بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
كثير من الناس لديهم تحفّظ شديد من كلمة "مقام". عندما يسمع هذه الكلمة يربطها فورًا بالموسيقى، وكأنها شيء خارج من حفلة، أو نغمة من معزوفة، فيرفضها تمامًا.
لكن، دعونا نبدأ من البداية.
حين يقرأ الإنسان القرآن، حتى لو لم يتعلّم المقامات، هو يقرأ بمقام. غصبًا عنه، بدون أن يشعر، صوته يعلو وينخفض، ويتلوّن حسب المعنى. يبكي حين تلامس الآية قلبه، ترتفع نبرته عند التعظيم، وتهدأ عند التضرع. وهذا بحد ذاته ليس "تنغيم"، بل هو "مقام" وإن لم يسمّه كذلك. فالمقام ليس بدعة، ولا اختراعًا طارئًا، هو نمط طبيعي، متكرر في أداء الناس منذ نزول القرآن.
والمشكلة ببساطة، في التسمية.
عندما يسمع البعض كلمة "حجاز" أو "رست" أو "صبا"، فهم يرفضونها لأن أصلها موسيقي. لكن من قال إن المشكلة في التسمية؟ لماذا لا نغيّر الاسم ونبقي على الجوهر؟ ليكن "مقام الحجاز" هو "مقام الشجن"، وليكن "الرست" هو "مقام التعظيم"، لا فرق. فالمعنى باق، والصوت نفسه، لكن النفس اطمأنت.
أحد الباحثين اقترح هذا في رسالته للدكتوراه، واستُقبل اقتراحه بقبول حسن، لأنه قدّم العلم بصيغة يقبلها المحافظون دون أن يتنازل عن مضمونه.
المقامات ليست دخيلة على القرآن، إنما التعبير الصوتي جزء أصيل من فن التلاوة. خذ مثالًا: عندما تسمع الشيخ محمد أيوب رحمه الله وهو يقرأ ﴿الرحمن الرحيم﴾، تشعر بطمأنينة. تشعر بأن الصوت يهمس لك بلطف. هذا هو "مقام الحجاز"، وإن لم يسمه أحد بهذا الاسم. وحين تسمع سعد الغامدي في قوله تعالى: ﴿قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله﴾، تسمع نغمة صبا تبث رجاءً يخرج من صدر قلب خاشع.
كل هذا لم يُتعلم من آلات موسيقية، بل من القُرّاء... من المحراب... من أئمة الحرم... من التجربة والخشوع. أحدهم تعلّم هذه المقامات من عطار في حيّ قديم، كان يسمع الصوت، ويقول له: "أنت الآن تقرأ على مقام كذا". فلا معهد موسيقى ولا نوتة ولا وتر. بل قلوب سمعت القرآن وتذوّقته، ثم علّمته للناس.
إذن فالقضية ليست في المقامات، بل في طريقة تقديمها.
لا أحد يطالبك أن تغني، ولا أن تتعلّم من المغنين. بل أن تقرأ القرآن بصوتك... بروحك... بنغمتك الطبيعية التي توافق المعنى وتُدخل الهيبة في القلب. رسول الله ﷺ قال لأبي موسى الأشعري: "لقد أوتيتَ مزمارًا من مزامير آل داوود"، وكان أبو موسى لا يعلم أن النبي يستمع إليه، فقال: "لو علِمتُ لحبَّرتُهُ تَحبيرًا، ولشوَّقتُكُنَّ تشويقًا". هذه العبارة وحدها درس عظيم.
بل قال النبي صلى الله عليه وسلم: "زينوا القرآن بأصواتكم"، وقال: "ما أذن الله لشيء كإذنه لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن". ليس المقصود هنا التغني بمعناه الغنائي، بل الأداء الحي المليء بالشعور، الذي يحملك مع كل آية كأنك تراها رأي العين.
فلا ترفض المقامات لأنها سُمّيت بأسماء موسيقية. ولا تتبناها أيضًا على طريقة أهل الغناء. اجعلها جسرًا بينك وبين فهم معاني القرآن. اقرأ بصدق وبلحنٍ فيه خشية، وفيه حب وشوق.
اقرأ... كما لو أنك أول من سمع الآية، وأول من فُتح له باب المعنى!
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين