فوائد من درس دلائل الإعجاز 35


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

مما قال فضيلة الأستاذ الدكتور محمد أبو موسى في درس شرح كتاب «دلائل الإعجاز» بالجامع الأزهر الشريف.

الأحد: 19 من رجب 1446ه = 19 من يناير 2025م:

• تُلاحظون أننا مِن مُدَّة طويلة ونحن نقرأ في مسألةٍ خلافيةٍ بين عبد القاهر وبين جمهورٍ من الذين يتكلَّمون في البلاغة، وأن الخلافَ هو أنهم يَروْن أن فصاحة الكلام وبلاغة الكلام ترجع إلى لفظه، وهو يرى أن فصاحة الكلام وبلاغة الكلام ترجع إلى معناه، وأن هذا الخلافَ - وهذا هو المُهم - فتح لنا أبوابًا من المعرفةِ بعلم البيان وبعلمِ الفصاحة، ولم أقرأ في تراثنا دراسةً في تحليل البيان وتحليل الشِّعر وتحليل الكلام العالي أوسعَ ولا أدقَّ مِن هذه الدراسة التي مَنشؤها الخلافُ، وهذا هو المقصود.

• خلافُ العلماء في زمن التقدُّم والوعي والمعرفة كان يُنتج فِكرًا وعِلمًا.

• دائمًا، قراءتي للشِّعر الجاهلي القديم جدًّا، وللقرآن، ولكلِّ ما أقرأ من المعرفة، أقرؤها في حضورِ زمني في نفسي.

• كلُّ ما أقرأ؛ مِن: الشِّعرِ المُوغِل في القِدَم، والكلامِ المُوغِل في القِدَم، والتاريخِ المُوغِل في القِدَم، والقرآن، وكلِّ ما أقرأ، لا أقرؤه إلَّا وزماني حاضرٌ في قلبي؛ لأن حضورَ زماني في قلبي - بمحاسنِه ومساوئه - هو الذي يُعينني على فَهْم ما أقرأ.

• حين كنتُ أقرأ هذه المسائل التي تقرؤونها على أساس أنها بابٌ من أبواب علم الفصاحة، كنت أرى أن الخلافَ بين العقلاء في زمن التقدُّم - كما قلتُ - خلافٌ مُنتجٌ علمًا وفكرًا، وليس خلافًا يُنتج شتائم.

• الخلافُ بين مَن هُم ليسوا أهلًا للعلم، وليسوا أهلًا لتقدُّم البلاد، لا يُنتج فكرًا ولا علمًا، وإنَّما يُنتج شتائم، والصوتُ الأعلى هو الأعلمُ بمُعجم الشتائم الأعلى؛ فكنتُ أقول: يا ربِّي، متى نختلف لنُنتجَ علمًا؟ وإلى أيِّ مدًى نختلف لنُنتجَ شتائم.

• لم يَقُلْ عاقلٌ إن الشتائم تتقدَّم بها الأمم، وإنَّما يقول كلُّ عاقل إن إنتاج العلم وإنتاج المعرفة هو الذي تتقدَّم به الأمم.

• الأوطان لا تُبنى بالشتائم وإنَّما تُبنى بالعلم وبالمعرفة.

• ليس لي عملٌ في حياتي إلَّا القراءة، ولا أحبُّ أن يكون لي عملٌ في حياتي إلَّا القراءة؛ لأن فَهْمِي لصفحةٍ من كلام أهل العلم يُساوي عندي كلَّ ما يتمنَّاه الإنسان.

• لمَّا كانت حياتي كلُّها قراءة وجدتُ شيئًا جليلًا جدًّا؛ وجدتُ أن تسعةَ أعشار المعرفة ناتجةٌ مِن الخلاف بين العلماء؛ فأحسستُ أن الخلافَ في دَرْس العلم، وعند أهل العقل، وعند أهل الحكمة، يُنتج علمًا.

• لمَّا أراد الله - سبحانه وتعالى - أن يُبيِّنَ إكرامَه ل«موسى» قال: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا}، ولمَّا أراد أن يُبيِّنَ إكرامَه ل«يوسف» قال: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا}؛ فالحُكمُ والعِلمُ عطاءُ ربِّك الأعلى.

• عطاءُ ربِّك الأعلى ليس ثروة، ولا أُبَّهة، ولا وظيفة، وإنَّما عطاءُ ربِّك الأعلى هو العِلمُ والحكمة.

• لَفَتنِي إلى فكرة أن المعرفةَ تِسعةُ أعشارها مولودٌ مِن رَحِم الخلاف، أنني وأنا أقرأ في كلام المعتزلة وجدتُهم يُنكرون رؤية الله، وحُجَّتُهم في ذلك أن الرؤيةَ تستلزم الجهةَ والمكانَ، واللهُ مُنزَّهٌ عن الجهة والمكان، وهذه حُجَّةٌ قويةٌ اقتنعتُ بها، ثم وجدتَ الأذكياءَ من علمائنا قالوا كلمةً جليلةً جدًّا؛ كلمةً هي أصلٌ من أصول الدِّين؛ قالوا: نعم، الرؤيةُ تستلزم الجهةَ والمكانَ، واللهُ مُنزَّهٌ عن الجهة والمكان، إذا كانت رؤيةً في الدُّنيا، أمَّا عالَم الآخرة فلا يجوز أن يُقاس عليه عالَمُ الدُّنيا؛ فالمقاييسُ الدُّنيوية تَذهبُ مع هذه الدُّنيا، وتبقى للآخرة مقاييسُها التي لا يَعلَمُها إلَّا الله، وبذلك رُفِضَ ونُقِضَ ما قاله المعتزلة، الذي كِدتُ أقتنعُ به؛ فأحسستُ أنه لو لم يُنكر المعتزلةُ رؤيةَ الله ما استخرجَ أهلُ السُّنة مِن أغوار عقولِهم هذه الكلمةَ الرَّائعة: أن الحاضرَ لا يُقاس على الغائب.

• خِلافُ الكرامِ ضروريٌّ للحياة الدُّنيا، أمَّا خِلافُ الشتائم فهو خِلافُ زمن التخلُّف.

• مُعجَمُ الشتائم صفحتان أو ثلاث، يَحفظُه الولدُ ذو السَّنوات العَشْر فيكون بارعًا في الشتائم أكثرَ مِن براعة جَدِّه؛ فنتَقاذَفُ بها: أنت خائن، وأنت أيضًا خائن.. أنت عَميل، وأنت أيضًا عميل.. أنت عَدوُّ الوطن، وأنت أيضًا عَدوُّ الوطن؛ كلامٌ لا يُنتج إلَّا الفُرقة، ولا يُنتج إلَّا التوقُّفَ عن الجِدِّ والعَمَل، ولذلك كان رجالُ التاريخ الكرام - مِن أوَّل التاريخ - هم الذين يَجمعون الأمَّة، هم الذين لا يُبعِدون أحدًا.

• اختلفوا ما شئتم، ولكنْ هناك أشياءُ لا يجوز الخلافُ عليها؛ هي: العملُ لصالح البلاد والعباد.

• لاحِظْ أن عبد القاهر يُقرُّ بأن العُلماءَ وصفوا «اللَّفظَ» بالحُسْن والمَزِيَّة، ويقول إن هناك مَزِيَّةً تَرجع إلى «اللفظ» ومَزِيَّةً تَرجع إلى «النظم»؛ فلماذا وقفتَ بنا طويلًا يا شيخ عبد القاهر عند نَفْيِ المَزِيَّة عن «اللفظ»؟ يقول لك: المَزِيَّةُ إنَّما تُعزَى إلى «اللفظ» بسبب «المعنى»، لا يُنكر أحدٌ أن للألفاظ مزايا، ولكنَّ المُهمَّ أن تُدرِكَ أن مزايا الألفاظ هي بسبب المعاني، لا بسبب أجراس الألفاظ وحروفها وأصواتها.

• عبدُ القاهر أخذَ بيدي، ودَلَّني كيف أقرأ الشِّعر، وكيف أقرأ القرآن، وكيف أستخرج محاسِنَه، وليس في العلم أفضلُ مِن هذا.

• الله - سبحانه وتعالى - إذا أراد شيئًا هيَّأ له أسبابَه: لمَّا أراد منَّا أن نتذوَّق كلامَه العالي، وأن نُدرِك أنه خارجٌ عن طاقة البشر، ألهمَ الشُّعراءَ شِعرًا لم يَقلْ أحدٌ شِعرًا أفضلَ منه بعدَهم؛ لنُدرِّبَ أنفسنَا على الشِّعر وعلى تذوُّق الشِّعر.

• مَن يُحْسِنْ تذوَّقَ شعر امرئ القيس الموصول بالفجور والتهتُّك يُحْسِنْ تأمُّل «البقرة» و«آل عمران».. مَن يُحْسِنْ تأمُّلَ شِعر الأعشى يُحْسِنْ تأمُّلَ آيات الله.

• لو ثبَّتَ عبارة «التعبير عن المعنى الواحد بلفظين» في قلبِك، وعَرَفْتَ ما وراءها، تكونُ قد عَرَفْتَ نِصفَ علم البلاغة وعلم نقد الشِّعر.

• الفصاحةُ ليست عِلمًا أمرَنا ربُّنا به؛ كالطهارة والصَّلاة والفقه، وإنَّما هي معرفةٌ نتحدَّث فيها للَّذي وراءها، والذي وراءها هو العِلمُ بجيِّد الشِّعر وأجودِه، والعِلمُ بجيِّد الكلام وأجودِه، وأن هذا العِلمَ بجيِّد الشِّعر وأجودِه وبجيِّد الكلام وأجودِه هو الذي يَهدِيني إلى أنَّ ما بين الدَّفتَيْن لا يُمكن أن يكون إلَّا من الله.

• كما أنَّ خَلْقَ السماوات لا يكون إلَّا من الله فكذلك «البقرة» و«آل عمران» و{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} و{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ}، لا تكون إلَّا مِن الله.

• كلُّ ما لا يكون إلَّا مِن الله فهو مُعجِز، وكلُّ ما لا يكون إلَّا مِن الله يُنادي للإيمان أن آمِنوا بربِّكم.

• الآياتُ التي خلقَها الله تُنادي للإيمان أن آمِنوا بربِّكم؛ هذه الشمسُ التي تجري لمُستقرٍّ لها تُنادي للإيمان أن آمِنوا بربِّكم، هذا الليلُ الذي نَسكنُ فيه يُنادي للإيمان أن آمِنوا بربِّكم.

• تعقيبًا على قول الإمام عبد القاهر: «إنه يَصِحُّ أن تكون ههنا عبارتان أصلُ المعنى فيهما واحد، ثم يكون لإحداهما في تحسين ذلك المعنى وتزيينه، وإحداثِ خُصوصية فيه، تأثيرٌ لا يكون للأخرى»، قال شيخُنا: ضَعْ خطًّا تحت «تحسين المعنى وتزيينه»؛ لأن الفَضْلَ هو في تحسين المعنى وتزيينه؛ فَضْلُ امرئ القيس على الشُّعراء أن عنده موهبةً في تحسين المعنى وتزيينه، أيُّ مَرتبةٍ يَصِلُ إليها شاعرٌ أو مُتكلِّمٌ أو خطيبٌ أو كاتبٌ من الفضل، هي فقط في تحسين المعنى وتزيينه.

• يجب أن نَفهمَ المرادَ ب«تحسين المعنى وتزيينه»؛ لأنها كلمةٌ غامضة؛ لأنه ليس الغايةَ أن أحفظَ «تحسين المعنى وتزيينه» وإنَّما المفروضُ أن أتعقَّل «تحسين المعنى وتزيينه»؛ فما معنى «تحسين المعنى وتزيينه»؟ [سكتَ شيخُنا قليلًا ثم قال:] أنا أبحثُ عن عبارةٍ تُقرِّب لكم معنى «تحسين المعنى وتزيينه» فلم أجدْ إلَّا هذا الذي سأقولُه، وهو أنك تتأمَّل المعنى الشائعَ على ألسنة النَّاس، ثم لا تُحدِّث به كما شاع في ألسنة النَّاس، وإنَّما تُعمِلُ عقلَك فيه، وتُخرِجُه إخراجًا لم يُخرِجْه النَّاس، كما أعملَ المتنبِّي عقلَه في قول العامَّة: «الطَّبعُ لا يتغيَّر» وأخرجَه في قوله: «وتأبى الطِّباعُ على النَّاقل»، وهذا هو التحسينُ والتزيين.

• قد يكون بين العبارتين في المعنى الواحد مُخالفةٌ بسيطةٌ جدًّا، ولكنها تُخرِجُ المعنى إلى الخُصوص والزِّينة، كما في قول أبي نُوَاس:

ولَيْسَ للهِ بِمُسْتَنْكَرٍ.. أنْ يَجْمَعَ العَالَمَ في وَاحِدِ

الناسُ يقولون: «ليس غريبًا على الله أن يَجمعَ فضائلَ الخَلْق كلِّهم في رجلٍ واحد»؛ فالذي صَنَعه أبو نُوَاس أنه حَذَفَ كلمة «فضائل الخَلْق» ووضع مكانَها كلمة «العالَم»، وهذا هو إعمالُ العقل في تحسين المعنى وتزيينه.

• شُغِلْتُ كثيرًا جدًّا بتحليل البيان، وبتحليل الشِّعر، وبتحليل آيات القرآن الكريم، وكان كلُّ هَمِّي فيما حلَّلْتُه هو تدبُّر المباني؛ لأستخرجَ مِن خَافِياتِ المباني خَافِياتِ المعاني؛ لأن خفايا المعاني لا مكانَ لها إلَّا خفايا المباني.

• لمَّا قضيتُ كثيرًا مِن عُمرِي في تدبُّر المباني لاستخراج خفايا المعاني راجعتُ نفسي، وقلتُ: لقد شُغِلْتَ بتدبُّر خفايا المباني؛ فمتى تُشْغلُ بتدبُّر خفايا المعاني؟ وبدأتُ أُفكِّر في الاشتغال بخفايا المعاني التي لا سبيل إليها إلَّا خفايا المباني، فأردتُ أن أُبيِّن القيمةَ الإنسانيةَ العاليةَ في خفايا المعاني.

• خفايا المباني وصلتْ بنا إلى خفايا المعاني، وبَقِيَ علينا أن نتعرَّف على القيمة الإنسانية الصَّانعة للإنسان الأفضل في خفايا المعاني؛ لأن النَّاسَ لم يتغيَّروا بخفايا المباني، وإنَّما تغيَّروا بخفايا المعاني.

• خيرُ ما وجدتُه هو أن كلَّ عِلمٍ في مسألةٍ يَفتح بابَ عِلمٍ لمسألةٍ أخرى؛ فالعلمُ مِفتاحُ أبواب العلم.

• لم أقرأ في تاريخ البيان أفضلَ مِن كلمة «صُوَر المعاني»، إذا أحسنتُ إدراكها.

• إذا وجدتَ الكرامَ - وهو كثيرٌ في الشِّعر، وكثيرٌ في الكلام، وكثيرٌ في الكُتُب - يتحدَّثون عن فَضْل الألفاظ وحُسْن الألفاظ وبلاغة الألفاظ فاعلمْ أنهم يُريدون ب«الألفاظ»: «صُورَ المعاني»؛ لأنهم رأوا أنهم لو أطلقوا كلمة «المعاني» على «صُوَر المعاني» لالتبستْ صُورُ المعاني بالمعاني التي هي الأغراضُ والمقاصد؛ فأطلَقوا عليها «الألفاظ»؛ فإذا وجدتَ حديثًا عن «الألفاظ» في كلام الكرام فاعلمْ أنه حديثٌ عن «صُور المعاني»، وإذا وجدتَ فَضْلًا ل«الألفاظ» في كلام الكرام فاعلمْ أنهم يُريدون «صُورَ المعاني».

• قلتُ لكم مرَّاتٍ كثيرةً: وأنا أقرأ أشعرُ - حين أقعُ على الكلمة الفاصلة في الجُزء من الكلام - أنه قد أصابني مِن الله توفيق؛ فكأنَّك «وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَى».

• أشعرُ أن الله - سبحانه وتعالى - سيُكرِم هؤلاء العلماء المُخلصين في الآخرة كما أكرمَهم في الدُّنيا؛ لأن عطاءَ عبد القاهر فيه مِن الله عطاءٌ؛ لأن عطاءَ العلماء فيه مِن الله عطاءٌ، وأنَّ الذي أعطاهم وهم على الأرض سيُعطيهم وهم تحت الأرض.

• لن تَذوقَ العِلمَ إلَّا إذا رأيتَ للعِلم عالَمًا آخر.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply