بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
ربما وقفتَ كطالب علمٍ حائرٍ في كتب التجويد أمام الغنّة، فشعرتَ بأن المسألة أعقد مما تبدو، وأن ثمّة شيئًا يلتفّ خلف حروف النون والميم لا يظهر تمامًا من أول نظرة. فما هذه الغنّة؟ أهي صوت مستقل؟ أهي حرف؟ أم صفة؟ وما سرّ هذا الصوت الذي يرافق النون والميم، لا يفارقها في حالٍ من الأحوال؟
لنبدأ من موضعٍ واضح: الغنّة صوت يخرج من الخيشوم. هذا ما عليه علماؤنا السابقون، وهو ما يعبّر عنه في اصطلاح العصر بـ "التجويف الأنفي". لكن، ماذا يعني أن يكون الصوت يخرج من الخيشوم؟ وهل هذا وحده كافٍ لنفهم طبيعة الغنّة؟
الغنّة ملازمة للنون والميم، ملازمة الجسد لروحه. لا نون بلا غنّة، ولا ميم بلا غنّة. انظر إلى قوله تعالى: ﴿مِن نُّطْفَةٍ﴾، ﴿ثُمَّ مَاتَ﴾، وتمعّن في هذا الصوت الأنفي الذي يخرج حين تنطق "من"، أو "ثمّ". هذا هو الذي يُسمّى غنّة.
لكنها ليست واحدة في كل المواضع. تختلف، تطول وتقصر، تظهر وتخفت، بحسب ما قبلها وما بعدها من الحروف. ولهذا جاء السؤال الحرج: أهي حرف أم صفة؟ وهنا تُفكّك العُقدة.
الغنّة من حيث ارتباطها بالنون والميم هي جزء من الحرف، لا يمكن فصله عنه. هي جزء من بنيته. ولذلك قال علماءنا: الغنّة لها مخرج، أي يُمكن تحديد موضع خروجها، تمامًا كما تُحدّد مخرج الباء أو الفاء. ولكنها في ذات الوقت، حين نتأمّل اختلاف طولها بحسب السياق، نراها صفةً؛ لأن الطول والقِصر من صفات الحروف.
قال الإمام الجزري رحمه الله: وأظهرنَّ غنّةً من نونٍ وميمٍ إنّ شدّدا.
فإن شدّدت النون أو الميم، ازدادت الغنّة طولًا، وظهر صوتها بوضوح. وإن أُخفيت النون - كما في الإدغام أو الإخفاء- نقص زمن الغنّة، لكنها لم تغب.
قسّم العلماء مراتب الغنّة إلى أربع، بحسب زمنها:
- أطولها: في النون والميم المشددتين.
- يليها: في النون والميم المدغمتين.
- أقل منها: في النون والميم المخفيتين.
- أقصرها: في النون والميم المظهرتين الساكنتين، ثم المتحركتين.
فالغنّة إذًا تُقاس بالزمن، وهذا المقياس ليس جامدًا، بل مرن، يتغيّر بتغيّر أداء القارئ. فإن قرأ بتحقيق، طال زمن الغنّة. وإن قرأ بتدوير أو حدر، قصر، لكن التناسب بين المراتب لا ينهار.
وقد يسألك سائل: هل الغنّة تزداد باعتمادٍ على الخيشوم؟ والحق أنّ هذه العبارة – وإن راجت على ألسنة بعض المعاصرين – لا تجد لها أثرًا واضحًا عند الأئمة السابقين، بل مدار كلامهم على الزمن، لا على موضع الاعتماد.
ما نريد أن نخلص إليه: أن الغنّة من حيث الصوت والمخرج، جزء من الحرف؛ ومن حيث الطول والقصر، صفة له. وهذه الثنائية ليست اضطرابًا، بل هي من دقائق علم التجويد، التي تحتاج إلى تأمّل أكثر من الحفظ.
مراتب الغنّة الأربع: سُلّمٌ من أنفاس الحروف.
حين ننتقل من الحديث عن "ماهية الغنّة" إلى "مراتبها"، فنحن لا نغادر الموضوع، بل نغوص أعمق فيه. الغنّة ليست مجرد صوت أنفي يُرافق النون والميم، بل لها أطوال مختلفة، ونسبٌ دقيقة، تستشعرها الأذن الواعية، قبل أن يضبطها الميزان.
قد يظن بعض طلاب العلم أن الغنّة واحدة، في كل موضع... ولكن الحقيقة غير ذلك. فالغنّة تتفاوت، وتعلو وتنخفض، بحسب أحكام النون والميم، من إدغام وإخفاء وإظهار وتشديد. وقد فصّل العلماء هذه المراتب إلى أربع، لا خامس لها:
المرتبة الأولى: الغنّة في النون والميم المشددتين (أكمل الغنّات).
وهذه هي الذروة. الصوت يبلغ مداه، والأنف يمتلئ بأنينٍ رخيم. مثل قوله تعالى:
﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾
﴿عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ﴾
الغنّة هنا طويلة، واضحة، لا يمكن تجاهلها، ولا يجوز اختزالها. يصفها العلماء بأنها "أكمل ما تكون"، لأن الاعتماد على المخرج فيها شديد، والزمن أطول.
المرتبة الثانية: الغنّة في النون والميم المدغمتين (كاملة لكنها أقل).
وهنا تغيب صورة الحرف الأول، وتبقى الغنّة مرافقة للثاني، كما في قوله تعالى:
﴿مِن رَّبِّهِمْ﴾
﴿وَمَن يَعْمَلْ﴾
الغنّة هنا أيضًا طويلة، لكنها أقل من المشددة، لأن الحرفين تداخلا، واختفى الأول، وبقي الأثر. هي غنّة كاملة، لكن ليست أكمل.
المرتبة الثالثة: الغنّة في النون والميم المخفيتين (ناقصه).
وهنا يبدأ الصوت بالخفوت. لا يظهر الحرف ولا يندمج تمامًا، بل يُخفى، وتظهر الغنّة كظلٍ خفيف. كقوله تعالى:
﴿مِن ثَمَرَةٍ﴾
﴿وَإِمَّا تُبْدِيَنَّهُ﴾
الغنّة هنا "ناقصة"، لكنها لازمة. ليست طويلة، ولا شديدة الاعتماد على المخرج، ولكنها باقية كأثر النور بعد الغروب.
المرتبة الرابعة: الغنّة في النون والميم المظهرتين أو المتحركتين (أنقص المراتب).
وهذه أضعف مراتب الغنّة، لكنها لا تزول. كقوله تعالى:
اللسان يرتفع للحرف، والغنّة تبقى، لكن زمنها قصير، وخفيفة الأثر.
تنبيهٌ لا بد منه؛ قد يسأل أحدهم: كيف نضبط هذه الأطوال؟ كيف أفرق بين غنّة المدغم والمخفي؟
والجواب: ليس بالعين ولا بالمعادلات، بل بالأذن. بالأداء المُتْقَن، والتلقّي عن مشايخ القرّاء. هذه المراتب ليست أرقامًا جامدة، بل نسبٌ مرنة، تنضبط بالسماع والممارسة.
قالوا: "الغنّة في المشدد أطول منها في المخفي، والمخفي أطول من المظهر الساكن، وهذا أطول من المتحرّك"، ولكن لا يعني هذا أن الأولى ضعف الثانية، بل هي فروق دقيقة، لا تدركها إلا آذانٌ درّبتها التلاوة.
فإن قرأ القارئ بالتحقيق، طالت الأزمنة كلها. وإن قرأ بالحدر، قصرت كلها. لكن التناسب لا ينهار. كل غنّة تبقى في مرتبتها، ولو قصر زمنها. وهذه هي العبرة.
فيا طالب القرآن، اعلم أن الغنّة ليست زيادة صوتٍ مزعجة، ولا حشرًا أنفيًّا للحرف، بل هي ميزانٌ من الجمال في كتاب الله. إنْ أتقنتها، رقّ تلاوتك، واستقامت ألفاظك. وإن فرّطت فيها، خَفِيَ المعنى، وضاعت الأنفاس بين الميم والنون.
فتعلّمها كما جاءت، لا تُجوّد بحدسك، بل بسمعك، ولا تتكلف، بل تدرّب. وإن لم تفهم العبارة "زيادة اعتماد على الخيشوم"، فلا تقلق... ما فهمها من سبقك، ولكنهم أحسنوا الأداء دونها.
الذي يقرأ القرآن، لا بد له أن يمرّ بهذه المفترقات الأربعة: إظهار، إدغام، إخفاء، إقلاب.
والذي يعي الغنّة، لا يمكنه المرور إلا وهو يُصغي لصوتها في كلّ مقام. فهي ليست زينة صوتية، بل هي جزء من الحرف، أو صفة له، كما تقدّم.
فكيف تتعامل الغنّة مع هذه الأحكام؟ هل تبقى كما هي؟ هل تطول أو تقصر؟ هل تبرز أم تتوارى؟
لنمضِ بهدوء في كلّ طريق من هذه الطرق.
أولًا: الغنّة في الإظهار (الميم والنون مع الحروف الحلقية).
الإظهار يعني: أن تبيّن النون أو الميم عند حروف الحلق الستة: (ء، ه، ع، ح، غ، خ).
هنا لا يوجد إدغام، ولا إخفاء. بل يُظهَر الحرف بوضوح.
فهل الغنّة تبقى؟
نعم. تبقى. لأن الغنّة جزء من النون والميم كما سبق، لكنها تكون أنقص المراتب.
زمنها قصير، اعتمادها خفيف، لكن أثرها لا يزول.
قوله تعالى:
﴿مِنْ عِلْمٍ﴾
هنا لا تدغم النون، ولا تُخفى، لكن الغنّة باقية، قصيرة، تكاد تُحَسّ ولا تُرى.
ثانيًا: الغنّة في الإدغام (خصوصًا الإدغام بغنة).
الإدغام نوعان:
إدغام بلا غنة (ل، ر).
إدغام بغنة (ي، ن، م، و).
فإذا أدغمت النون الساكنة أو التنوين في أحد حروف الإدغام بغنة، ظهرت الغنّة في أجلى صورها.
هي هنا في المرتبة الثانية، قريبة من المشدد، لكنها ليست مشددة. لأن الحرفين اندمجا، والغنّة أصبحت جزءًا من الجديد.
قوله تعالى:
﴿مَن يَعْمَلْ﴾
تُدغم النون في الياء، وتُخرج غنّة ظاهرة، واضحة، طويلة نسبيًّا.
﴿إِنَّ اللَّهَ﴾
هنا ميم مشددة، والغنّة أطول (كما تقدّم في المراتب).
لكن إن أدغمت في اللام أو الراء (إدغام بلا غنة)، فإن الغنّة تزول. لماذا؟
لأن الحرف اندمج، والمخرج لا يُبقي مجالًا للغنّة، فهي تابعة لما بعدها.
ثالثًا: الغنّة في الإخفاء (مع خمسة عشر حرفًا).
وهنا تُخفى النون أو التنوين، فلا هي مظهرة، ولا مدغمة. لكن الغنّة تظهر، وتكون في المرتبة الثالثة من الطول.
قوله تعالى:
﴿مِنْ ثَمَرَةٍ﴾
النون تُخفى عند الثاء، وتبقى الغنّة واضحة. هي ليست غنّة الإدغام، لكنها أطول من غنّة الإظهار.
هذا الموضع دقيق، يُظهر مهارة القارئ. من أطال، أثقل، ومن قصّر، أخلّ.
الغنّة هنا هي "اللباس" الذي ترتديه النون لتخفي نفسها، فلا تُرى، لكن يُحَسّ أثرها.
رابعًا: الغنّة في الإقلاب (النون تقلب ميمًا عند الباء)
وهنا تتحوّل النون إلى ميمٍ شفوية، مع بقاء الغنّة.
قوله تعالى:
﴿مِنْ بَعْدِ﴾
النون تقلب ميمًا، وتُخفى، ويصاحبها غنّة.
الغنّة هنا مثلها في الإخفاء، وربما أطول قليلًا، عند بعض القرّاء. لأن الانتقال من أنفيّ إلى شفويّ يحتاج زمنًا.
لكن تبقى في المرتبة الثالثة تقريبًا.
تنبيه خفيف:
لا تقِس الغنّة بالساعة، ولا تخف من الخطأ في الزمن. بل احفظ القاعدة:
- الإدغام المشدد: أطول.
- الإدغام بغنة: طويلة.
- الإخفاء: متوسطة.
- الإظهار: قصيرة.
والميزان: تناسبها مع الأداء. فإن قرأت بتحقيق، طالت كلها. وإن أسرعت، قصرت كلها، وبقي التناسب.
خاتمة الجزء:
هكذا ترى أن الغنّة ليست إضافة صوتية، بل حركةٌ داخل نظام التجويد.
هي تتشكّل كما تتشكل الحروف، وتُطوّع كما يُطوّع الصوت، وتختلف باختلاف الجوار، كما يختلف الضوء في كل زاوية.
فتعلّمها لا كمسألة نظرية، بل كصوتٍ حيّ، تسمعه، وتُعيده، وتُخطئ فيه، وتُصلحه، حتى يألفه لسانك، ويعرفه قلبك، قبل أن تضبطه ورقتك. والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين