بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)﴾
عدد آياتها: 8 آيات، وهي مكية، وروى البخاري أنها مدنية.
سبب نزولها: أخرج ابن أبي حاتم في تفسيره بسنده عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ﴾ قَالَ: نَزَلَتْ فِي قَبِيلَتَيْنِ مِنْ قَبَائِلِ الْأَنْصَارِ، فِي بَنِي حَارِثَةَ وَبَنِي الْحَارِثِ، تَفَاخَرُوا وَتَكَاثَرُوا، فَقَالَتْ إِحْدَاهُمَا: فِيكُمْ مِثْلُ فُلانِ بْنِ فُلانٍ وَفُلانٍ؟ وَقَالَ الْآخَرُونَ مِثْلَ ذَلِكَ، تَفَاخَرُوا بِالْأَحْيَاءِ ثُمَّ قَالُوا: انْطَلِقُوا بِنَا إِلَى الْقُبُورِ، فَجَعَلَتْ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ تَقُولُ: فِيكُمْ مِثْلُ فُلانٍ؟ يَشِيرُونَ إِلَى الْقَبْرِ وَمِثْلُ فُلانٍ؟ وَفَعَلَ الْآخَرُونَ مِثْلَ ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ. حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ﴾ "لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيمَا رَأَيْتُمْ عِبْرَةٌ وَشُغُلٌ".
مناسبتها للسورة التي بعدها:
اختتمت سورة التكاثر بقوله: ﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾ وفي سورة العصر بعدها ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾ أي إذا فرط وقصر وعصى،ثم استثناء الذين آمنوا فلهم البشرى، ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾.
مقاصد السورة:
(1) التحذير من إيثار الدنيا ونسيان الآخرة.
(2) التحذير من فجأة الموت.
(3) التأكيد على الحساب والجزاء.
تفسير قوله تعالى: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1)﴾
﴿أَلْهَاكُمُ﴾: أنساكم وأشغلكم التَّكَاثُرُ أي طلب الكثرة فِي الْمَالِ وَالْولد، قال تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾، وأخرج البخاري ومسلم عن ابن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: "لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لاَبْتَغَى ثَالِثًا، وَلاَ يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ، وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينما أيوب يَغتسِل عُريانًا خَرَّ عليه جراد من ذهب، فجعل أيوب يَحْثي في ثوبه، فناداه ربه - عز وجل -: يا أيوب، ألم أكن أغنيتك عما ترى؟ قال: بلى يا رب، ولكن لا غنى لي عن بركتك"؛ [رواه البخاري برقم 3391].
وأخرج البخاري عن أبي هريرة عَنِ النَّبيِّ ﷺ قالَ: "يَأْتي علَى النَّاسِ زَمانٌ لا يُبالِي المَرْءُ ما أخَذَ منه؛ أمِنَ الحَلالِ أمْ مِنَ الحَرامِ".
تفسير قوله تعالى: ﴿حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2)﴾
أي حَتَّى أَدْرَكَكُمُ الْمَوْتُ، فيظل الإنسان حريصا على كثرة المال والتزود من الدنيا حتى يبغته الموت، فحذر الله تعالى من الغفلة عن أمر الآخرة والانشغال بالدنيا، قال تعالى: ﴿وَأَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ﴾، وﻗﺎل ﺗﻌﺎلى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِين﴾ [البقرة: 168].
وحذر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقد أخرج الترمذي برقم (2376) وقال حسن صحيح وأخرجه أحمد كذلك برقم (15794) عَنِ ابْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلاَ فِي غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ".
وأخرج البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ حَرِيصٌ، تَأْمُلُ الغِنَى، وَتَخْشَى الفَقْرَ، وَلاَ تُمْهِلْ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الحُلْقُومَ، قُلْتَ لِفُلاَنٍ كَذَا، وَلِفُلاَنٍ كَذَا، وَقَدْ كَانَ لِفُلاَنٍ".
وأخرج البخاري برقم (6418) عن أنس رضي الله عنه قال: خطَّ النبي ﷺ خطوطًا، فقال: "هذا الأمل وهذا أجله، فبينما هو كذلك إذ جاءه الخط الأقرب".
وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ عَنْ عبدالله بْنِ الشِّخِّيرِ قَالَ: «انْتَهَيْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ يَقْرَأُ ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُر﴾ُ، وَفِي لَفْظٍ: وَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ﴾، وَهُوَ يَقُولُ: "يَقُولُ ابْنُ آدَمَ: مَالِي مَالِي، وَهَلْ لَكَ مِنْ مَالِكَ إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ؟".
وقيل﴿حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ﴾: أي تفاخرتم بكثرة الولد والحسب حتى عددتم من في القبور. أخرج الطبري بسنده عن قتادة ﴿ألهاكم التكاثر﴾ قال: كانوا يقولون: نحن أكثر من بني فلان، ونحن أعد من بني فلان، وهم كل يوم يتساقطون إلى آخرهم، والله ما زالوا كذلك حتى صاروا من أهل القبور كلهم.
وقوله ﴿حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ﴾ دليل على أن القبر دار زيارة وأن المكث فيه قليل وأن الدنيا إلى يوم القيامة زمن قليل إذا قوبل بالآخرة.
وأخرج ابن أبي حاتم عَنْ عُمَرَ بْنِ عبدالعزيز أَنَّهُ قَرَأَ: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ المقابر﴾ ثم قال: مَا أَرَى الْمَقَابِرَ إِلا زِيَارَةً وَمَا لِلزَائِرِ بُدُّ مِنْ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى مَنْزِلِهِ.
تفسير قوله تعالى: ﴿كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4)﴾
﴿كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ رَدْعٌ وَزَجْرٌ لَهُمْ، وَتَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُمْ سَيَعْلَمُونَ عَاقِبَةَ ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَفِيهِ وَعِيدٌ شَدِيدٌ.
﴿ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ وَثُمَّ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الثَّانِيَ أَبْلَغُ مِنَ الْأَوَّلِ، وَقِيلَ: الْأَوَّلُ عِنْدَ الْمَوْتِ أَوْ فِي الْقَبْرِ، وَالثَّانِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: هَذَا التَّكْرَارُ عَلَى وَجْهِ التَّغْلِيظِ وَالتَّأْكِيدِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ وَعِيدٌ بَعْدَ وَعِيدٍ.
تفسير قوله تعالى: ﴿كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5)﴾
قَالَ قتادة: كُنَّا نُحَدِّثُ أَنَّ عِلْمَ الْيَقِينِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ بَاعِثُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ.
والعلم ما كان عن دلائل كخبر صادق، وعين اليقين ما كان رؤية ومشاهدة وحق اليقين ما كان عن مخالطة ومباشرة.
تفسير قوله تعالى: ﴿لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7)﴾
لَتَرَوُنَّ اللام للتأكيد، والرؤية عين يقين، الجحيم اسم من أسماء النار.
تفسير قوله تعالى: ﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)﴾
ثم للترتيب(لتسألن) أي تحاسبون يوم القيامة، عن النعيم الذي تنعمتم وتلذذتم به، والسؤال عن النعيم يعم المسلم والكافر، قال الله تعالى: ﴿وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ﴾.
وأخرج الترمذي (2416) وحسنه الألباني في *صحيح الجامع*(7299) عن عبدالله بن مسعود عن النَّبِيِّ ﷺ أنه قال: "لَا تَزُولُ قَدَمُ ابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ: عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ، وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ، وَمَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ".
وأخرج مسلم برقم (2038) عن أبي هريرة قال: خرج رسول الله ﷺ ذات يوم أو ليلة فإذا هو بأبي بكر وعمر فقال: "ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة"؟ قالا: الجوع يا رسول الله! قال: وأنا. والذي نفسي بيده! لأخرجني الذي أخرجكما قوموا، فقاموا معه فأتى رجلا من الأنصار [وهو أبو الهيثمِ بنِ التَّيِّهَانِ الأنصاريِّ]، فإذا هو ليس في بيته فلمّا رأته المرأة قالت: مرحبا! وأهلا! فقال لها رسول الله ﷺ: أين فلان؟ قالت: ذهب يستعذب لنا من الماء إذ جاء الأنصاري فنظر إلى رسول الله ﷺ وصاحبيه ثم قال: الحمد لله ما أحد اليوم أكرم أضيافًا مني، قال: فانطلق فجاءهم بعِذق فيه بُسْر وتمر ورطب فقال: كلوا من هذه، وأخذ المدية فقال له رسول الله ﷺ: إياك! والحلوب، فذبح لهم فأكلوا من الشاة ومن ذلك العِذق وشربوا فلما أن شبعوا ورووا قال رسول الله ﷺ لأبي بكر وعمر: والذي نفسي بيده! لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة أخرجكم من بيوتكم الجوع ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم".
وأخرج الترمذي وابن ماجه عن عبدالله بن الزبير ابن العوام عن أبيه قال: لما نزلت ﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾ قال الزبير: يا رسول الله فأيُّ النعيم نسأل عنه، وإنما هما الأسودان التمر والماء قال: أما إنه سيكون.
وأخرج الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: "إن أول ما يسئل عنه يوم القيامة يعني العبد من النعيم أن يقال له: ألم نصح لك جسمك ونرويك من الماء البارد".
وأخرج الطبري بسنده عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: ﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾ قال النعيم: صحة الأبدان والأسماع والأبصار، قال: يسًال الله العباد فيما استعملوها، وهو أعلم بذلك منهم. وهو قوله ﴿إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا﴾.