لا نريد دراويش في صومعة


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

لا نريد دراويش في صومعة، نريد من يحمل همّ أمته وقضاياها؛ فمن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم:

1- مع كل خاطرةٍ أكتبها أو أقرأها فيها حثّ على الاشتغال بدائرة التأثير والنظر في المقدور لنفعله، خاصة في أزمنة الاستضعاف والأزمات، دائمًا ما أجد هذا التعليق أمامي بعبارات مختلفة والمضمون واحد، لا نريد دروشة، لا نريد سلبية، الإسلام ليس دينا فردانيًا سلبيًا، نريد من يحمل قضايا أمته الكبرى، نريد جيلًا جديدًا من صلاح الدين.. إلخ.

2- وهذه العبارات إذا تأمّلتها للوهلة الأولى، لاستحسنتَها، ولوجدتَها تداعب عاطفتك الدينية والإنسانيّة معًا، فلا أحد يريد أن يكون سلبيًا، ولا أحد يريد أن يكون وجوده في هذا الكون كعدمه بلا قيمة ولا أثر، ولا أحد يرضى لنفسه برتبة البهائم في الحياة، يعيش ليأكل وينام وينشغل بقضاء حوائجه الخاصة دون أي اعتبار للواقع الذي يعيش فيه ولحقوق غيره عليه ولمراعاة دوائر انتماءاته الدينيّة والوطنية والعِرقية والجغرافيّة.. إلخ.. ثم إنّنا نجد في ديننا الإسلاميّ نصوصًا وأحكامًا كثيرة تحثنا على الاهتمام بغيرنا بوجهٍ ما، وعدم الدوران في فلك أنفسنا فقط... ولكن!

3- ولكن بعد أن تُتسثار مشاعري الدينية والإنسانيّة هذه، وأوافق على هذا الكلام المُجمَل- السابق، أجد نفسي أسأل بلسان حالي الحائر: فماذا ينبغي أن أفعل إذن؟ّ! لم أفهم بعد، مازال شيء ما في تصوري مشوشًا، كيف أنفّذ هذا الكلام العام في واقعي الخاص لأخرج من قائمة التُهم المُعلّبة هذه؟! ثم ينهمر سيل الأسئلة في عقلي:

4- ما المقصود بالاهتمام بأمر الأمة؟ وهل المقصود بالاهتمام هنا، أي على المستوى الشعوري أم السلوكي أم هما معًا؟

5- فإن قُصد به الشعور ابتداءً، فهل القصد أنه عليّ أن أشعر بكل ألم يصيب كل مسلم يعيش معي على هذا الكوكب وأن أشاركه هذا الألم والتأثر والتعاطف معه؟ وهل يمكن هذا؟! أحسب أن هذا فهم مستعبد، إذن ربما كان المقصود به الأحداث المؤلمة الكبرى التي تغير من مصائر الأمة تأثيرًا كبيرًا، أو تصيبهم إصابة أليمة مُفجعة، كأن يُصاب جمع غفير من المسلمين أو دار من دورهم بالحروب الخارجية أو الأهلية أو المجاعات أو الحرائق أو البراكين أو السيول المدمّرة؟

6- فإن قُصد بها الأحداث الكبرى فقط، المُفرح منها والأليم، وكانت الأمة مثلا في عمومها حالة تمكين وانتصارات دائمة، فهل يجب على الإنسان شرعًا أن يكون في حالة فرح وسرور دائم؟... وإن كانت في حالة استضعاف وهزائم متوالية، فهل يجب عليه الحزن الدائم؟.. وهل هو مستطيع ذلك في الحالين؟ هل الدوام على حالة شعورية- واحدة، من طبيعة وجبلة هذا الإنسان أصلا؟!

7- ثم إنّ تأثّري شعوريًا بهذه الأحداث الكبرى فرعٌ عن معرفتي بوقوعها، فهل يجب عليّ شرعًا أن أتتبع أخبار أمتي على الصعيد المحلّي والدولي كل يوم لأعرف آخر أخبار هذه الأحداث الكبرى؟.. خاصة في ضوء عالم الإعلام والميديا وملايين الأخبار التي يمكن أن تصلك - أو تصل أنت إليها - في التوّ واللحظة والتي بالطبع تختلف عن العصور الأولى؟ أم أني مكلّف بالأخبار التي تصلني عُنوة دون أن أسعى أنا للوصول إليها؟

8- وما طبيعة هذه المعرفة؟ فقديما كان المرء يعرف أخبار البلدان المحيطة من التجار مثلًا الذين ذهبوا إليها وأتوه ليقصوا عليه ما رأوا بعد شهور ربما من وقوع تلك الأحداث، ثم ظهرت الطابعة والصحف والمجلدات وصرنا نعرف عن الحدث في اليوم الثاني في سطر في صحيفة وربما مع صورة مرفقة، أما الآن! في عصر التخمة المعرفية الهائلة، في عصر الفيديوهات والريلز، تستطيع أن ترى الحريق أو الزلزال أو الحرب بتفاصيلها، وتسمع آهات المصابين وجثث الضحايا، وصريخ الثكالى، ثم تقرأ مئات وآلاف المنشورات والمقاطع عن هذا الحدث الذي صار رائجًا أو Trend- تحليلًا ونقدًا وأخذًا وردًا طوال أسبوع أو شهر مثلا، فأي مستوى من هذه المعرفة يجب عليّ شرعًا؟..

وأي مستوى أستطيع تحمّله وأصمد أمامه نفسيًا؟.. وهل هذا المستوى يتفق فيه الجميع أم يتفاوتون؟ وهل لو مرّ أمامي فيديو لأحد إخواني شهيدًا أو مصابًا ولم أحتمل فتحه أأكون قد خُنته وفرّطت في دمه؟ هل إن عجزت عن مساعدته ودفع الظلم عنه بالفعل يوجب عليّ مشاهدة مصابه صوتًا وصورةً اعتذارًا له عن عجزي، ومحاولةً لملء عيني وقلبي بقدر أعظم من الغضب والألم الذي يكون وقودًا لي للانتقام له يومًا ما كما يقول البعض؟

9- ثمّ إنّ الإنسان بطبيعته الجبلية يزداد تأثّره الشعوري بكل من يقترب من دائرة معرفته وخُلطته، فتأثّري بما يصيب أهل بيتي أشدّ عليّ مما يصيب جاري الذي في البناية التي بجواري، وتأثري بمصاب هذا أشد عليّ من تأثري بمصاب رجل يسكن نفس الحيّ لكن يبعد عني شوارع طويلة ولا أعرفه ولا أقابله إلا مرة أو مرتين في العام، فهل يجب عليّ شرعًا أن يستوي تأثري وتفاعلي معهم جميعًا باختلاف درجة قربهم مني زمانا ومكانا وحالا؟

ثم لنزيد السؤال صعوبة: إن تأثّري بمصاب جار مسيحيّ تربيتُ معه في نفس البِناية والمنطقة منذ طفولتي لهو أشدّ وقعًا على نفسي من مصابِ أخٍ مُسلمٍ لي يعيش في بلد أخرى ولا أعرف عنه إلا الاسم، فهل هذا من جبلتي الإنسانية الطبيعية التي لم يُنكرها عليّ الشرع أ م هو من ضعف إيماني وفساد معتقدي واختلال دوائر انتماءاتي؟

10- فإن قلتَ: لا، بل المقصود هو السلوك والعمل، أما الشعور فلا سُلطان لنا عليه، فهل نحن مُكلّفون بمطلق العمل؟ أم بما نستطيعه؟

11- فإن قلتَ: بل بما تستطيعه، فهل المقصود مُطلق الاستطاعة؟ يعني أنا مثلا أستطيع أن أساعد جارًا لي يسكن بجواري في أحد أزقة القاهرة، وأستطيع بقدر ما من المشقة الزائدة أن أسافر إلى محافظة أسوان مثلا بعد نحو 12 ساعة بالقطار لأساعد صديقًا آخر، فهل أنا مُكلّف بالأمرين معًا وإن تركتُ أحدهما أكون آثِمًا؟... يعني هل التكليف منصب على مطلق القدرة وما يُتاح أمامنا -خاصة في عصر التكنولوجيا الذي يسّر الكثير مما كان متعذّرًا بالأمس- أم بنوع معين ومحدود من القدرة؟ وإن كان، فما هذه الحدود؟

12- وهل كل ما أستطيعه من وجوه الإصلاح الاجتماعي - سواء لجاري هذا أو لصديقي بأسوان - يجوز لي أن أخوض فيه؟ أم هناك بعض المساحات أو المستويات التي يجوز لي أن أتكلم فيها، وأنصح، وآمر بالمعروف، وأنهى عن المنكر، بل ربما وجب عليّ، وهناك مساحات أخرى يحرم عليّ ذلك؟ وما ضابط ذلك؟ متى أتكلم ومتى أسكت؟ ومتى أُقدِم ومتى أُحجِم؟ وبعبارة موجزة: ما حدود مسئوليتي الشخصية عن واقعي ومجتمعي وغيري؟

13- ثم كيف أجمع بين النصوص والأوامر التي تحثني على الاهتمام بأمر أمتي، مع نصوص أخرى يبدو لي في ظاهرها أنها تحثّني على الانشغال بأمر نفسي؟ مثل قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضرّكم من ضلّ إذا اهتديتم.. }الآية.. وقول رسول الله صلى الله عليه وآله سلم: "إذا رأيتَ النَّاسَ مرِجَت عُهودُهم وخانَت أمانتُهم وَكانوا هَكذا، وشبَّكَ بينَ أصابعِه، فقمتُ إليهِ فقلتُ لهُ: كيفَ أصنعُ عندَ ذلِك يا رسولَ اللَّهِ جعلَني اللَّهُ فداكَ، قال: الزَم بيتَكَ، واملِك عليكَ لسانَكَ، وخذ ما تعرفُ، ودع ما تُنكرُ، عليكَ بأمرِ خاصَّةِ نفسِك، ودع عنكَ أمرَ العامَّةِ".. وغير ذلك من نصوص.

14- مع انهمار الأسئلة وتتابعها ظهر لي إشكال هذا التعليق الأوّل الذي أرّق عقلي وإن داعب مشاعري وبدا لي جميلًا في ظاهره، إنه تعليق مُجمل- لا تفصيل فيه ولا فقه، وقديمًا قال الأصوليون: الإجمالُ أصل الإشكال، فهو إذن أقرب للوعظ السطحيّ العام الذي طالما سمعناه ورددناه، لكن عند التحقق من مدى عمق فهمنا له، وجدنا فراغًا، وبالتالي يظل حبيس الكلام والترداد، غير قابل للتفعيل في الواقع.

15- وهنا يكون أمام المرء احتمالان:

الأول: أن يتّهم من أوصل له هذا الخطاب العام المجمل، وخاطبه بهذه النصوص الشرعية الشريفة دون أن يُعطيه مفاتيح فهمها- وضوابط تنزيلها على الواقع.. أو بعبارة أخرى: أن يلوم من خاطبه بالنصوص مباشرةً ولم يُعلّمه الفقه- الذي يجيب عن كل هذه التساؤلات العلمية المنهجية التي تولّدت من رحم النصوص وبحثها علماء الإسلام ووضعوا لها القواعد والضوابط النيِّرة.

الثاني: أن يتّهم نفسه بالتقصير! ويدخل في وصلة من جلد الذات؛ إذ كيف يفرح أو يمزح والأقصى أسير؟ وكيف يُقيم عُرسًا وإخوانه في مأتم؟... فيصير جلد الذات عنده في ذاته- من علامات صحة الإيمان وحياة القلب ودليلا يتشبث به إذ فيه شهادة على أن في قلبه بقايا حمله لهموم أمته، مع محاولاته لمتابعة كل شاردة وواردة والغرق في هذه المنصات بلا نهاية، وبعقل مشوش، ونفس مضطربة منهكة مكتئبة، وتقصير فيما يجب عليه وجوبًا عينيًا في حياته الشخصية، ظانا أنه بذلك يؤدي ما عليه أو يحاول.

16- فإن سلك الطريق الأول سيدفعه هذا إلى أن يحاول الخروج من تيه الجهل إلى أنوار العلم، وسيهرع إلى من يُعلّمه ويرفع عنه هذه الجهالة التي تُهلك نفسه، وأما إن سلك الطريق الثاني فسيظلّ غارقًا في ظلمات نكده وكرهه لذاته، ويتعبد إلى الله بهذا الكُره والجلد، وكلما خفُت هذا الشعور في صدره شعر بأن تدينَه مُهددٌ وإيمانه مُتَّهَم وانتماءه إلى دينه وأمته مطعون فيه، فهرع إلى سماع المزيد من الدروس والخطب الوعظية الممتلئة بنفس نوع الخطاب العاطفي السطحي المجمل السابق الذي لا يبني عقله ولكن يثير خياله ويداعب شعوره.

17- أما الفقير فقد سلك الاحتمال الثاني سنين عددًا للأسف الشديد، خاصة ونحن في أزمنة الاستضعاف والأزمات التي لا تنتهي، فلك أن تتخيل حاله كيف كانت وصارت! ثم لما وفقه الله تعالى لمن يأخذ بيده للطريق الثاني ويخوض معه رحلة الجواب على أسئلته المنطقية -التي حسِبها قبل هذا أسئلة فسوق وزندقة وإلحاد ثم وجدها مبحوثة في علومنا وكتبنا بأدق التفاصيل ودون نكير- استقام المنسم، وتنوّر العقل، وهدأت النفس، وصار صاحبنا أقرب خطوة إلى فهم نفسه وأفكاره ومشاعره، والاتساق معها دون تنكّر، والتعاطف معها دون تسخّط، ورحمتها والرفق بها فيما أحسنت أو أساءت.

18- ولعلّ البعض إذا قرأ كلامي هذا قال بلسان حاله: فما جواب هذه الأسئلة؟ أعطني جوابها هنا والآن؟ أعطني الخلاصة.

وأقول: لا خلاصات هنا، إنما هي رحلة تعلم طويلة مريرة ماتعة، أصنام تُهدم، وتابوهات تُفتح، ومُسلّمات تُبحث، وأسئلة تُطرح، وأسس تُبنى، ونفوس تُهذَّب، ومبادئ وأصول تُكوَّن من جديد.

19- فإن قلتَ: فما استفدتُ أنا إذن من طول كلامك هذا؟

قلتُ: قال الإمام القرفي: معرفةُ الإشكالِ علم!

معرفة الأسئلة الصحيحة في حد ذاته علم عظيم قد يُصحح لك مسار تفكيرك وطريقة بحثك وربما حياتك بأسرها، قالوا: حُسن السؤال نصف العلم، فمن ألقى إليك سؤالًا يفتح لك آفاقًأ جديدة في الفهم، ويوقفك على قصور فهمك وخطأ تفكيرك، فقد قطع بك نصف طريق العلم، والنصف الآخر عندك!

20- ربما عقدنا مجلسًا قريبًا إن شاء الله للدردشة حول هذه الأسئلة الهامة في حوار ومسامرة مفتوحة ضمن سلسلة مجالس مجانية أخرى ستُعقد وسأعلن عنها في القريب بحول الله.

وإلى أن يحين موعدها أحببت أن أترك إليكم هذه الخاطرة وتلكم الأسئلة؛ لعلها تضيء بصيص نور يستهدي به حائر، وتمهّد لكلامي فيما هو قادم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply