الوقت في زمن المشتتات

3 دقائق
17 جمادى الثاني 1447 (08-12-2025)
100%

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

إنّ الحياة أيها الفاضل سلسلة من الأنفاس، ورصيدٌ من الأعمار، وأعظم ما يملكه المرء في هذه الدار هو الزمن، هذا المورد الذي لا يقبل الاستبدال ولا التعويض. ولقد اتفقت كل الشرائع السماوية والعقول المستنيرة على أنَّ استثمار هذا الكنز هو حجر الزاوية لتحقيق الفلاح.

لقد عظم الإسلام شأن الوقت، واعتبره منحة إلهية جليلة، لا ينبغي التفريط فيها، بل يجب توجيهها نحو كل ما يجلب النفع والخير العاجل والآجل. ألم يأتِ في مُحكم التنزيل ما يُلفت الأنظار إلى جلال هذا العنصر، حتى أقسم به الخالق العظيم؟ قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا • وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} (الفرقان: 61-62). إنَّ تعاقب الأيام إشارةٌ واضحة إلى أنَّ الوقت هو الوعاء الذي تُصب فيه الأعمال، ومقياس الخسارة والربح.

إنَّ حقيقة البركة في العمر تتجلى في تمكُّن العبد من إنجاز الأعمال الجليلة والنافعة في أقصر الآماد، بما يتجاوز قدرة غيره ممن مُدَّ لهم في الزمن. هذه البركة هي ضوءٌ يُنير طريق الكسب، ويصرف عنه شبح الخسارة التي تترصد الغافلين. فالإنسان الذي انقضت أيامه دون أن يُقدم لنفسه عملًا صالحًا أو علمًا نافعًا، هو في الحقيقة خاسرٌ أعظم الخسارة.

لقد نبهنا الهادي الأمين، صلوات ربي وسلامه عليه، إلى حقيقة مُرّة يغفل عنها الكثيرون، حين قال: "اغتنم خمسًا قبل خمسٍ: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك" (صحيح الجامع: 1077). هذا توجيه نبوي صريح بأنَّ إدراك قيمة الفرص المتاحة، وخصوصًا الصحة والفراغ، هو عين العقل، وأن التفريط فيهما هو ضياعٌ لا يُعوَّض.

مسؤولية المرء العاقل أن يُدرك أنَّ وقته هو رأس ماله الحقيقي الذي عليه مدار سعادته الدنيوية والأخروية. وكما قال الحسن البصري رحمه الله: *يا ابن آدم، إنما أنت أيام، فإذا ذهب يومك ذهب بعضك*. وعليه، لا بدَّ أن يسلك المرء سبيل الجد، فيرسم لنفسه خارطة طريق واضحة المعالم، تُحدد أهدافه بدقة، سواء كانت آنية أو مستقبلية، لتكون بوصلة توجه جهده نحو الأهم فالأهم.

إنَّ الإدارة الذاتية للوقت ليست مجرد شعار، بل هي تطبيق عملي يقتضي وضع جدول يومي محكم، يُنظّم فيه المرء أولوياته ويُخصص لكل مهمة وقتها، وهذا يتطلب تركيزًا مُتصلًا على ما يُحقق قيمة مضافة حقيقية لحياته، وتجنب كل أسباب التشتت، والحذر كل الحذر من داء التسويف الذي يختطف الآمال ويُفوت الفرص.

ولتحصيل هذه البركة، لا غنى عن الاستعانة بالله وطاعته، فالطاعة هي مفتاح الخيرات، وسبب نزول الرحمات، وهي التي توسع في الأرزاق وتبارك في الأوقات. كما أنَّ الدعاء الصادق بأن يمدَّ الله في الوقت ويُبارك فيه هو من أعظم الأسباب. بالإضافة إلى ذلك، لا بدَّ من الانصراف عن كل ما يستهلك الوقت دون نفع، مثل الإفراط في النوم أو الانغماس في الفضول من المخالطة والثرثرة التي لا طائل منها.

لا يمكن أن نتحدث عن استغلال الوقت دون الإشارة إلى تلك العقبات المعاصرة التي حولت الكثيرين إلى مجرد(تروس) في آلة، يُحركون وفق أجندات الآخرين، بدل أن يكونوا صُنّاع قرار في حياتهم. إنَّ آفة العصر التي استنزفت الأعمار هي هذا الجهاز الصغير (الهاتف المحمول)، الذي فتح على حياتنا أبوابًا من الملهيات والمشتتات، من رسائل لا تنتهي ومنشورات تسرق اللحظات.

كما أشار الأستاذ الفاضل محمد موسى كمارا: لا فلاح لمن استسلم لهذا الإدمان، والنجاة مرهونة بالقدرة على التحكم في هذا الجهاز، واستخدامه بوصفه خادمًا لا سيدًا. يجب على الجميع، مرسلين ومستقبلين، تقدير قيمة الوقت وخصوصية الظروف، فلا ينبغي للمرء أن يشتت انتباهه بكل رسالة غير ضرورية، ولا للمُرسِل أن يتهم أخاه بالغلو والكبر لمجرد تأخره في الرد.

وهناك بلية أخرى، وهي ملاحقة الأخبار العالمية في كل حين. ما لم يكن عملك مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالتحليل السياسي أو الصحفي، فالأجدر بك أن تهتم بكتبك وأعمالك التي تُحقق لك النفع الخاص. خصص وقتًا محدودًا للاطلاع على أهم الأخبار، وابدأ بأخبار بلدك، فما يتبقى من فسحة، يمكن استغلاله للاطلاع على ما يجوب العالم، ثم انصرف بعدها غير مُكترث، حتى لا تكون مُستهلكًا لأخبار لا تُغير من واقعك شيئًا.

إنَّ هذا الوعي بقدسية الوقت يجب أن يتجاوز الفرد ليصبح ثقافة مجتمعية، تُغرس في الأجيال الناشئة عبر مناهج التعليم والتربية. فكل لحظة تمر هي فرصة للحياة، وعلينا أن نكون أهلًا لهذه النعمة، وأن نستثمرها استثمارًا يجلب لنا النجاح في الدارين.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين


مقالات ذات صلة


أضف تعليق