إذا أقبلت العشر

114
5 دقائق
4 ذو الحجة 1446 (01-06-2025)
100%

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ}. معاشر المؤمنين الكرام: أيامٌ قلائل، ويستقبلُ المؤمنون أفضلَ أيامِهم، بل أفضلَ أيامِ الدنيا. يستقبلون العشرَ المباركة، عشرُ ذي الحجةِ.

جاء في صحيح البخاري قال : "ما من عَمَلٍ أَزْكَى عِنْدَ الله عزَّ وجلَّ ولا أَعْظَمَ أَجْرًا من خَيْرٍ يعملهُ في عَشْرِ الْأَضْحَى، قِيلَ: ولا الْجِهَادُ في سَبِيلِ الله؟ قال: ولا الْجِهَادُ في سَبِيلِ الله عزَّ وجلَّ إلا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فلم يَرْجِعْ من ذلك بِشَيْءٍ". أيامٌ فاضلةٌ، وموسمٌ مباركٌ، وأوقاتٌ ثمينةٌ نفيسةٌ، فهي بنص الاحاديث الصحيحة أعظمُ الأيّام عند الله فضلًا، وأكثرُها أجرًا، وأحبُهَا إليهِ عملًا. إنها عشرٌ مباركات، عاليةٌ الدرجات، مُتعددةُ الفضائلِ والمميزات. أقسمَ الله بها فقال: {وَلَيالٍ عَشْرٍ}، واللهُ لا يُقسمُ إلا بعظيم، كما أن العبادات كلها لا تجتمعُ إلا فيها. وفيها يومُ عرفةَ، يومُ الحجِّ الأعظم، ما رئي الشيطانُ أصغرَ ولا أحقرَ ولا أدحرَ مِنهُ في ذلك اليوم، لما يَرَى من كثرة تنَزُّلِ الرحمات.

وفيها يومَ النَّحرِ، يوم العيد ويوم الحج الأكبر، أفضلُ الأيام كما في الحديث. فهي إذنً أيامٌ مُباركات، تتنوعُ فيها الفضائلُ والخيرات، وتتضاعفُ فيها الأجورُ والحسنات، وتزدادُ فيها النفحاتُ والرحمات، فحريٌ بالمسلم أن يستقبلها بتوبةٍ صادقةٍ نصوح، وأن يعزمَ على اغتنامها، وأن يحرص على الإكثار من الأعمال الصالحةِ فيها.

وأما أفضل الأعمال المشروعة فيها: فالإكثار من الذكر بأنواعه، جاء في الحديث الصحيح: (فأكثروا فيهنَّ من التهليلِ والتكبيرِ والتحميد). والذكر كما يشملُ الحمدَ والثناء، فهو يشملُ التلاوةَ والاستغفارَ والدعاء.

والذكرُ أيها الموفقون: هو أيسرُ العبادات واسهلها، واجلُّها وأفضلُها، قال تعالى: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ}، وفي الحديث المشهور: "أَلَا أُنَبِّئُكم بِخَيْرِ أعمالِكُم، وأَزْكاها عِندَ مَلِيكِكُم، وأَرفعِها في دَرَجاتِكُم، وخيرٌ لكم من إِنْفاقِ الذَّهَب والوَرِقِ، وخيرٌ لكم من أن تَلْقَوا عَدُوَّكم، فتَضْرِبوا أعناقَهُم، ويَضْرِبوا أعْناقكُم؟، قالوا: بَلَى، قال: ذِكْرُ اللهِ". ذِكرُ اللهِ جلَّ وعلا: هو قوتُ القلوبِ، وقرةُ العيونِ، وسُرورُ النفوس، وانشراحُ الصدور، ورَوْحُ الأرواحِ. يطردُ الشيطان، ويرضي الرحمن. ويقوي القلبَ، ويُنشطُ البدنَ، ويُنورِ الوجه. ويغمرُ القلبَ أُنسًا وسكينةً وطمأنينة، {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}.

بالذكر تُستجلبُ النِّعم، وتُستدفعُ الشرورُ والنِّقم، وتكفَّرُ الذنوبُ والمعاصي وان كانت مثل زبدِ البحر. بل إن ذِكرُ الله تعالى: هو رأسُ الشكر، وعنوانُ المحبة، وغِراسُ الجنة، وهو سببُ تنزُّلِ السكينةِ، وغِشيانُ الرحمةِ، وحُفوفُ الملائكة، وذِكرُ الله للذاكر. {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ}.

ولئن كان الذكرُ هو أفضلُ ما يُعملُ في هذه العشر، فإنّ الصلاةَ على علو مكانتها نوعٌ من الذكر، قال تعالى: {فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي}، والصلاةُ فرضًا ونفلًا هي أفضلُ الأعمالِ المشروعة وأعظم الأسباب المتيسرة لنيل محبةِ اللهِ ورضوانه.

في الحديث القدسي الصحيح: "وما تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بشَيءٍ أحَبَّ إلَيَّ ممَّا افْتَرَضْتُ عليه، وما يَزالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بالنَّوافِلِ حتَّى أُحِبَّهُ". فالله الله في المحافظة على النوافل.

وكذلك الإكثارُ من الصدقة، فالصدقةُ في هذه الأيامِ، أفضلُ من الصدقةِ في رمضان. وإذا كان صيامُ أيَّ يومٍ في سبيل اللهِ يباعدَ اللهُ به بين الصائم وبين النار سبعينَ خريفًا، فكيفَ بالصيام في هذه الأيامِ المباركة.

ثم إنَّ المؤمن إذا لاحظ بعين البصيرة، فسيجدُ أنَّ هذه الأيامَ المباركةِ تقعُ في أواخر العامِ. لكأنَّها فرصة أخيرةٌ للمُفرطين والمقصرين؛ ليتداركوا أنفسهم، وليعوضوا ما فاتهم، وليصلِحوا أخطائهم، وليتذكر العبدُ بنهاية سنتهِ نهايةَ عُمُرهِ، فيعقدَ العزمَ على استثمار ما بقيَ لهُ من عُمره، فهذه الدنيا أيامٌ قلائل، سرعان ما تمضي وترحل. وهكذا فكلُّ ما من يُصيبُ الانسانَ من عُسرٍ أو يُسر، فهو كذلك مع مرور الأيامِ يُنسى ويضمحِلُ. فحريٌّ بالمسلم العاقل، أن يتعظَ ويعتبر، وأن يستثمرَ أوقاتهُ بالطاعات والذكر؛ لعلمِه أنَّ العاقبةَ للتقوى، وأنَّ ما يلحقُه من التعب والمشقةِ يزولُ ويُنسى، وأنَّ ما وعِدَ به من الثواب والجزاء خيرٌ وأبقى، يتنعمُ به خالِدًا مخلدًا في جنَّة المأوى، وكذلك حريٌّ به أن يتركُ المحرماتِ ويهجُرها، ليقينه أن لذتها تزولُ بزوالها، ويبقى عليه وزرُها وشؤمها، وكذلك أن يستفيدَ من الأزمانِ الفاضلة، والأوقاتِ المباركة التي اختصها الله تعالى بشعائره العظيمة، فيعظمَها كما عظَّمها الرَّبُّ تبارك وتعالى، ويخُصَّها بكثرة النوافلِ والقربات، فالمغبونُ بحقٍّ من فاتتهُ هذه الفُرَصُ الثمينةُ، وفرَّطَ فيها.

والمحرومُ بصدقٍ مَن دعَتهُ دواعي الخيرِ فأبطأ عنها ولم يغتنمها. والخسارةَ كُلُّ الخسارةِ لمن ضيَّع أفضلَ أوقات الدنيا في اللهو والغفلة، فلسوفَ يتحسَّرُ ويندمُ يومَ لا ينفعُ الندم: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالعِبَادِ}.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيم}.

اتقوا الله عبادَ الله وكونوا من أهل الخشية والمراقبة، فهم الذين ينتفعون بالذكرى والموعظة، قال جل وعلا: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ}، وجاء في وصيةِ المصطفى : "اِغتَنِمْ خَمسًا قَبلَ خَمسٍ: شَبَابَكَ قَبلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبلَ فَقرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبلَ شُغلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبلَ مَوتِكَ". وكم هي والله جميلةٌ وصية مؤمن آل فرعون لقومه حين وعظهم قائلًا: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ * مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حساب}.

فيا من أعاقَتهُ ذنوبُه، وأثقلته معاصيه، وجَرّتْه الدنيا إلى أوحالِ الغفلة. إذا أقبلت العشر: فاعلمْ أنَّ لك ربا كريما رحيما، يحب التوابين، ويفتحُ أبوابَهُ للعائدين، ويُقبِلُ برحمته على المقبلين. ويبشرهم بقوله: {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيم}.

إذا أقبلت العشر. فهيأ نفسك، وصفِّ قلبك، وأعلن توبتك، وفرَّ إلى ربك، فما لك من إله غيره. {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم}.

إذا أقبلت العشر: فاستبشرْ يا عبدالله وقل لنفسك: ها قد هبت نسائم المغفرة، وأقبلت نفحات الرحمة. وفتحت أبواب القبول، وآن أوانُ الجد والعمل، {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِين}.

إذا أقبلت العشر: فادعُ اللهَ بحرارةٍ ورجاء، أن يُعينك على حُسن اسثمارها. وأن يوفقك لاستغلال كل لحظةٍ من لحظاتها، واسأله العون على ما يحبُّ ويرضى من الأقوال والأعمال، {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.

إذا أقبلت العشر: فأقبلْ على اللهِ بقلبٍ مشتاق، ونفس راغبة، وعزيمة متوقدة، وادخُل ساحة التنافس، وسابق مع المسابقين، وسارع مع المسارعين، واسْعَ إلى الله مع الساعين، ف {إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُون}.

إذا أقبلت العشر. فاعلمْ أنَّ العملَ فيها أحبُّ إلى اللهِ من العملِ في غيرِها، فشمرْ عن ساعدِ الجدِّ، وتغانم غنائمِ البرِّ، فوالله لو قيل لأهل القبور تمنو لتمنو يوما من العشر. {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُون * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُون * فِي جَنَّاتِ النَّعِيم}.

إذا أقبلت العشر. فأَكثِرْ من ذِكرِ اللهِ، ورطب لسانك بسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله. واعكفْ على كتاب ربك تلاوةً وتدبّرًا، فإنه نور لك في الأرض وذكر في السماء، ويأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه.

ومن شفع له القرآن فقد نجا: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا}.

إذا أقبلت العشر. فصل من قطعك، واعط من حرمك، وسامح من ظلمك، وابذل من المعروف كل ما في وسعك،{وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ}.

إذا أقبلت العشر يا عباد الله، فاتقوا الله وكونوا مع الصادقين. واحسنوا فإنَّ الله يحب المحسنين، وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون، {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِين}.

ألا فاتقوا اللهَ رحمَكُم اللهُ وسَارِعوا في الخيرات، ونَافِسوا في المكرُمات، واجتهدوا في القربات، وأكثِروا مِنْ الطاعَات، ودَاوِموا على الذِّكرِ في هذه الأيامِ المباركات، {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}.{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون}.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين


مقالات ذات صلة


أضف تعليق