بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
أيّها المؤمنون الكرام، فإنّ أوّل خطبة جمعة خطبها رسول الله ﷺ كانت في المدينة المنوّرة في بداية هجرته إليها. وممّا جاء فيها: *أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّه، فَإنّه خَيْر مَا أَوْصَى بِهِ الْمُسْلِم الْمُسْلِم أَنْ يَحُضّهُ عَلَى الْآخِرَة، وَأَنْ يَأْمُرهُ بِتَقْوَى اللَّه. وَاحْذَرُوا مَا حَذَّرَكُمْ اللَّه مِنْ نَفْسه، فَإِنَّ تَقْوَى اللَّه لِمَنْ عَمِلَ بِهِ عَلَى وَجَل وَمَخَافَة مِنْ ربّه، وعَوْن صِدْق عَلَى مَا تَبْتغُونَ مِنْ أَمْر الْآخِرَة. وَمَنْ يُصلّح الَّذِي بَيْنه وَبَيْن ربّه مِنْ أَمْره فِي السِّرّ وَالْعَلَانِيَة، لَا يَنْوِي بِهِ إِلَّا وَجْه اللَّه يَكُنْ لَهُ ذِكْرًا فِي عَاجِل أَمْره، وَذُخْرًا فِيمَا بَعْد الْمَوْت، حِين يَفْتَقِر الْمَرْء إِلَى مَا قَدَّمَ. وَمَا كَانَ مِن سِوَى ذَلِكَ يَوَدّ لَوْ أَنَّ بَيْنه وَبَيْنه أَمَدًا بَعِيدًا. ﴿وَيُحَذِّركُمْ اللَّه نَفْسه وَاَللَّه رَءُوف بِالْعِبَادِ﴾*[1].فما مغزى وصيّة الرّسول صلّى الله عليه وسلّم؟ وما هي طبيعة العبادة التي تقربّ الإنسان من الله؟ ولماذا نحتاج، اليوم، إلى تأكيد أهميّة حفظ الدّين والتذكير بالاستخلاف الذي منحنا الله إيّاه في الأرض؟
عباد الله، ممّا تحمله وصيّة الرّسول الأكرم ﷺ من مغزى، هو المآلات السلبيّة الناجمة عن التفريط في تعاليم الدّين والغفلةِ عن الآخرة والحياد عن نهج الله، نتيجة التّنافس في الدّنيا واتّخاذ الكذب قاعدة عامّة للتعامل... وللأسف أصبحت هذه الأمور من الثّوابت التي لا تستقيم حياة النّاس بدونها.
وهذا مثال بسيط يوضّح ذلك: الكثير من النّاس، اليوم، لا يسألون عن أعمال البرّ، وإنّما عن أعمال ملتبسة أتسبّب إثما أم لا؟ هل هي حرام أم إنّها مكروهة فقط؟ فإذا كان حكمها مكروها أو مشتبها فيه، فليس لديهم مانع من ارتكابها، باعتبارها ليست محرّمة. لم يعد هناك حرص على الأصول والثوابت في الدّين، وإنّما أصبح إلهمّ الأكبر قضاء الحاجات وتلبية المطالب حتى ولو وقعوا في الشّبهات، بل منهم من يذهب إلى التّساؤل عمّا إذا كانت حرمة شيء ما شديدة أم لا؟ وماذا يترتّب عنه؟ ألم ينبّهنا صلّى الله عليه وسلّم: "من وقع في الشبهات وقع في الحرام،
كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه". [2]
أصبحنا نرى،اليوم،استهانة بالصّغائر بل واستعدادا لارتكاب الكبائر، مما نتج عنه الاجتراء على محارم الله، وزوال الحواجز عن المعاصي، ولذلك يقول الرّسول صلّى الله عليه وسلّم: "لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ القيامة بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامّة بِيضًا فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عزّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا قَالَ ثَوْبَانُ يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ قَالَ أَمَا إنّهمْ إِخْوَانّكمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ وَيَأْخُذُونَ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا" [3]
عباد الله، إنّ لله مع خلقهِ أيامٌ وسُنن؛ فأين ثمود وعاد؟ وأين الفراعِنةُ الشِّدادُ؟ أين من قدُّوا الأرضَ ونحَتوا الجبال، وحازوا أسباب القوة واحتاطوا للنوائِب؟
لماّ نسُوا اللهَ أوقعَ بهم بأسَه، فصاروا بعد الوجودِ أثرًا، وأصبحوا للتاريخ قصصًا وعِبرًا: ﴿فَكلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُون﴾ [العنكبوت:40].
إن سنّةَ الله لا تُحابِي أحدًا، وليس لفردٍ ولا لمُجتمعٍ حصانةٌ ذاتيةٌ، وحين تُقصِّرُ أمّة في توقِّي أسباب المصائب العامّة فإن عليها أن تتقبَّل نتيجةَ التّقصير، وليست أمّة بمنأَى عن العذابِ إذا عقَدَت أسبابَه، ولا في مأمنٍ من العقابِ إن سلَكَت سبيلَه وفتحَت للذنبِ أبوابَه.
وأدعوكم إلى الوقوف على هذه الأرقام: المسلمون، اليوم، يساوون ربّع سكّان العالم، لكن حصّتهم من الثروة العالمية 6%، ربّع سكان الأرض بيدهم 6% فقط من ثروات العالم، ثلثا فقراء العالم من المسلمين... مجموع ضحايا المسلمين في ثلاثة عقود مليونان ونصف، 80% من اللاجئين في العالم من المسلمين... هذه أرقام مفزعة، ولكنّها مجرّد أرقام في عرف بعض النّاس لإنّها لا تعني الكثير في سوق المصالح والعلاقات المادّية الصرفة... أليس من أسباب ما نحن فيه، اليوم، من مصائب الاستهانة بشرّع الله والبعد عن دينه؟
اسمعوا ما أخبرَ عنه صلّى الله عليه وسلّم: "يَكُونُ فِي آخِرِ هَذِهِ الأمّة خَسْفٌ وَمَسْخٌ وَقَذْفٌ"، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أنهلكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟! قَالَ: "نَعَمْ! إِذَا ظَهَرَ الخُبْثُ"[4].
وفسّر ابن القيّم ذلك فقال: «المسخُ... واقعٌ في هذه الأمّة ولا بُدّ، وهو في طائفتين: علماء السّوء الكاذبين على الله ورسوله، الذين قلَبوا دينَ الله وشرّعَه، فقلبَ الله تعالى صُورَهم كما قلَبوا دينَه، والمُجاهِرين المُتهتِّكين بالفسقِ والمحارِم، ومن لم يُمسَخ منهم في الدّنيا مُسِخ في قبره أو يوم القيامة« [5].
قال تعالى: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾ [آل عمران:165].
أيها المؤمنون الكرام، فإنّ الحقّ تبارك وتعالى يقول: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشرّكُونَ بِي شَيْئًا﴾ [النّور:55].
عباد الله، الإنسان بفطرته يعلم أن دين الله عظيم. نحن نملك إرثا عظيمًا، نملك وحي السّماء، نملك القرآن الكريم، نملك منهج ربّ العالمين، لكنّنا في غفلة عن كلّ ذلك، إذ لا نضع في اعتبارنا أنّ دين الله ليس كرامات، وليس طقوسا ومناسبات.
إنّما في الإسلام عبادات وشعائر، وفي الآن نفسه معاملات، لكن ماذا نرى؟ تمّ التعامل مع الدّين بأسلوب سطحيّ ومضمون غير متماسك، فكثر اللجوء إلى الخرافات والوسائط والكرامات، وغابت الأخلاق الحسنة فلا صدق، ولا أمانة، ولا استقامة، ولا إنصاف، ولا عدل، ولا رحمة ولا حرص على حفظ دين الله..
وهُنا، حين نتساءل: أين يكمن الخلل؟ ندرك أنّنا مقصّرون في عبادة الله عزّ وجل، وعندنا خلل في فهم الدّين وفي التّعامل معه على إنّه مجرّد طقوس وأحكام مفصولة عن حياتنا.. أصبح الدّين مظاهر وألقابا: سماحة الشّيخ، وفضيلة العلاّمة، والدّكتور، المؤتمرات والندوات... لكن أين التطبيق؟ لا يوجد. بل يوجد الكسب الحرام، والإنفاق الحرام، والتعامل بالربّا. لم يعظّم *المسلمون* أمر الله، فلم يعد لهم شأن عند الله.
أين نحن المسلمون من ديننا؟ أهناك ما يميزنا عن غيرنا؟ إن كان هناك فرق فأين أثره؟ المسلم كريم على الله، فلا يمكن المقارنة بين الكافر والمسلم، ولكن هل إذا قسنا أنفسنا نحن المسلمين بغيرنا فهل نجد عندنا أمانة أكثر، ووفاء بالعهد، وإنتاجا في العمل أكثر؟ يجب أن نصلّح أنفسنا ونؤوب إلى الله، ولا يكون ذلك إلاّ بالعودة إلى منهج الله، قال تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ [الحديد:16].
فاتّقوا الله الذي أنتم به مؤمنون ﴿إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ﴾ 128النحل.عباد الله يقول الله ولم يزل قائلا عليما ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصلّونَ عَلَى النبيّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صلّوا عَلَيْهِ وسلّموا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب:56].
اللّهمّ صلّ وسلّم عَلَى سيّدنا محمّد وَعَلَى آلِ سيّدنا محمّد، كَمَا صلّيْتَ وسلّمتَ عَلَى سيّدنا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سيّدنا إِبْرَاهِيْمَ، وَبَارِكْ عَلَى سيّدنا محمّد وَعَلَى آلِ سيّدنا محمّد، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى سيّدنا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سيّدنا إِبْرَاهِيْمَ، فِي العَالَمِين إنّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارْضَ اللّهمّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرّاشدين، وَعَنْ أَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِين، وَعَنْ سَائِرِ الصّحابة أَجْمَعِين، وَعَن المُؤْمِنِين وَالمُؤْمِنَاتِ إِلَى يوم الدّين، وَعنّا مَعَهُمْ بِرَحْمَتِكَ يَا أرحم الرّاحمين.
اللّهمّ إنّا نسألك بذلِّ عبوديتنا لك، وبعظيم افتقارنا إليك، أن تنتصر لعبادك المؤمنين المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربّها. اللّهمّ اجعلنا ممن اصطفيتهم لقربّك وولايتك، وشوّقتهم إلى لقائك، وحبوتهم برضاك، وفرغت فؤادهم لحبّك. اللّهمّ ارحمنا، وارحم والدّينا، وارحم من علّمنا، والمسلمين أجمعين برحمتك يا أرحم الرّاحمين.
اللّهمّ إنّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَرْزُقَ كلًّا مِنَّا لِسَانًا صَادِقًا ذَاكِرًا، وَقَلْبًا خَاشِعًا مُنِيبًا، وَعَمَلًا صَالِحًا زَاكِيًا، وَعِلْمًا نَافِعًا رَافِعًا، وَإِيمانًا رَاسِخًا ثَابِتًا، وَيَقِينًا صَادِقًا خَالِصًا، وَرِزْقًا حَلاَلًا طَيِّبًا وَاسِعًا، يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
اللّهمّ أَعزّ الإِسْلاَمَ وَالْمُسْلِمِين، وَوَحِّدِ اللّهمّ صُفُوفَهُمْ، وَاجمع كلّمَتَهُمْ عَلَى الحَقِّ، وَاكْسِرْ شَوْكَةَ الظّالِمِينَ، وَاكْتُبِ السَّلاَمَ وَالأَمْنَ لِعِبادِكَ أَجْمَعِينَ.
ربّنا أعنّا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا وامكر لنا ولا تمكر علينا واهدنا ويسّر الهدى لنا، وانصرنا على من بغى علينا. ربّنا اجعلنا لك شاكرين لك ذكّارين، لك رهّابين، لك مطواعين، إليك مخبتين أوّاهين منيبين، ربّنا تقبّل توبتنا، واغسل حوبتنا، وأجب دعوتنا وثبّت حُجّتنا واهد قلوبنا، وسدّد ألسنتنا، واسْلُلْ سخيمة قلوبنا.
اللّهمّ اجعل أوسع رزقك علينا عند كبر سنّنا، وانقطاع عمرنا. اللّهمّ إنّا نسألك بأنّنا نشهد إنّك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد.
اللّهمّ إنّا نعوذ بك من العجز والكسل والجبن والبخل والهرم والقسوة والغفلة والذلّة والمسكنة، ونعوذ بك من الفقر والكفر والفسوق والشّقاق والنّفاق والسّمعة والرياء، ونعوذ بك من الصّمم والبكم والجنون والجذام والبرص وسيّء الأسقام.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد