بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
الْحَمْدُ لِلَّهِ، الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ، وَأَصْحَابِهِ، أَجْمَعِيْنَ. فإن الوقت له منزلة كبيرة في الإسلام، فأقول وبالله سبحانه وتعالى التوفيق:
الوقت في القرآن
رأس مال العبد المسلم في هذه الدنيا وقتٌ قصيرٌ وأنفاسٌ محدودةٌ وأيامٌ معدودةٌ، فمن استثمر تلك اللحظات والساعات في أعمال الخير فقد فاز، ومَن أضاعها وفَرَّط فيها فقد خسر خسرانًا مبينًا. ومِن المعلوم أن الله تبارك وتعالى إذا أقسم بشيء، فهذا لبيان أهميته وعظيم منفعته، ولقد أقسم الله بأزمان وأوقات معينة، وذلك لبيان شرف الزمان وشرف الوقت.
فقال الله تعالى: {وَالضُّحَى • وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} (الضحى: 1: 2) وقال تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى • وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} (الليل: 1: 2) وقال تعالى: {وَالْفَجْرِ • وَلَيَالٍ عَشْرٍ} (الفجر 1: 2). وقال الله تعالى: {وَالْعَصْرِ • إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (العصر: 1: 2)، والمقصود بالعصر هو الزمن، وفي قَسَمِهِ سبحانه وتعالى بالعصر دليل على أن أنفس شيء في الحياة الدنيا هو العُمُر. هذه الآيات وغيرها دليل قاطع على شرف الوقت وأهميته في حياة المسلم.
تنبيه مهم
الله سبحانه تعالى يقسم بما شاء مِن مخلوقاته، وأما العبد فلا يجوز له أن يحلف بغير الله تعالى، فيحرم على المسلم أن يحلف بالنبي، أو بالولي، أو بالكعبة أو بالأمانة أو بالنعمة،أو ما شابه ذلك.
• رَوَى أبو داودَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ وَلَا بِأُمَّهَاتِكُمْ وَلَا بِالْأَنْدَادِ وَلَا تَحْلِفُوا إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْلِفُوا بِاللَّهِ إِلَّا وَأَنْتُمْ صَادِقُونَ". (حديث صحيح) (صحيح أبي داود للألباني حديث 2784).
حياة المسلم كلها لله تعالى:
• قال اللهُ تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (الأنعام 162).
موقفان للعبد يعرف بهما قيمة الوقت:
أخي المسلم الكريم: إن مَن جَهِلَ قيمة الوقت الآن فسيأتي عليه حين يعرف فيه قيمة العمل فيه ولكن بعد فوات الأوان، وفي هذا يذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز موقفين للإنسان يندم فيهما على ضياع وقته حيث لا ينفع الندم.
الموقف الأول:
ساعة الاحتضار، حين يستدبر الإنسان الدنيا ويستقبل الآخرة، ويتمنى لو مُنحَ مهلة مِن الزمن، ليصلح ما أفسد ويتدارك ما فاته، وفي هذا يقول الله تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ • وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (المنافقون 9: 11)، وهكذا يتمنى الإنسان لحظات قليلة مِن الوقت يتزود فيها بالقليل من الطاعات والأعمال الصالحة، ولكن اللهَ لا يؤخر نفسًا إذا جاء أجلها. قال تعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} (ق: 19).
وقال سبحانه أيضًا: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ • لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} (المؤمنون: 99: 100) هكذا تكون أمنية أهل المعاصي ساعة الاحتضار.
الموقف الثاني:
يوم القيامة حيث تُوَفى كل نفس ما كسبت، ويدخل أهل الطاعة الجنة، وأهل المعصية النار، هناك يتمنى أهل النار لو يعودون مرة أخرى إلى حياة التكليف، ليبدؤوا من جديد عملًا صالحًا، ولكن لا فائدة مما يطلبون، فقد انتهى زمن العمل، وجاء زمن الجزاء.
قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ • وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} (فاطر 36: 37) وهكذا انقطعت حجج أهل النار بهذا السؤال التقريعي. (الوقت في حياة المسلم ص15: ص16).
وهكذا يكون مصير الذين أضاعوا أعمارهم في الكفر وفساد العقيدة والأعمال الفاسدة.
أهمية الوقت في السُّنة النبوية:
لقد اهتمت السُّنَّة المطهرة ببيان قيمة الوقت وأهميته تأكيدًا لما جاء في القرآن الكريم، وجاءت أحاديث كثيرة تتحدث عن الوقت ومكانته في حياة المسلم وأنه رأس مال العبد في هذه الحياة الدنيا.
(1) رَوَى البخاريُّ عَنْ عبدالله بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا (أي: ذو خسران فيهما) كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ". (البخاري حديث 6412).
• قَالَ اِبْنُ الْجَوْزِيّ: قَدْ يَكُون الْإِنْسَان صَحِيحًا وَلَا يَكُون مُتَفَرِّغًا لِشُغْلِهِ بِالْمَعَاشِ، وَقَدْ يَكُون مُسْتَغْنِيًا وَلَا يَكُون صَحِيحًا، فَإِذَا اِجْتَمَعَا فَغَلَبَ عَلَيْهِ الْكَسَل عَنْ الطَّاعَة فَهُوَ الْمَغْبُون، وَتَمَام ذَلِكَ أَنَّ الدُّنْيَا مَزْرَعَة الْآخِرَة، وَفِيهَا التِّجَارَة الَّتِي يَظْهَر رِبْحهَا فِي الْآخِرَة، فَمَنْ اِسْتَعْمَلَ فَرَاغه وَصِحَّته فِي طَاعَة اللَّه فَهُوَ الْمَغْبُوط، وَمَنْ اِسْتَعْمَلَهُمَا فِي مَعْصِيَة اللَّه فَهُوَ الْمَغْبُون، لِأَنَّ الْفَرَاغ يَعْقُبهُ الشُّغْل وَالصِّحَّة يَعْقُبهَا السَّقَم. (فتح الباري لابن حجر العسقلاني ج 11ص 234).
(2) رَوَى الترمذي عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ". (حديث صحيح) (صحيح الترمذي للألباني حديث 1970).
(3) رَوى الحاكمُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لِرَجُلٍ وَهُوَ يَعِظُهُ: اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هِرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاءَكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ". (حديث صحيح) (صحيح الجامع للألباني حديث 1063).
(4) رَوَى أحمدُ عن أَبِي بَكْرَةَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟ قَالَ: "مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ قَالَ فَأَيُّ النَّاسِ شَرٌّ؟ قَالَ: مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ". (حديث صحيح) (مسند أحمد ج 5ص:43).
وهذا الرجل الذي قتل مائة نفس، قد تاب في آخر لحظات عمره، توبة نصوحًا لله عز وجل، فقبل الله هذه التوبة وغفر الله له ما سلف، وكانت هذه اللحظات القصيرة سببًا لدخول هذا الرجل الجنة. (البخاري حديث 3470 / مسلم حديث 2766).
التحذير من سب الوقت:
• رَوَى الشيخانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ يَسُبُّ الدَّهْرَ وَأَنَا الدَّهْرُ بِيَدِي الْأَمْرُ أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ". (البخاري حديث 4826 / مسلم حديث 2246).
• قالَ الإمام الشافعيُّ وأبو عُبَيْدٍ وغيرُهُمَا من الأَئِمَّةِ في تفسيرِ قولِهِ: (لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ): كانت العربُ في جَاهِلِيَّتِهَا إذا أَصَابَهُم شِدَّةٌ أوْ بلاءٌ أوْ مَلامَةٌ قالُوا: يا خَيْبَةَ الدهرِ. فَيُسْنِدُونَ تلكَ الأفعالَ إلى الدهرِ وَيَسُبُّونَهُ. وَإِنَّمَا فَاعِلُهَا هوَ اللَّهُ. فَكَأَنَّهُم إنَّمَا سَبُّوا اللَّهَ سبحانَهُ؛ لأنَّهُ فاعلُ ذلكَ في الحقيقةِ؛ فلهذا نُهِيَ عنْ سَبِّ الدهرِ بهذا الاعتبارِ؛ لأنَّ اللَّهَ هوَ الذي يَعْنُونَهُ ويُسْنِدُونَ إليهِ تلكَ الأفعالَ. (فتح المجيد – شرح كتاب التوحيد ص592).
• قال ابنُ القيمِ: سَابُ الدّهْرِ دَائِرٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ لَا بُدّ لَهُ مِنْ أَحَدِهِمَا. إمّا سَبّهُ لِلّهِ أَوْ الشّرْكُ بِهِ فَإِنّهُ إذَا اعْتَقَدَ أَنّ الدّهْرَ فَاعِلٌ مَعَ اللّهِ فَهُوَ مُشْرِكٌ وَإِنْ اعْتَقَدَ أَنّ اللّهَ وَحْدَهُ هُوَ الّذِي فَعَلَ ذَلِك وَهُوَ يَسُبّ مَنْ فَعَلَهُ فَقَدْ سَبّ اللّهَ. (زاد المعاد لابن القيم ج 2ص 355).
خصائص الوقت:
للوقت خصائص يتميز بها، يجب علينا أن ندركها، ونتعامل مع الوقت على ضوئها، منها:
(1) سرعة انقضاء الوقت:
الوقت يمر مر السحاب، ويجري جرى الريح، سواء كان زمن مسرة وفرح، أم كان زمن حزن واكتئاب، وإن كانت أيام السرور تمر أسرع وأيام الحزن والهموم تسير ببطء، لا في الحقيقة ولكن في شعور صاحبها.
(2) ما مضى من الوقت لا يعود ولا يعوض:
إن كل يوم يمضي، وكل ساعة تنقضي، وكل لحظة تمر، ليس في الإمكان استعادتها، وبالتالي لا يمكن تعويضها.
(3) الوقت أنفس ما يملكه الإنسان:
إن كان الوقت سريع الانقضاء وما مضى منه لا يرجع ولا يمكن تعويضه، فهو أنفس ما يملك الإنسان، وترجع نفاسة الوقت إلى أنه وعاء لكل عمل وكل إنتاج، فهو في الحقيقة رأس المال الحقيقي للإنسان. إن الوقت ليس من الذهب فقط كما يقول المثل الشائع، بل هو أغلى في حقيقة الأمر مِن الذهب واللؤلؤ والمرجان والماس وكل الأحجار الكريمة، فالوقت هو الحياة. (الوقت في حياة المسلم ص14).
قتلة الوقت:
إن مما يدمي القلب، ويمزق الكبد أسفًا: ما نراه اليوم عند المسلمين من إضاعةٍ للأوقات، فاقت حد التبذير إلى التبديد، والحق أن السفه في إنفاق الأوقات أشد خطرًا من السفه في إنفاق الأموال، وإن هؤلاء المبذرين لأوقاتهم لأحق بالحَجْر عليهم، لأن الوقت ضاع لا عوض له. ومن العبارات التي أصبحت مألوفة لكثرة ما تدور على الألسنة وما تُقالُ في المجالس والأندية عبارة (قتل الوقت) فترى هؤلاء المبذرين أو المبددين يجلسون الساعات الطوال من ليل أو نهار حول مائدة النرد أو رقعة الشطرنج أو لعبة الورق، أو غير ذلك – مما يحل أو يحرم.
لا يبالون، لا هين عن ذكر الله وعن الصلاة وعن واجبات الدين والدنيا، فإذا سألتهم عن عملهم هذا وما وراءه من ضياع قالوا لك بصريح العبارة: إنما نريد أن تقتل الوقت! ألا يعلم هؤلاء المساكين أن من قَتَلَ وقته، فقد قتل في الحقيقة نفسه! (الوقت في حياة المسلم ص18).
كيف يطيل المسلم أعماله الصالحة؟
عُمُرُ الإنسان المسلم ليس هو السنين التي يقضيها مِن يوم ولادته إلى يوم الوفاة، إنما عُمُره في الحقيقة يكون بقدر ما يُكتبُ له في ميزان حسناته عند الله تبارك وتعالى مِن الصالحات وفعل الخيرات، فإن المسلم قد يموت شابًا ولكن رصيده من أعمال الخير حافل وجليل، وينفع الله به المسلمين بعد موته، وبقدر ما يكون للمسلم من فائدة على المسلمين، بقدر ما يكون ذلك امتدادًا لعمله.
قال الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ} (يس: 12)
• قال سعيد بن جبير: مَا سَنُّوا مِنْ سُنَّةٍ، فَعَمِلَ بِهَا قَوْمٌ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِمْ، فَإِنْ كَانَ خَيْرًا فَلَهُ مِثْلُ أُجُورِهِمْ، لَا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ مَنْ عَمِلَهُ شَيْئًا، وَإِنْ كَانَتْ شَرًّا فَعَلَيْهِ مَثَلُ أَوْزَارِهِمْ، وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِ مَنْ عَمِلَهُ شَيْئًا. (تفسير ابن كثير ج11 ص348).
• روى مسلمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا". (مسلم حديث 2674).
العمر الحقيقي للإنسان:
الإسلام الحنيف يَعتبر طول العُمُر نعمة جليلة مِن الله تبارك وتعالى، وذلك إذا استخدم المسلم الواعي طول عمره في طلب العِلم النافع والقيام بالعمل الصالح له ولجميع المسلمين. وهذا نبينا ﷺ يرشدك إلى ما يطيل العمل ويرفع درجات العبد عند الله يوم القيامة يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من آتى الله بقلب سليم.
• رَوَى مسلمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ" (مسلم حديث 1631).
وهذه كتب السلف الصالح وأهل العلم بين أيدينا ننهل منها الخير الكثير وهي مِن صالح أعمالهم.
حرص سلفنا الصالح على الوقت:
لقد كان سلفنا الصالح يعرفون قيمة الوقت ويحرصون على الانتفاع بكل دقيقة وسوف نذكر بعضًا مِن النماذج لبيان مدى اهتمام السلف الصالح بالوقت ولتكون نبراسًا يسير على هديه شباب المسلمين في كل مكان.
(1) قال عمر بن الخطاب: إني لأكره أن أجد أحدكم سَبَهْللًا (فارغًا) لا في عمل الدنيا ولا في عمل آخره. (الوقت بين حرص السلف وتفريط الخلف ص13).
(2) قال عبدالله بن مسعود: ما ندمت على شيء ندمى على يوم غَرَبت شمسه ونقص فيه أجلى ولم يزد فيه عملي. (قيمة الزمن عند العلماء ص27).
(3) قال الحسن البصري: يا ابن آدم، إنما أنت أيام، كلما ذهب يوم ذهب بعضك (الزهد للحسن البصري ص81).
وقال أيضًا: أدركت أقوامًا كانوا على أوقاتهم أشدَّ منكم حرصًا على دراهمكم ودنانيركم (قيمة الزمن عند العلماء ص27).
(4) قالت حفصة بنت سيرين: يا معشر الشباب خذوا من أنفسكم وأنتم شباب فإني ما رأيت العمل إلا في الشباب. (صفة الصفوة ج4 ص24).
(5) كان الشافعي يجَزِّيءُ الليلَ إلى ثلاثة أجزاء، الثلث الأول يكتب، والثلث الثاني يصلي، والثلث الثالث ينام. (صفة الصفوة ج2ص255).
(6) قال إبراهيم بن شيبان: مَن حَفِظَ على نفسه أوقاته فلا يضيعها بما لا رضا لله فيه، حَفِظَ اللهُ عليه دينه ودنياه. (الوقت أنفاس لا تعود ص37).
تنظيم الوقت:
يجب على المسلم الواعي أن ينظم وقته بين الواجبات والأعمال المختلفة، دينيه كانت أو دنيوية، حتى لا يطغى بعضها على بعض ولا يطغى غير المهم على المهم، فما كان مطلوبًا بصفة عاجلة يجب أن يُبادر به. وأحوج الناس إلى تقسم الوقت وتنظيمه هم المشغولون من أصحاب المسئوليات، كولاة الأمور وأهل العلم، وذلك لصلاح أحوال العباد والبلاد. (الوقت في حياة المسلم ص22: ص24).
الأبناء والفراغ:
الكثير مِن طلبة المدارس يقضون أجازة صيفية طويلة، فهل تساءل الآباء كيف يقضي الأبناء هذا الوقت الطويل بما يعود عليهم بالنفع في دِينهم ودنياهم؟ إن مِن حُسْنِ التربية أن يعتاد الأبناء منذ نعومة أظفارهم على الاستفادة من الأوقات بما هو مفيد حتى يتعودوا على ذلك.
• قال ابن الجوزي عند نصحه ولده بحفظ الوقت: اِعْلَمْ يا بني أن الأيام تبسط ساعات، والساعات تبسط أنفاسًا، وكل نفس خِزانة فاحذر أن يذهب نَفَسٌ بغير شيء، فترى في القيامة خِزانة فارغة فتندم! وانظر كل ساعة من ساعاتك بماذا تذهب، فلا تودعها إلا إلى أشرف ما يمكن، ولا تهمل نفسك وعَوِّدها أشرف ما يكون من العمل وأحسنه وابعث إلى صندوق القبر ما يسرك يوم الوصول إليه. (قيمة الزمن عند العلماء ص:62).
كيف يستثمر المسلم وقته؟
نستطيع أن نوجز وسائل استثمار الوقت والاستفادة منه في الأمور التالية:
(1) التفقه في الدين وحفظ القرآن الكريم:
يجب على المسلم أن يستثمر وقته بطلب العلوم الشرعية بقدر استطاعته وليعلم أن الوقت الذي يقضيه في طلب العِلْمِ يكون في ميزان حسناته يوم القيامة. قال الله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (المجادلة: 11).
روى البخاري عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ: "مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ" (البخاري حديث 71).
(2) الدعوة إلى الله تعالى بالحكمة ونشر العلم النافع:
إن الدعوة إلى الله تعالى مجالٌ خصب لاستثمار الوقت، فهي وظيفة الأنبياء والمرسلين وهم خير عباد الله تعالى، وهم سفراء الله إلى خلقه، إن الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة مِن أفضل الأعمال، لأنها سبب في هداية الخلق إلى الله تعالى.
• قال سبحانه وتعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (فصلت: 33).
• رَوَى مسلمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ". (مسلم حديث 1631).
(3) عمارة المساجد بالصلاة وذكر الله:
عِمارة بيوت الله تعالى تكون بالمحافظة على الصلوات المفروضة فيها ومدارسة حلقات العلم النافع وغير ذلك مِن الطاعات، التي ترفع شأن صاحبها عند الله تعالى، وهي باب عظيم للمسلم الواعي لاستثمار وقته.
قال سبحانه: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} (الأعراف: 205).
• رَوَى الشيخانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: "إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً يَطُوفُونَ فِي الطُّرُقِ يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَنَادَوْا هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ قَالَ فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا". (البخاري حديث 6408 /مسلم حديث2689).
(4) طلب العلوم الدنيوية التي تساعد المسلم في أمور دنياه:
يجب على المسلم أن يجتهد في طلب علوم الطب والصيدلة والهندسة وغيرها مِن العلوم النافعة، التي تساعده على تعمير حياته الدنيا.
(5) قضاء حوائج المسلمين:
يمكن للمسلم أن يستثمر وقته في قضاء حوائج الناس. يقول الله تعالى: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} (البقرة: 215).
• رَوَى مسلمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ". (مسلم حديث 2669).
(6) ممارسة الرياضة المفيدة:
يستطيع المسلم أن يستثمر بعضًا من وقته في ممارسة الرياضة المفيدة بما يعود عليه بالنفع ويساعده على بناء جسم ٍقويٍ ويروح عن نفسه كما كان النبي ﷺ يفعل مع أصحابه الكرام، ويُشترطُ في الرياضة التي يمارسها المسلم أن تكون مما أباحه الشرع الحنيف، ولا تجبر المسلم على كشف شيءٍ مِن عورته وألا تضيع أداء الصلوات المفروضة في الجماعة الأولى في المساجد.
رَوَى الشيخانِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "سَابَقَ رَسُولُ اللَّهِ بَيْنَ الْخَيْلِ الَّتِي قَدْ أُضْمِرَتْ فَأَرْسَلَهَا مِنْ الْحَفْيَاءِ وَكَانَ أَمَدُهَا ثَنِيَّةَ الْوَدَاعِ فَقُلْتُ لِمُوسَى فَكَمْ كَانَ بَيْنَ ذَلِكَ؟ قَالَ سِتَّةُ أَمْيَالٍ أَوْ سَبْعَةٌ، وَسَابَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ الَّتِي لَمْ تُضَمَّرْ فَأَرْسَلَهَا مِنْ ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ وَكَانَ أَمَدُهَا مَسْجِدَ بَنِي زُرَيْقٍ قُلْتُ فَكَمْ بَيْنَ ذَلِكَ قَالَ مِيلٌ أَوْ نَحْوُهُ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ مِمَّنْ سَابَقَ فِيهَا". (البخاري حديث 2870 /مسلم حديث1870).
• قال ابنُ حجر العسقلاني (رحمه الله) فِي اَلْحَدِيثِ مَشْرُوعِيَّة اَلْمُسَابَقَةِ وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ اَلْعَبَثِ بَلْ مِنْ اَلرِّيَاضَةِ اَلْمَحْمُودَةِ اَلْمُوصِلَةِ إِلَى تَحْصِيل اَلْمَقَاصِد فِي اَلْغَزْوِ وَالِانْتِفَاعِ بِهَا عِنْدَ اَلْحَاجَةِ وَهِيَ دَائِرَةٌ بَيْنَ اَلِاسْتِحْبَابِ وَالْإِبَاحَةِ بِحَسَبِ اَلْبَاعِث عَلَى ذَلِكَ. (فتح الباري لابن حجر العسقلاني ج 6ص 85).