بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
رُوِّينا في صحيح البخاري -أصحِّ كتابٍ في الدنيا بعدَ كتابِ الله عز وجل- عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إنّ العبدَ ليتكلمُ بالكلمة مِن رضوان اللهِ لا يُلقي لها بالًا؛ يَرفعُه اللهُ بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة مِن سَخَط اللهِ لا يُلقي لها بالًا؛ يَهوي بها في جهنم".
هذا غراسُ الغافلين. فأمّا غفلةُ الصالحِين ؛ فأكرِم بها مِن غفلةٍ ؛ فليست بغفلة عن شرع اللهِ ولا عن طاعته سبحانه، وإنما هي الغفلةُ عن آثار أعمالهم التي عملوها بمقتضى إيمانِهم ؛ فصار بعضُ عملِهم سجيةَ نفوسِهم، فقد يوَفَّقون لِقَولَةٍ يقولونَها أو فَعلةٍ يفعلونها ؛ فتكون لها الآثار العظيمة ؛ فهذه الغفلةُ غِراسُها الأزهارُ وأطايِبُ الأشجارِ، يُلقِي أصحابُها بذورَها مِن حيث لا يشعرون وهم في دروبهم سائرون ؛ فتُنبتُ وتُزهر وتُثمرُ وتزدانُ وتَنفعُ أُمَمًا مِن بَعدِهم ينالون بها الثوابَ الجزيلَ ؛ فلهم أجرُها وأجْرُ مَن انتفعَ بها كما أخبرنا صلى الله عليه وآله وسلم في الصحيح إذ يقول: "مَن دعا إلى هدًى كان له مِن الأجرِ مثلُ أجورِ مَن تَبِعَه، لا يَنقُصُ ذلك مِن أُجُورهم شيئًا" ؛ هنيئًا لهم واللهِ هنيئًا، وإنّ العاقلَ لَيَغبِطُ هؤلاءِ على ما نالوهُ مِن الأفضالِ والمَنازلِ العاليةِ التي قد يَسعىٰ لها بجهدِه ؛ فلا يُبَلَّغُها، وقد نالَها أولئك وهم عنها غافلون.
وإنّ التاريخَ قد حفظَ لنا مِن أقاصيصِ غِراسِ الغافلينَ ما حفِظَ، فمِن ذلك ما رُوِّيناه في الصحيح عن جُبَيرِ بن مُطْعِمٍ رضي الله عنه قال: "سمعتُ النبيَّ ﷺ يَقرأُ في المغربِ بالطُّورِ، فلمّا بَلَغَ هذه الآيةَ: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾ ﴿أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ﴾ ﴿أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ﴾ ؛ كادَ قَلبِي أنْ يَطِيرَ"، وحاشا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يكون مِن الغافلين ؛ بل هو إمام الذاكرين المخلصين الحاضرين بِنِيَّاتهم وقلوبهم، وإنما كان غافلًا عن استماعِ جبيرٍ إلى تلاوته ؛ فكان لها هذا الأثرُ العظيمُ، وتأمّلْ في كلمةِ جبير "كاد قلبي أن يطير" وانظر إلى عظيمِ الأثرِ مِن آياتٍ استمع إليها وهو عابرٌ، وكان ذا قلبٍ حاضرٍ ؛ فكم كلمةٍ عظيمةٍ تمُرُّ على المرءِ وهو لا يشعر، ثم تمرُّ عليه وهو حاضرُ القلبِ ؛ فتقعُ في قلبِه موقعًا عظيمًا. ويبدو -والله أعلم- أن هذه الآيات التي استمع إليها من تلاوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانت سببَ إسلامه كما أشار إلى ذلك ابن كثير -رحمه الله-.
ومِن قصص غراس الغافلين قصةُ جمعِ صحيحِ الإمام أبي عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري -رحمه الله تعالى ورضي عنه؛ إذ جاء عنه أنه * كان يومًا في مجلسِ الإمامِ إسحاق بن راهويه -رحمه الله- ؛ فقال إسحاق: لو جمعتم كتابا مختصرا لصحيح سنة النبي ﷺ؛ فوقع هذا القول في قلب البخاري ؛ فأخذ في جمع صحيحه*. فانظر إلى هذه البذرةِ التي ألقاها إسحاقُ -رحمه الله- كيف غرست في صدر البخاري؛ فأنبتت وأثمرت - وأَطيِبْ بثمرِها المبارك - وآتتْ أُكُلَها أضعافًا، ولا يزال الناسُ ينالون مِن بركاتها ويجتمعون على موائدها؛ أَفَلَا يدعوك هذا إلى أنْ تَنثُرَ مِن بين شفتَيك النصائحَ، وتأمرَ هذا بالخيرِ، وتَنهى ذاك عن الشرِّ؛ عسىٰ أنْ تُصادفَ أرضًا طيِّبةً تُنبِتُ وتُثمر؛ فيكون لك أجرُها وأجرُ مَن انتفع بها؟!.
ومنها ما روي أن سيبويه قصد مجلس حَمَّاد بن سلمة - رحمه الله -؛ فكان يستملي عليه سيبويه حديثا جاء فيه: قال صلى الله عليه وسلم: "ليس من أصحابي أحد إلا لو شئت لأخذت عليه ليس أبا الدَّرداء"، فقال سيبويه: «ليس أبو الدَّرداء» ظنّه اسمَ ليس؛ فصاح به حمَّاد: لحنت يا سيبويه، ليس هذا حيث ذهبتَ؛ إنما هو استثناء فقال سيبويه: لا جَرَم، والله لأطلبنَّ علمًا لا تُلَحِّنَنِّي فيه أبدًا.
فكانت توبيخةُ الإمامِ حماد بن سلمة -وما أجملَ توبيخَ الكبارِ لطلّابِهم- سببًا لِنبوغِ سيبويه إمامِ النحْوِيِّين الذي ما جاء بعده مثله وكان المنتهىٰ في هذا الفن ؛ فهذه التوبيخةُ مِن المعلِّم الناصحِ المشفقِ كانت بذرةً وقعتْ موقعَها ؛ فأثمرتْ.
ومِن غراسِ الغافلين غراسُ والدي عيسى بن أحمد العمادي -حفظه الله- الذي غرسَ في نفْسِ ابنِه حُبَّ الكتبِ والقراءةِ بفعلِه لا بقوله ؛ فكان يَضعُ مكتبةً صغيرةً في صالة البيتِ، وكان لا يقطعُ عنه المجلات القصصية الأسبوعية؛ فأثمرَ هذا الفعلُ في قلبِه؛ فكانت هذه المكتبة الصغيرةُ تناديه وتدعوه حتى وقع في حبِّها وما تخلَّصَ منها؛ بل نَمَتْ في قلبه وشَبَّ على حبِّها والتزود منها.
وفي التاريخ من هذا الباب كثيرٌ، وإنما ذكرت نماذج تستدعي في ذهنك سِواها وترشدُك إلى النظرِ في مثلِ محتواها؛ لتدفعَك إلى بذلِ النصيحةِ بصدقِ نيةٍ؛ لعلها تكون سببًا في خيرٍ عظيمٌ لا يخطر ببالٍ.
وأما غفلاتُ الفاسقين فغراسُها شرُّ غراسِ الغافلين عن ذكر الله؛ فهي غراسٌ عاقبتُه الندامة والخسران، وهي التي تُنبِتُ شجرةً كشجرة الزقوم، تُحمِّلُ صاحبَها وِزرَه ووزرَ مَن عملَ بدعوتِه، وإمامُها إبليسُ الذي هو إمام الغافلين؛ فاحذر من كلمةٍ أو فعلةٍ يَتبعُك فيها الخلائقُ فتُردِيك. وإن أيّامَنا أيامٌ سهُلَ فيها اجتلابُ الآثامِ على النفوسِ؛ فما هي إلا ضغطةٌ واحدةٌ تُضِلُ بها خلائقَ ممن يستمع إليك ويُتابعُ منشوراتك وأنت غافلٌ عن ذلك.
أعاذنا اللهُ وإياكم مِن الغفلةِ عن ذكر الله، وجعل غفلاتِنا كغفلاتِ الصالحين المحسنين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين