أمومات شاذة

83
5 دقائق
14 ربيع الثاني 1447 (07-10-2025)
100%

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

المشاكل التربويّة لا تكون وليدة اللّحظة:

هناك المشاكل التربويّة محقّقة تكون خافيةَ الأثرِ أوّلَ الأمر ثم بعدَ حينٍ تجعلُ حياةَ الوالديْن عسيرة. ثمّ يمضيان بعد ذلك يستلجبان حلًّا سهلًا تلوَ الآخر. أكثرُها لا يعالجُ أصلَ الإشكال وكلُّها تكون خاطئة إذا صلحَ بها أمرٌ فسدَ من ورائِه آخر.

حين تقول الأمّ في المثال الأوّل *هكذا صنعَ الولد في هذا الموقف العصيب فكيف أتصرّف بغيرِ ما فعلت؟*. نقول إنّ صنيعَه لم ينشأ في لحظتِه وإنّما هو سلسلةٌ من الأخطاء وإساءةِ التّعامل أدّت إليه حتّى ترسّخ عنده أنّ سلوكَه هذا مقبول ومتاح. فلا يصحّ أن تحصرَنا الأمّ بعد خرابِ ملطة بين النزولِ على رغبتِه أو ممارسة القوّةِ القاهرةِ الكاسرة. إنّما عليها أن تعترفَ أن ما بُنِيَ على خطأٍ قديمٍ لا ينصلحُ إلّا ببذلِ الجهد الطويل الدؤوب المتراكِم واحتمال تبعات التقصير طلبًا للاستشفاء.

الأمرُ نفسُه سينسحبُ على كثيرٍ ممّا تعتبره الأمّ في المثال الثاني من تبعات الرعايةِ التي تصوّرها جحيمًا لا يُحتمل. فإذا تتبّعنا أكثرَ ما يشكو منه الأبوان عادةً سنجدُ أنّها نتيجة أخطاءٍ نمطيّة يمكنُ تلافيها بشيءٍ من الجهد المنظّم.

أوّل هذه الأخطاء وأكثرها شيوعًا هو عدم انضباط مواعيد النّوم واليقظة. وهذا كَدَرٌ لا يكاد يضاهيه كَدَر. لكن له ما يعالجُه ويُزيلُه إلّا أنّه بالثّمن.

ضبط المواعيد وسير اليوم عمومًا.

مواعيد الطعام.

مواعيد اللعب.

نوعُ اللعب.

توزيع الجهد بين العقليّ والبدني.

إنشاء روتين واضح لدورة الدخول إلى النّوم.

ترسيخ عادات يكونُ فيها مكوّنٌ واحدٌ على الأقل محبّبٌ لدى الأطفال ومرتبطٌ قصرًا بهذه الدّورة، بحيث يطلبونه لذاتِه ويعلمون أنّهم لا يحصّلونه إلّا داخلَ تلكَ الدّورة.

نوعٌ من القصص يحبّونه.

لعبةٌ يفضّلونَها، نحو ذلك.

كذلك ضبط الإضاءة بما يناسب دخول الجسم في حالة الاسترخاء التي تسبقُ النّوم، تناسب نوعيّة طعام العشاء وموعدِه مع موعد النّوم المُزمَع.

إضافة أكبر قدرٍ ممكن من الاستقلاليّة في تنفيذ المهامّ في أبكرِ سنٍّ ممكنة كدخول الحمّام قبل النوم وتنظيف الأسنان وارتداء ملابس النّوم إذا كانت تلكَ عادةُ هذا البيت إلى آخرِه.

عمليّة صناعةِ هذا الرّوتين طويلةٌ شاقّة وتنضبط بما يناسب هؤلاء الأطفال على وفقِ طبيعتِهم وهذا لا يكون بتطبيق روشتّة عامّة وإنّما يحتاج رحلةً من التجربة والخطأ والتحسين إلى حين الوصول إلى الخلطة المناسبة.

وقد تتغيّر هذه الخلطة بعدَ أمدٍ مع سنٍّ مختلف.

قيلولة/ لا قيلولة.

إفطار متكامل أم وجبة خفيفة.

لعبٌ بدنيٌّ شاقّ بعد الظهر أو قبلَ الظّهر.

النشاط التعليمي باكرًا أو عصرًا.

عددٌ كبيرٌ من المسائل تنظرُ فيها كلٌّ أمٍّ وفقَ ما يناسبُ أطفالَها.

لكنّه استثمارٌ رابح. فإنّ هذا الجُهد إذا بُذِل انضبطت بحقٍّ مواعيد النوم والاستيقاظ بما يسمح للأبوين أن ينظّما وقتَهما بما يُريحُهما ويُتِيحُ لهما أن يقضيا وقتًا منتظمًا خاليًا من الأطفال يجعلانِ شطرَهُ شراكةً بينهما فيما يحبّان وشطرَه الآخر في أنشطتِهما المنفردة من تعلّم وقراءةٍ وقيامٍ على شؤونِهم الخاصّة.

خطأٌ نمطيٌّ آخر هو في الطّعام.

عدم ضبط مواعيدِه من جانب.

وعدم إتاحةِ الاستقلاليّة للأطفال في إعداد الطعام وتناولِه من جانب.

والإمعان في التقييد في نوعيّته بدعوى تفضيلات الطفل من جانب.

والتجاوز عن مأكولات تشوّه سلوكيّات الطفل من جانب.

فالمبالغة -مثلًا- في تناول السّكر والدقيق الأبيض بلا قيدٍ تتولّد عنه نوبات الغضب والهياج العصبي وبداية السّلوك الإدمانيّ الذي يجعل الطفل عدوانّيًّا ولا يقبل تأجيل ما يطلب ولا يرضى بالحلول الوسط.

خطأٌ نمطيٌّ ثالث هو معاملة الطفل بما يُبقيه طفلًا دونَ سنّه بدلًا من الارتقاء بفهمِه وقدرتِه على الكلام والتركيز وتفهّم العواقبِ خيرًا وشرًّا.

خطأٌ نمطيٌّ رابع هو الشّاشات بأنواعِها، وما تصيبُ الأطفال به من العته والتبلّد وضعف ردود الأفعال والانفصال عن الواقع المحيط. هذه وحدها طامُّة كبرى.

خطأٌ نمطيٌّ خامس هو إهمال تهيئة الطفل وتعويدِه على الأنشطة التي يشاغل فيها نفسَه بغيرِ حاجةٍ إلى انشغال الوالديْنِ به وتكون مفيدةً في الوقتِ نفسِهِ كمثلِ ألعاب التركيب والأحجيات والرسم ثمّ القراءة والكتابة.

هذه الأخطاء وكثيرٌ غيرُها واسعةُ الانتشار. وتجنّبها ليسَ هيِّنًا. ويتطلّب مزيجًا من الوعيِ والاطّلاع والإرادة الحديديّة، لكن هذا الجهد يترتّبُ عليه حالٌ من الانسجام والسهولة بحيث تصبحُ رعاية الأطفال المتعدّدين ميسورةً لا تأتي على الأخضرِ واليابس في حياة الأمّ.

هذا نمطٌ من الأمّهات الواعيات القادرات. شتّان ما بينهنّ وبين تلكما المسكينتيْن الجاهلتيْن.

مشكلة الأضداد:

هذه مشكلة إنسانيّة عامّة، سببها نوعٌ من السطحية في طريقة التعاطي مع المشاكل ذات الطبيعة المركّبة.

تردّ الأمّ الأولى على منتقديها إذ نزلت على منطق طفلٍ ذي 3 أعوام ورضخت لتشنّجِه وصراخِه. فتقول: يقولون كان عليّ ضربُه وكسرُ إرادتِه بالقهر. وكأنّ الخيارات محصورة في هذين الضّدّين. إما رضوخٌ ونزولٌ على إرادةٍ غضّة وإقرارٍ على أسلوبٍ غيرِ مهذّب وتمييع لحدود المقبول وغير المقبول في المطالبة بالمرغوب. وإمّا كسرٌ وضربٌ وإهانة.

وكلا الطريقين مفسد، بل إن طريقةَ هذه الأخت أفسدُ للولد وأضيعُ للأمانة.

كذلك تقول الأمّ الثانية. إنّ الخير للبنت -ذات ال3 أعوام- أن تقضي الوقت في الحضانة بدل أن تقضيَ الوقت في حضني *على الشاشة*. وكأن الخيارات محصورة بين تسليم بنتٍ لم تأخذ كفايتَها من رعايةِ أمّها ولعلّها لا تحسن التعبير عن رغباتِها بعدُ ولا تميّز المقبول وغير المقبول من الأغرابِ تجاهَها. إلى أُناسٍ مهما بلغت أمانتُهم فإنهم لا يبلغون معشارَ الحنان الذي ركّبه الله في الأمّ تركيبًا. وركّب في الطفل الحاجةَ الماسّة إليه في أعوامِه الأولى خصوصًا.

وبين أن تجلس الطفلةُ في حضرةِ الشّاشة ساعاتِ ليلِها ونهارِها بما يحمل ذلك من الضّرر المحقّق.

نقول لهذين النموذجين اللذيْنِ عمّت بهما البلوى. كذبتما. لسنا محصورين بين هذين الخياريْن، بل الأهدى سبيلًا والأوفقُ والأنفع منهما يقينًا الخيار الثالث. ألّا تكوني أمًّا خائبةً صفرًا من كلِّ خير. هكذا ببساطة ووضوح. وهو طريقٌ جليٌّ وإن صَعُبَ ثمنُه وثَقُل. لكن هذه دارُ بلاء. يطلب الواعي فيها إبراءَ الذّمّة وأداءَ الأمانة ويحتمل في سبيل ذلك ثِقَلَ الثّمن.

الذي لا يعي هذه الحقيقةَ البسيطة حريٌّ به ألّا يُنجبَ أطفالًا يبتليهم بسوأتِه.

التعاطي مع النماذج الأوفق بما يحول دون الاستفادة منها:

هذه هي الأخرى مشكلةٌ إنسانيّة كبرى، فالإنسان كما يحبّ أن يحصر الخيارات المتعدّدة بين خيارين سيّئين وإن كانت الدنيا أرحبُ منهما لمجرّد دفعِ تهمةِ التقصير عن نفسه، يحبّ كذلك إذا ظهرَ له مثالٌ أفضل منه أداءً فإنّه يسارع إمّا إلى اتّهامه بالمظهريّة أو يضمُّ إليه عواملَ خارجةً عنه هي التي أدّت إلى هذا التفوّق وينزعُ عنه زيادةَ اجتهادِه عليه.

هذا تراه بوضوحٍ في مثال الأمّ الثانية إذ تقول: *بالإذن منكم يا مثاليّات، أنا لا أستطيع أن أقدّم لبنتي أنشطةً مختلفةً طوال الوقت*. صارت المشكلة أنّ هؤلاء مثاليّات غيرُ واقعيّات، لا أنّها أمٌّ متواضعةُ القدرات ضعيفةُ الهمّة.

ما أتعسَ الإنسان. ينصرفُ عن التنبيهات التي قد تصلحُ شأنَه إلى محاولاتٍ بائسةٍ لاتّهامِ كلِّ النّاس سوى نفسِه.

طبعًا هناك ضعفٌ عامٌّ مستشرٍ بين عمومِ البشر أنّهم غايةٌ في ضعفِ قبول النّقدِ أيًّا كان. كأنّهم صُنِعوا من ورقٍ يابس. لا يحتملُ من الرّيحِ أيسَرها إلّا انكسر. هذه وحدَها كارثة.

من التعليقاتِ التي كتبتُها في المنشورات الثلاثة السابقة يظهر معنًى واحدٌ عظيمُ الخطر بالغُ الأثر بوضوحٍ وجلاء.

إنّ أهمّ ما يقدّمه الرّجلُ لأبنائِه هو حسنُ اختيارِه أمَّهم.

فإنّ كثيرًا من النّقصِ في الأب تستطيع الأمُّ الحكيمةُ أن تَجبُرَهُ فلا يصلُ منه إلى الأبناء إلّا أثرٌ بسيط.

أمّا النّقصُ في الأمّ فلا يَجبُرُه أرجحُ الرجال عقلًا ولا أوسعُهم قُدرة. ضرره على الأبناء محقّق. وتعافيهِم منه عسير.

ولقد كانت أنوثةُ الأنثى وأمومةُ الأمّ طيلةَ قرنيْنِ من الزّمان مستهدفًا أثيرًا عند حركات الخبثِ والخبائث. حتّى أتت على أخصِّ ما حباها الله به فتوشكُ أن تذهبَ به إلى غيرِ رجعة.

البذل الصّادق الحنون، مهما غَلا الثّمن.

وإنّ هذا أوّلُ ما ينبغي للخاطب أن ينظرَ فيه إذا عزم على الزّواج. لا لنفسِه فحسب، بل لولدِه من بعد.

إلّا يفعل، يظلم نفسَه. ويظلم أجيالًا متتابعة.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين


مقالات ذات صلة


أضف تعليق