي يكون الآخر متوقّعًا ومنزوعًا من أي مشروع حضاري بديل.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply