بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
مما قال فضيلة الأستاذ الدكتور محمد أبو موسى في درس شرح كتاب «دلائل الإعجاز» بالجامع الأزهر الشريف يوم الأحد: 3 من شعبان 1446ه الموافق لـ 2 من فبراير 2025م:
لُخِّص هذا الدرس بين يَدَيْ مُعلِّمنا الأكبر ورسولنا الأكرم ونبينا الأعظم؛ سيِّدنا رسول الله ﷺ وفي الجهة الناظرة إلى وجهه الكريم والروضة الشريفة.
- بدأ شيخنا الدرس بهذا الدعاء: اللهم أعنا ولا تُعن علينا، وأعنا وتقبل منا، وأعنا على أن نتبيَّن وأن نُبين، وأن نَفهم وأن نُفهم.
- دائمًا وأنا أقرأ في كتب الكرام الكبار تهزني كلمة «اعلم»؛ كأنها توقظني وتهيئني لأن أتلقى ما يأتي بعدها، كأنها طرقة إيقاظ، وهي كثيرة جدًّا في القرآن: {فَٱعلَم أَنَّهُۥ لَا إِلَٰهَ إِلَّا ٱللَّهُ}، وتجد لها جلالًا عجيبًا.
- علماؤنا في لغتهم وطريقة بيانهم أخذوا من القرآن الكثير جدًّا؛ لأنهم أيقنوا حقيقة غائبة عنا؛ هي أن هذا الذي بين أيدينا، الذي هو المصحف، من أهم أهدافه العليا صناعة الإنسان الأفضل؛ لأنه - أي هذا الذي بين أيدينا - هو صانع خير أمة أخرجت للناس.
- لا يوجد إنسان يمشي على الأرض وهو عاقل إلا وهدفه الأساسي أن يجعل من الماشين على هذه الأرض شعبًا هو من خير الشعوب.
- الذي يرى شعبه وهو في الدرك الأسفل ويرضى بذلك ويقبله فهو إنسان ليس من هذا الشعب؛ لأن كل إنسان عليه أن يحرص على أن يكون قومه وأمته وشعبه من أفضل الشعوب.
- لما قرأت قوله تعالى: {كُنتُم خَیرَ أُمَّةٍ أُخرِجَت لِلنَّاسِ} تساءلت: يا ربي، كيف نصل إلى هذا؟ كيف نكون خير أمة؟؛ فكثرت قراءتي للقرآن، وكثر تدبري في كيف يصنع القرآن العقل.
- أدهشتني الآية الأولى في سورة «تبارك» {تَبَٰرَكَ ٱلَّذِی بِیَدِهِ ٱلمُلكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَیءࣲ قَدِیرٌ ٱلَّذِی خَلَقَ ٱلمَوتَ وَٱلحَیَوٰةَ لِیَبلُوَكُم أَیُّكُم أَحسَنُ عَمَلࣰاۚ وَهُوَ ٱلعَزِیزُ ٱلغَفُورُ}؛ الموت والحياة اللذان هما أهم ما في هذا الوجود لحقيقة واحدة؛ ليبلوكم أيكم أحسن عملًا، وأحسن عملًا على الأرض؛ لأنه لا عمل تحت الأرض.
- قراءة القرآن من غير تدبر قد تأخذ منها أجرًا، إنما لن تُعطِي منها شيئًا؛ لأنك لن تُعطِي منها إلا إذا أخذت، وبدون تدبر أنت لم تأخذ شيئًا.
- كثير جدًّا من انشغالي بآيات القرآن هو في كيف يصنع الإنسانَ الأفضل.
- يدهشني حين أرى القرآن الكريم يذكر حوارًا من حوارات يوم القيامة، وأن المتحاورين مع ربنا جماعة يغلب عليهم الجهل، وأن الجهل ظل قاعدًا على قلوبهم إلى يوم الحساب.
- القرآن أنزل ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، وإخراج الناس من الظلمات معناه صناعة الأمة الأفضل، أي صناعة خير أمة أخرجت للناس.
- يا سادة، نحن لا نقرأ القرآن لكي ندخل الجنة، وإن كان دخول الجنة هو غاية الغايات، وإنما نقرأ القرآن لنصنع على أرضنا جنة.
- لا أقبل ذم الدنيا، إلا الدنيا التي جعلها صاحبها مذمومة، وذلك أنه لا يريد من حياته إلا هذه الدنيا، أما الدنيا فإن الله ما أرسل رسله إلا في هذه الدنيا، وما عُبد إلا في هذه الدنيا، وما أنزل كتبه إلا لهذه الدنيا، فلا تُذم، وإنما يُذم من جعلها هي الأول والآخر عنده.
- من أركان الإسلام ركنان ليسا إلا للأثرياء: الزكاة معناها مالٌ مُدَّخر حال عليه الحول فأنت من الميسورين، والحج معلوم تكاليفه، فهما ركنان لا يؤديهما مسلم إلا إذا كان ثريًّا؛ فمن الذي قال إن التعبد فقر وجوع وبؤس؟!
- الغفلة تضيع الدين والدنيا معًا.
- إن كنت في قوم لا يهتمون بالتعليم فاعلم أنك في قوم لا يريدون الدنيا ولا الآخرة؛ لأنهم هدموا طريق الدنيا وطريق الآخرة، وإذا كنت في قوم عُنوا بالعلم والتعليم فأنت في قوم عُنوا بالدنيا والآخرة.
- العلم كله نشأ من خلاف، ولكن خلاف العقلاء الذين يتحاورون ويتناقشون، ونِعم هذا الخلاف، ونِعم هؤلاء المختلفون.
- الخلاف الذي يورث الشتائم هو خلاف أسوأ أمة أخرجت للناس.
- قلت لكم مرة إنني وجدت أعلى قواعد المعرفة نشأت من شدة الخلاف.
- قلت لكم كثيرًا إن أهمية المعرفة هي أنها تكوِّن عقل الإنسان الأفضل.
- آتي إلى هذا الدرس لا لكي تُلتقط الصور، وإنما لكي أُفْهِم، وأقول: عسى ربنا - سبحانه وتعالى - أن يصلح بك واحدًا من هذه المجموعة؛ لأن سيدنا رسول الله ﷺ قال: "لأن يهدي الله بك رجلًا خير لك من حُمر النَّعَم"؛ فمن أول ما تعلمت ودرَّست إلى أن أدخل القبر وأنا أرجو أن يصلح الله بي واحدًا فقط خير لي من حُمر النَّعَم.
- التفاهات حلوة المذاق عند التافهين مثلما أن العلم الجليل حلو المذاق عند أهله.
- تعقيبًا على قول الإمام عبد القاهر: «فإن من شأن المعاني أن تختلف بها الصور»، قال شيخنا: هذا لا كلام فيه، وهذا لم يعترض عليه أحد بعد عبد القاهر، ويسلم به كل أهل العلم، ولكن هناك جزء غائب من الحقيقة الرائعة التي لم يعترض عليها معترض، وهو: ما الذي يُدرَك به الصور؟ سلَّمنا لك يا عبد القاهر بأن اختلاف صور المعاني هو الذي يرجع له فضل كلام على كلام، لكن هل اختلاف الصور هذا هناك علم يشرحه لنا؛ فيقول لك: لا، العلم له منطقة يقف عندها ولا يستطيع أن يتقدم خطوة بعدها؛ لأن الذي بعد هذه الخطوة التي لا يستطيع العلم أن يخطو فيها هو عقل الإنسان وذائقة الإنسان وفكر الإنسان؛ فانتهينا إلى أن فضل معنى على معنى هو في الصور، والذي يُدرك هذه الصور هو التدبر، هو الذائقة البيانية، وكأن التدبر والذائقة البيانية هو الذي يقضي قضاءً لا يُرد، وهو «حذام» التي إذا قالت صدِّقوها.
- قد نختلف في الذائقة البيانية؛ بمعنى قد ترضى ذائقتك شيئًا وترضى ذائقتي شيئًا آخر؛ فأقول لك: هذا اختلاف محصور جدًّا، وأجازه العلماء، وليس فيه مطعن في الذائقة لأن الذائقة البيانية من شأنها أن تختلف، وهذا الاختلاف لا يقدح في حكمها.
- الذي يربِّي الذائقة البيانية شيء واحد، ليس شروح العلماء وليس دروس المتفلسفين، وإنما التأمل في كلام العرب والأعراب؛ التدبر في الشعر وفي الكلام العالي.
- لو قرأت كل ما في الكتب ولم تتدبر الشعر والكلام العالي - أنا لا أقول: لم تحفظ، ولا أقول: لم تقرأ، وإنما أقول لم تتدبر - فلن تكون عندك هذه الذائقة البيانية.
- الذائقة البيانية التي إذا قالت «حذام» فصدِّقوها فإن القول ما قالت «حذام» لا يكوِّنها لك أحد إلا أنت، وليس لك طريق إلا تدبر كلام العرب والأعراب.
- حين أجد كلمة «التدبر» كثرت في كلام الله أشعر أنها هي الصانعة للإنسان الأفضل.
- لا تستطيع أن تقضي بأن «زيد كريم» هو نفسه «زيد كثير الرماد»؛ لأن «كثير الرماد» فيها شيء ليس في «كريم»؛ هو أنك في «كريم» فهمت المعنى من اللفظ، وفي «كثير الرماد» لم تفهم المعنى من اللفظ، وإنما فهمت المعنى من معنى «كثير الرماد»، بعد ان أعملت فيه عقلك؛ وذلك لأن كثرة الرماد من كثرة الإحراق، وكثرة الإحراق من كثرة الطهي، وكثرة الطهي من كثرة الأكلة، وهذا هو الكرم، كأن العقل لم يصل إلى معنى الجود من «كثير الرماد»، وإنما تدبر وتأول وانتقل من خطوة إلى خطوة، هذه الخطوات للعقل التي وصل بها إلى جواد هي التي بها تَفضُل الكنايةُ التصريح.
- بحث العلماء عن الشيء الذي به يَفضُل الشيءُ الشيءَ هو المنتج لعلمهم.
- أريد أن أقف مع الرافعي قليلًا، الرافعي أساء إلى علماء الإعجاز جميعًا: الرماني والخطابي والباقلاني وعبد القاهر، واعتبرهم متكلمين، وأن كلامهم في الإعجاز لا قيمة له، وأنا حقيقة أحب الرافعي وأقدره، ولكني وجدته ليس على صواب في هذا الأمر؛ فكتبت مقالًا في سلسلة مقالاتي في مجلة الأزهر بعنوان: «إنصاف الكرام من الكريم»؛ فالرافعي مخطئ، ولكن الرافعي هو الرافعي.
- إذا وجدتَ خطأ ظاهرًا لسيبويه فاعلم أن سيبويه هو سيبويه، وأن هذا الخطأ الظاهر لا ينقص قدر سيبويه، وخطأ الرافعي لا ينقص قدر الرافعي إلا عند الذين يعتبرون أن الأخطاء لا تُغفر، وأنه ما دمت أخطأت توضع في القائمة السوداء ونُحبط عملك، يا سيدنا القرآن يقول إن الحسنات يُذهبن السيئات، وليس في الكتاب والسُّنة أن السيئات يُذهبن الحسنات.
- إذهاب الحسنات للسيئات ليس شريعة سيدنا رسول الله فقط، إنما هو شرائع الأنبياء جميعًا؛ مثل: {قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد} كل كتب الله فيها هذا المعنى، و«الحسنات يُذهبن السيئات» في كل كتب الله هذا المعنى، و«ليس كمثله شيء» في كل كُتب الله هذا المعنى.
- انتهى كلام علماء الإعجاز إلى أن إعجاز القرآن راجع إلى نظمه، لكن الرافعي قال: سأبحث الآن عن وجه الإعجاز، وخرج بشيء لم يقله أحد إلا هو - وهذا هو التفرد، تقبل أو لا تقبل، فلا بد أن تقر بأن هذا هو التفرد - فذكر الرافعي شيئًا ربما كان من تجربته الشخصية، وهو أن الإنسان إذا نبغ في باب من أبواب العلم أو في باب من أبواب الأدب أو في باب من أبواب الشعر تعلَّقتْ نفسه بصورة مثالية عليا للشعر، بصورة مثالية عليا للأدب، وظل طول حياته يكدح ويسعى وهو يحاول أن يصل إلى هذه الصورة العليا، ويموت قبل أن يصل، فقال الرافعي إن الخطباء والشعراء وأهل الفصاحة من الجاهليين كانت إذًا عندهم صورة عليا للفصاحة وللبيان وللبراعة، وهم يسعون إليها ولم يصلوا، فلما سمعوا ما أنزله الله على محمد رأوا أن هذه هي الصورة العليا التي يجتهدون أن يقاربوها فلم يقاربوها فأقروا بالعجز.
- الرافعي لأنه كان في صراع في حياته مع طه حسين ومع العقاد، هذا الصراع أغراه بأن يتهم المخالفين.
- لم أجد كلمة تصيب عين الحقيقة في كلام عبد القاهر الجرجاني كقوله: «ارجع إلى نفسك»؛ نفسك التي هي «حذام» التي إذا قالت فصدِّقوها.
- الخراب يأتي إذا كانت «حذام» غبية وفاشلة ونحن نقول: القول ما قالت حذام، قل القول ما قالت حذام وهذا صواب، إنما إذا كانت حذام غبية وفاشلة فاحذر أن تقول: القول ما قالت حذام، ويكفي فشل حذام، ولا تضف إلى فشل حذام نفاقًا يقول إن القول ما قالت حذام.
- أريد أن ألقى الله وأنا على يقين بأن المصحف معجز، ولن أكون على يقين بأن المصحف معجز لأن الناس قالوا عنه إنه معجز، وإنما أكون على يقين أنه معجز إذا أدركت نفسي أنه معجز، نعم يمكن أن ألقى الله مقلدًا للعلماء، إنما أنا أحب أن ألقى الله وأنا أجد حلاله وحرامه في نفسي.
- سماع القرآن وسماع الشعر هما اللذان يُريانك أن هذا القرآن قاطع للأطماع وقاهر للقُوى والقُدَر.
- في كلام العلماء كلام لا غنى لك عن حفظه، وكتابته في الورقة، وكتابته في قلبك.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين