سورة الأنفال - تفسير السعدي | |
| | |
| |
" يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله | |
| وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين " | |
الأنفال, هي: | |
| الغنائم, التي ينفلها اللّه لهذه الأمة, من أموال الكفار. | |
| وكانت هذه الآيات في هذه السورة, قد نزلت في قصة " بدر " أول غنيمة | |
| كبيرة غنمها المسلون من المشركين. | |
| فحصل بين بعض المسلمين فيها نزاع. | |
| فسألوا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عنها, فأنزل اللّه " يَسْأَلُونَكَ | |
| عَنِ الْأَنْفَالِ " كيف تقسم وعلى من تقسم؟ " قُلْ " لهم " | |
| الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ " يضعانها حيث شاءا, فلا اعتراض لكم على | |
| حكم اللّه ورسوله. | |
| بل عليكم إذا حكم اللّه ورسوله, أن ترضوا بحكمهما, وتسلموا الأمر لهما. | |
| وذلك داخل في قوله " فَاتَّقُوا اللَّهَ " بامتثال أوامره, واجتناب | |
| نواهيه. | |
| " وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ " أي: أصلحوا ما بينكم من التشاحن, | |
| والتقاطع, والتدابر, بالتوادد, والتحاب, والتواصل. | |
| فبذلك تجتمع كلمتكم, ويزول ما يحصل - بسبب التقاطع - من التخاصم, والتشاجر | |
| والتنازع. | |
| ويدخل في إصلاح ذات البين, تحسين الخلق لهم, والعفو عن المسيئين منهم فإنه - بذلك | |
| - يزول كثير مما يكون في القلوب من البغضاء, والتدابر. | |
| والأمر الجامع لذلك كله قوله " وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ | |
| كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ " . | |
| فإن الإيمان يدعو إلى طاعة اللّه ورسوله. | |
| كما أن من لم يطع اللّه ورسوله, فليس بمؤمن. | |
| ومن نقصت طاعته للّه ورسوله, فذلك لنقص إيمانه. | |
" إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم | |
| آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون " | |
ولما كان الإيمان قسمين, إيمانا كاملا يترتب عليه المدح والثناء, | |
| والفوز التام, وإيمانا, دون ذلك - ذكر الإيمان الكامل فقال: " | |
| إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ " الألف واللام للاستغراق لشرائع الإيمان. | |
| " الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ | |
| " أي: خافت ورهبت, فأوجبت لهم, خشية اللّه تعالى, الانكفاف عن | |
| المحارم, فإن خوف اللّه تعالى, أكبر علاماته أن يحجز صاحبه عن الذنوب. | |
| " وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ | |
| إِيمَانًا " . | |
| ووجه ذلك, أنهم يلقون له السمع, ويحضرون قلوبهم لتدبره فعند ذلك, يزيد إيمانهم. | |
| لأن التدبر من أعمال القلوب, ولأنه لا بد أن يبين لهم معنى, كانوا يجهلونه, | |
| ويتذكرون ما كانوا نسوه. | |
| أو يحدث في قلوبهم رغبة في الخير, واشتياقا إلى كرامة ربهم. | |
| أو وجلا من العقوبات, وازدجارا عن المعاصي, وكل هذا مما يزداد به الإيمان. | |
| " وَعَلَى رَبِّهِمْ " وحده, لا شريك له " يَتَوَكَّلُونَ " أي: يعتمدون في قلوبهم على ربهم, في | |
| جلب مصالحهم, ودفع مضارهم الدينية, والدنيوية, ويثقون بأن اللّه تعالى, سيفعل ذلك. | |
| والتوكل, هو, الحامل للأعمال كلها, فلا توجد ولا تكمل, إلا به. | |
" الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون " | |
" | |
| الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ " من فرائض, | |
| ونوافل, بأعمالها الظاهرة والباطنة, كحضور القلب فيها, الذي هو روح الصلاة ولبها. | |
| " وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ " النفقات | |
| الواجبة, كالزكوات, والكفارات, والنفقة على الزوجات والأقارب, وما ملكت أيمانهم. | |
| والمستحبة كالصدقة في جميع طرق الخير. | |
" أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم | |
| " | |
" أُولَئِكَ " الذين اتصفوا | |
| بتلك الصفات " هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا " لأنهم | |
| جمعوا بين الإسلام والإيمان, بين الأعمال الباطنة, والأعمال الظاهرة, بين العلم | |
| والعمل, بين أداء حقوق اللّه, وحقوق عباده. | |
| وقدم تعالى أعمال القلوب, لأنها أصل لأعمال الجوارح, وأفضل منها. | |
| وفيها دليل على أن الإيمان, يزيد وينقص, فيزيد بفعل الطاعة, وينقص بضدها. | |
| وأنه ينبغي للعبد, أن يتعاهد إيمانه وينميه. | |
| وأن أولى ما يحصل به ذلك, تدبر كتاب اللّه تعالى, والتأمل لمعانيه. | |
| ثم ذكر ثواب المؤمنين حقا فقال: " لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ | |
| رَبِّهِمْ " أي: عالية بحسب علو أعمالهم. | |
| " وَمَغْفِرَةٌ " لذنوبهم " | |
| وَرِزْقٌ كَرِيمٌ " وهو ما أعد اللّه لهم في دار كرامته, مما لا عين | |
| رأت: ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر. | |
| ودل هذا, على أن من يصل إلى درجتهم في الإيمان - وإن دخل الجنة - فلن ينال ما | |
| نالوا, من كرامة اللّه التامة. | |
" كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون | |
| " | |
قدم تعالى - أمام هذه الغزوة الكبرى | |
| المباركة - الصفات التي على المؤمنين أن يقوموا بها, لأن من قام بها, استقامت | |
| أحواله, وصلحت أعماله, التي من أكبرها, الجهاد في سبيله. | |
| فكما أن إيمانهم, هو الإيمان الحقيقي, وجزاءهم هو الحق الذي وعدهم اللّه به. | |
| كذلك أخرج اللّه رسوله صلى الله عليه وسلم, من بيته إلى لقاء المشركين في " بدر " بالحق الذي يحبه اللّه تعالى, وقد قدره وقضاه. | |
| وإن كان المؤمنون لم يخطر ببالهم في ذلك الخروج, أنه يكون بينهم وبين عدوهم قتال. | |
| فحين تبين لهم أن ذلك واقع, جعل فريق من المؤمنين, يجادلون النبي صلى الله عليه | |
| وسلم, في ذلك, ويكرهون لقاء عدوهم, كأنما يساقون إلى الموت, وهم ينظرون. | |
| والحال أن هذا, لا ينبغي منهم, خصوصا بعد ما تبين لهم أن خروجهم بالحق, ومما أمر | |
| اللّه به, ورضيه. | |
| فهذه الحال, ليس للجدال فيها محل, لأن الجدال, محله وفائدته, عند اشتباه الحق, | |
| والتباس الأمر. | |
| فأما إذا وضح وبان, فليس إلا الانقياد والإذعان. | |
| هذا, وكثير من المؤمنين, لم يجر منهم من هذه المجادلة شيء, ولا كرهوا لقاء عدوهم. | |
| وكذلك الذين عاتبهم اللّه, انقادوا للجهاد أشد الانقياد, وثبتهم اللّه, وقيض لهم | |
| من الأسباب, ما تطمئن به قلوبهم كما سيأتي ذكر بعضها. | |
| وكان أصل خروجهم ليتعرضوا لعير, خرجت مع أبي سفيان بن حرب لقريش إلى الشام, قافلة | |
| كبيرة. | |
| فلما سمعوا برجوعها من الشام, ندب النبي صلى الله عليه وسلم, الناس. | |
| فخرج معه, ثلثمائة, وبضعة عشر رجلا, معهم سبعون بعيرا, يعتقبون عليها, ويحملون | |
| عليها متاعهم. | |
| فسمع بخبرهم قريش, فخرجوا لمنع عيرهم, في عدد كثير وعُدَدٍ وافرة, من السلاح, | |
| والخيل, والرجال, يبلغ عددهم قريبا من الألف. | |
" وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات | |
| الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين " | |
فوعد اللّه المؤمنين, إحدى الطائفتين, إما | |
| أن يظفروا بالعير, أو بالنفير. | |
| فأحبوا العير لقلة ذات يد المسلمين, ولأنها غير ذات الشوكة. | |
| ولكن اللّه تعالى, أحب لهم, وأراد أمرا, أعلى مما أحبوا. | |
| أراد أن يظفروا بالنفير, الذي خرج فيه كبراء المشركين وصناديدهم. | |
| " وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ | |
| " فينصر أهله " وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ | |
| " . | |
| أي يستأصل أهل الباطل, ويُرِيَ عباده من نصرة للحق أمرا لم يكن يخطر ببالهم. | |
" ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون " | |
" لِيُحِقَّ الْحَقَّ " بما | |
| يظهر من الشواهد والبراهين على صحته وصدقه. | |
| " وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ " بما يقيم من الأدلة | |
| والشواهد على بطلانه " وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ " فلا | |
| يبالي اللّه بهم. | |
" إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة | |
| مردفين " | |
أي: اذكروا نعمة اللّه عليكم, لما قارب | |
| التقاؤكم بعدوكم, استغثتم بربكم, وطلبتم منه أن يعينكم وينصركم " | |
| فَاسْتَجَابَ لَكُمْ " وأغاثكم بعدة أمور. | |
| منها أن اللّه أمدكم " بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ | |
| مُرْدِفِينَ " أي: يردف بعضهم بعضا. | |
" وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند | |
| الله إن الله عزيز حكيم " | |
" وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ " أي إنزال الملائكة " إِلَّا بُشْرَى " أي: | |
| لتستبشر بذلك نفوسكم. | |
| " وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ " وإلا | |
| فالنصر بيد اللّه, ليس بكثرة عدد, ولا عُدَدٍ. | |
| " إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ " لا يغالبه مغالب, بل | |
| هو القهار, الذي يخذل من بلغوا من الكثرة, ومن العدد والآلات, ما بلغوا. | |
| " حَكِيمٌ " حيث قدر الأمور بأسبابها, ووضع | |
| الأشياء مواضعها. | |
" إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم | |
| به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام " | |
ومن نصره واستجابته لدعائكم, أن أنزل عليكم | |
| نعاسا " يُغَشِّيكُمُ " أي: فيذهب ما في قلوبكم | |
| من الخوف والوجل, ويكون " أَمَنَةً " لكم, وعلامة | |
| على النصر والطمأنينة. | |
| ومن ذلك أنه أنزل عليكم من السماء مطرا, ليطهركم به من الحدث والخبث, وليطهركم من | |
| وساوس الشيطان, ورجزه. | |
| " وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ " أي: يثبتها | |
| فإن ثبات القلب, أصل ثبات البدن. | |
| " وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ " فإن الأرض كانت | |
| سهلة دهسة فلما نزل عليها المطر, تلبدت, وثبتت به الأقدام. | |
" إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في | |
| قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان " | |
ومن ذلك أن اللّه أوحى إلى الملائكة " أَنِّي مَعَكُمْ " بالعون والنصر والتأييد. | |
| " فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا " أي: ألقوا في | |
| قلوبهم, وألهموم الجراءة على عدوهم, ورغبوهم في الجهاد وفضله. | |
| " سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ " | |
| الذي هو أعظم جند لكم عليهم. | |
| فإن اللّه إذا ثبت المؤمنين, وألقى الرعب في قلوب الكافرين, لم يقدر الكافرون على | |
| الثبات لهم, ومنحهم اللّه أكتافهم. | |
| " فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ " أي: على | |
| الرقاب " وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ " . | |
| أي: مفصل. | |
| وهذا خطاب, إما للملائكة الذين أوحى إليهم أن يثبتوا الذين آمنوا, فيكون في ذلك | |
| دليل, أنهم باشروا القتال يوم بدر. | |
| أو للمؤمنين يشجعهم اللّه, ويعلمهم كيف يقتلون المشركين, وأنهم لا يرحمونهم. | |
" ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله | |
| شديد العقاب " | |
" ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ " أي: حاربوهما, وبارزوهما بالعداوة. | |
| " وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ | |
| شَدِيدُ الْعِقَابِ " ومن عقابه تسليط أوليائه على أعدائه, وتقتيلهم. | |
" ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار " | |
" ذَلِكُمْ " العذاب | |
| المذكور " فَذُوقُوهُ " أيها المشاققون للّه | |
| ورسوله عذابا معجلا. | |
| " وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ " . | |
| وفي هذه القصة من آيات اللّه العظيمة, ما يدل على أن ما جاء به محمد صلى الله عليه | |
| وسلم, رسول اللّه حقا. | |
| منها: أن اللّه وعدهم وعدا, فأنجزهموه. | |
| ومنها: ما قال اللّه تعالى " قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي | |
| فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ | |
| يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ " الآية. | |
| ومنها: إجابة دعوة اللّه للمؤمنين, لما استغاثوه, بما ذكره من الأسباب. | |
| وفيها الاعتناء العظيم, بحال عباده المؤمنين, وتقييض الأسباب, التي بها ثبت | |
| إيمانهم, ثبتت أقدامهم, وزال عنهم المكروه والوساوس الشيطانية. | |
| ومنها: أن من لطف اللّه بعبده, أن يسهل عليه طاعته, وييسرها بأسباب داخلية | |
| وخارجية. | |
" يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم | |
| الأدبار " | |
أمر اللّه تعالى عباده المؤمنين, بالشجاعة الإيمانية, والقوة في أمره, | |
| والسعي في جلب الأسباب المقوية للقلوب والأبدان. | |
| ونهاهم عن الفرار, إذا التقى الزحفان فقال: " يَا أَيُّهَا | |
| الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا " أي: | |
| صف القتال, وتزاحف الرجال, واقتراب بعضهم من بعض. | |
| " فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ " , بل اثبتوا | |
| لقتالهم, واصبروا على جلادهم, فإن في ذلك, نصرة لدين اللّه, وقوة لقلوب المؤمنين, | |
| وإرهابا للكافرين. | |
" ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد | |
| باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير " | |
" وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا | |
| مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ " أي: رجع " بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ | |
| " أي مقره " جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ | |
| " . | |
| وهذا يدل على أن الفرار من الزحف, من غير عذر, من أكبر الكبائر, كما وردت بذلك | |
| الأحاديث الصحيحة وكما نص هنا على وعيده بهذا الوعيد الشديد. | |
| ومفهوم الآية: أن المتحرف للقتال, وهو الذي ينحرف من جهة إلى أخرى, ليكون أمكن له | |
| في القتال, وأنكى لعدوه, فإنه لا بأس بذلك, لأنه لم يول دبره فارا, وإنما ولى | |
| دبره, ليستعلى على عدوه, أو يأتيه من محل يصيب فيه غرته, أو ليخدعه بذلك, أو غير | |
| ذلك من مقاصد المحاربين, وأن المتحيز إلى فئة تمنعه وتعينه على قتال الكفار, فإن | |
| ذلك جائز. | |
| فإن كانت الفئة في العسكر, فالأمر في هذا واضح. | |
| وإن كانت الفئة في غير محل المعركة كانهزام المسلمين بين يدي الكافرين والتجائهم | |
| إلى بلد من بلدان المسلمين أو إلى عسكر آخر من عسكر المسلمين, فقد ورد من آثار | |
| الصحابة ما يدل على أن هذا جائز. | |
| ولعل هذا يقيد بما إذا ظن المسلمون, أن الانهزام أحمد عاقبة, وأبقى عليهم. | |
| أما إذا ظنوا غلبتهم للكفار في ثباتهم لقتالهم, فيبعد - في هذه الحال - أن تكون من | |
| الأحوال المرخص فيها, لأنه - على هذا - لا يتصور الفرار المنهي عنه. | |
| وهذه الآية مطلقة, وسيأتي في آخر السورة تقييدها بالعدد. | |
" فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى | |
| وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا إن الله سميع عليم " | |
يقول تعالى - لما انهزم المشركون يوم بدر, | |
| وقتلهم المسلمون. | |
| " فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ " بحولكم وقوتكم " وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ " حيث أعانكم على ذلك | |
| بما تقدم ذكره. | |
| " وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى | |
| " . | |
| وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم, وقت القتال, دخل العريش, وجعل يدعو اللّه, | |
| ويناشده في نصرته. | |
| ثم خرج منه, فأخذ حفنة من تراب, فرماها في وجوه المشركين, فأوصلها اللّه إلى | |
| وجوههم. | |
| فما بقي منهم واحد إلا وقد أصاب وجهه, وفمه, وعينيه منها. | |
| فحينئذ انكسر حدهم, وفتر زندهم, وبان فيهم الفشل والضعف, فانهزموا. | |
| يقول تعالى لنبيه: لست بقوتك - حين رميت التراب - أوصلته إلى أعينهم, وإنما | |
| أوصلناه إليهم, بقوتنا واقتدارنا. | |
| " وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا " | |
| أي: إن اللّه تعالى, قادر على انتصار المؤمنين من الكافرين, من دون مباشرة | |
| قتال. | |
| ولكن اللّه أراد أن يمتحن المؤمنين, ويوصلهم بالجهاد, إلى أعلى الدرجات, وأرفع | |
| المقامات, ويعطيهم أجرا حسنا, وثوابا جزيلا. | |
| " إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ " يسمع تعالى, | |
| ما أسر به العبد, وما أعلن, ويعلم ما في قلبه, من النيات الصالحة وضدها. | |
| فيقدر على العباد أقدارا, موافقة لعلمه وحكمته, ومصلحة عباده, ويجزي كلا بحسب نيته | |
| وعمله. | |
" ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين " | |
" | |
| ذَلِكُمْ " النصر, من اللّه لكم " وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ " أي: | |
| مضعف كل مكر وكيد, يكيدون به الإسلام وأهله, وجاعل مكرهم محيقا بهم. | |
" إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا | |
| نعد ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين " | |
" إِنْ | |
| تَسْتَفْتِحُوا " أيها المشركون, أي: تطلبون | |
| من اللّه أن يوقع بأسه وعذابه. | |
| على المعتدين الظالمين. | |
| " فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ " حين أوقع اللّه | |
| بكم من عقابه, ما كان نكالا لكم, وعبرة للمتقين " وَإِنْ | |
| تَنْتَهُوا " عن الاستفتاح " فَهُوَ خَيْرٌ | |
| لَكُمْ " لأنه ربما أمهلكم, ولم يعجل لكم النقمة. | |
| " وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ " أي: | |
| أعوانكم وأنصاركم, الذين تحاربون وتقاتلون, معتمدين عليهم " | |
| شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ " ومن | |
| كان اللّه معه فهو المنصور وإن كان ضعيفا قليلا عدده. | |
| وهذه المعية التي أخبر اللّه أنه يؤيد بها المؤمنين, تكون بحسب ما قاموا به من | |
| أعمال الإيمان. | |
| فإذا أديل العدو على المؤمنين في بعض الأوقات, فليس ذلك إلا تفريطا من المؤمنين | |
| وعدم قيام بواجب الإيمان ومقتضاه, وإلا فلو قاموا بما أمر اللّه به من كل وجه. | |
| لما انهزمت لهم راية انهزاما مستقرا ولا أديل عليهم عدوهم أبدا. | |
" يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم | |
| تسمعون " | |
لما أخبر تعالى أنه مع المؤمنين, أمرهم أن يقوموا بمقتضى الإيمان الذي | |
| يدركون معيته فقال: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا | |
| أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ " بامتثال أمرهما واجتناب نهيهما. | |
| " وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ " أي: عن هذا الأمر | |
| الذي هو طاعة اللّه, وطاعة رسوله. | |
| " وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ " ما يتلى عليكم من | |
| كتاب اللّه, وأوامره, ووصاياه, ونصائحه. | |
| فتوليكم, في هذه الحال, من أقبح الأحوال. | |
" ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون " | |
" | |
| وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ " أي: لا تكتفوا بمجرد الدعوى الخالية, التي لا حقيقة لها, فإنها حالة, | |
| لا يرضاها اللّه ولا رسوله. | |
| فليس الإيمان بالتمني والتحلي, ولكنه ما وقر في القلوب, وصدقته الأعمال. | |
" إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون " | |
يقول تعالى: " إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ | |
| اللَّهِ " من لم تفد فيهم الآيات والنذر. | |
| وهم " الصُّمُّ " عن استماع الحق " | |
| الْبُكْمُ " عن النطق به. | |
| " الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ " ما ينفعهم, | |
| ويؤثرونه على ما يضرهم. | |
| فهؤلاء, شر عند اللّه, من شرار الدواب, لأن اللّه أعطاهم, أسماعا وأبصارا, وأفئدة, | |
| ليستعملوها في طاعة اللّه, فاستعملوها في معاصيه, وعدموا - بذلك - الخير الكثير. | |
| فإنهم كانوا, بصدد أن يكونوا من خيار البرية, فأبوا هذا الطريق, واختاروا لأنفسهم, | |
| أن يكونوا من شر البرية. | |
| والسمع الذين نفاه اللّه عنهم, سمع المعنى المؤثر في القلب. | |
| وأما سمع الحجة, فقد قامت حجة اللّه تعالى عليهم, بما سمعوه من آياته. | |
| وإنما لم يسمعهم السماع النافع, لأنه لم يعلم فيهم خيرا يصلحون به لسماع آياته. | |
" ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون | |
| " | |
" وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ | |
| وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ " على الفرض والتقدير " لَتَوَلَّوْا " عن الطاعة " | |
| وَهُمْ مُعْرِضُونَ " لا التفات لهم إلى الحق, بوجه من الوجوه. | |
| وهذا دليل على أن اللّه تعالى, لا يمنع الإيمان والخير, إلا عمن لا خير فيه, والذي | |
| لا يزكو لديه, ولا يثمر عنده. | |
| وله الحمد تعالى والحكمة, في هذا. | |
" يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم | |
| واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون " | |
يأمر تعالى, عباده المؤمنين, بما يقتضيه | |
| الإيمان منهم, وهو: الاستجابة للّه وللرسول, أي: الانقياد لما أمر به, والمبادرة | |
| إلى ذلك, والدعوة إليه, والاجتناب لما نهيا عنه, والانكفاف عنه, والنهي عنه. | |
| وقوله " إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ " وصف | |
| ملازم, لكل ما دعا اللّه ورسوله إليه, وبيان لفائدته وحكمته, فإن حياة القلب والروح, | |
| بعبودية اللّه تعالى, ولزوم طاعته, وطاعة رسوله, على الدوام. | |
| ثم حذر عن عدم الاستجابة للّه وللرسول فقال: " وَاعْلَمُوا | |
| أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ " فإياكم أن تردوا | |
| أمر اللّه, أول ما يأتيكم, فيحال بينكم وبينه, إذا أردتموه بعد ذلك, وتختلف قلوبكم | |
| فإن اللّه يحول بين المرء وقلبه, يقلب القلوب حيث شاء, ويصرفها, أنى شاء. | |
| فليكثر العبد من قول " يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك | |
| " يا مصرف القلوب, اصرف قلبي إلى طاعتك. | |
| " وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ " أي: تجمعون | |
| ليوم لا ريب فيه, فيجازي المحسن بإحسانه, والمسيء بعصيانه. | |
" واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله | |
| شديد العقاب " | |
" | |
| وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً " بل تصيب فاعل الظلم وغيره. | |
| وذلك إذا ظهر الظلم فلم يغير, فإن عقوبته, تعم الفاعل وغيره. | |
| وتُتَّقَى هذه الفتنة, بالنهي عن المنكر, وقمع أهل الشر والفساد, وأن لا يمكنوا من | |
| المعاصي والظلم, مهما أمكن. | |
| " وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ " لمن | |
| تعرض لمساخطه, وجانب رضاه. | |
" واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم | |
| الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون " | |
يقول تعالى - ممتنا على عباده, في نصرهم بعد | |
| الذلة, وتكثيرهم بعد القله, وإغنائهم بعد العيلة. | |
| " وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي | |
| الْأَرْضِ " أي: مقهورون تحت حكم غيركم " تَخَافُونَ | |
| أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ " أي: يأخذوكم. | |
| " فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ | |
| الطَّيِّبَاتِ " فجعل لكم بلدا تأوون إليه, وانتصر من أعدائكم على | |
| أيديكم, وغنمتم من أموالهم, ما كنتم به أغنياء. | |
| " لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ " اللّه على منته | |
| العظيمة, وإحسانه التام, بأن تعبدوه, ولا تشركوا به شيئا. | |
" يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم | |
| وأنتم تعلمون " | |
يأمر تعالى, عباده المؤمنين, أن يؤدوا ما | |
| ائتمنهم اللّه عليه, من أوامره, ونواهيه. | |
| فإن الأمانة قد عرضها اللّه على السماوات والأرض والجبال, فأبين أن يحملنها وأشفقن | |
| منها, وحملها الإنسان, إنه كان ظلوما جهولا. | |
| فمن أدى الأمانة, استحق من اللّه الثواب الجزيل, ومن لم يؤدها بل خانها, استحق | |
| العقاب الوبيل, وصار خائنا للّه وللرسول ولأمانته, منقصا لنفسه بكونه اتصفت نفسه | |
| بأخس الصفات, وأقبح الشيات, وهي الخيانة, مفوتا لها أكمل الصفات وأتمها, وهي: | |
| الأمانة. | |
" واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم | |
| " | |
ولما كان العبد ممتحنا بأمواله وأولاده, | |
| فربما حملته محبته ذلك, على تقديم هوى نفسه, على أداء أمانته, أخبر اللّه تعالى أن | |
| الأموال والأولاد, فتنة يبتلى اللّه بهما عبادة, وأنهما عارية, ستؤدى لمن أعطاها, | |
| وترد لمن استودعها " وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ | |
| " . | |
| فإن كان لكم عقل ورَأْيٌ, فآثروا فضله العظيم على لذة صغيرة فانية مضمحلة. | |
| فالعاقل يوازن بين الأشياء, ويؤثر أولاها بالإيثار, وأحقها بالتقديم. | |
" يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم | |
| سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم " | |
امتثال العبد لتقوى ربه, عنوان السعادة, | |
| وعلامة الفلاح. | |
| وقد رتب اللّه على التقوى من خير الدنيا والآخرة, شيئا كثيرا. | |
| فذكر هنا, أن من اتقى اللّه, حصل له أربعة أشياء, كل واحد منها خير من الدنيا وما | |
| فيها: الأول: الفرقان, وهو: العلم والهدى, الذي يفرق به صاحبه بين الهدى والضلال, | |
| والحق والباطل, والحلال والحرام, وأهل السعادة من أهل الشقاوة. | |
| الثاني والثالث, تكفير السيئات, ومغفرة الذنوب. | |
| وكل واحد منها داخل في الآخر, عند الإطلاق, وعند الاجتماع. | |
| يفسر تكفير السيئات بالذنوب الصغائر, ومغفرة الذنوب, بتكفير الكبائر. | |
| الرابع: الأجر العظيم, والثواب الجزيل, لمن اتقاه, وآثر رضاه على هوى نفسه. | |
| " وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ " . | |
" وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون | |
| ويمكر الله والله خير الماكرين " | |
أي وأذكر, أيها الرسول, ما منَّ اللّه به عليك. | |
| " وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا " حين | |
| تشاور المشركون في دار الندوة, فيما يصنعون بالنبي صلى الله عليه وسلم, إما أن | |
| يثبتوه عندهم بالحبس, ويوثقوه. | |
| وإما أن يقتلوه فيستريحوا - بزعمهم - من دعوته. | |
| وإما أن يخرجوه ويجلوه من ديارهم. | |
| فكلُّ أبدى من هذه الآراء رأيا رآه. | |
| فاتفق رأيهم, على رأي رآه شريرهم, أبو جهل, لعنه اللّه. | |
| وهو أن يأخذ من كل قبيلة من قبائل قريش, فتى, ويعطوه سيفا صارما, ويقتله الجميع | |
| قتلة رجل واحد, ليتفرق دمه في القبائل. | |
| فيرضى بنو هاشم ثَمَّ بديته, فلا يقدرون على مقاومة جميع قريش. | |
| فترصدوا للنبي صلى الله عليه وسلم, في الليل, ليوقعوا به, إذا قام من فراشه. | |
| فجاء الوحي من السماء, وخرج عليهم, فذرَّ على رءوسهم التراب وخرج, وأعمى اللّه | |
| أبصارهم عنه. | |
| حتى إذا استبطأوه, جاءهم آت وقال: خيبكم اللّه, قد خرج محمد, وذَرَّ على رءوسكم | |
| التراب. | |
| فنفض كل منهم التراب عن رأسه. | |
| ومنع اللّه رسوله منهم, وأذن له في الهجرة إلى المدينة. | |
| فهاجر إليها, وأيده اللّه بأصحابه المهاجرين والأنصار. | |
| ولم يزل أمره يعلو, حتى دخل مكة عنوة, وقهر أهلها. | |
| فأذعنوا له, وصاروا تحت حكمه, بعد أن خرج مستخفيا منهم, خائفا على نفسه. | |
| فسبحان اللطيف بعباده الذي لا يغالبه مغالب. | |
" وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا | |
| إن هذا إلا أساطير الأولين " | |
يقول تعالى - في بيان عناد المكذبين للرسول صلى الله عليه وسلم - " وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا " الدالة على | |
| صدق ما جاء به الرسول. | |
| " قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ | |
| هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ " وهذا من عنادهم | |
| وظلمهم. | |
| وإلا فقد تحداهم اللّه, أن يأتوا بسورة من مثله, ويدعوا من استطاعوا من دون اللّه, | |
| فلم يقدروا على ذلك, وتبين عجزهم. | |
| فهذا القول الصادر من هذا القائل, مجرد دعوى, كذبه الواقع. | |
| وقد علم أنه صلى الله عليه وسلم أُمِّيٌّ, لا يقرأ ولا يكتب, ولا رحل ليدرس, من | |
| أخبار الأولين, فأتى بهذا الكتاب الجليل, الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من | |
| خلفه تنزيل من حكيم حميد. | |
" وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة | |
| من السماء أو ائتنا بعذاب أليم " | |
" | |
| وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا " الذي يدعو إليه محمد " هُوَ الْحَقَّ مِنْ | |
| عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ | |
| أَلِيمٍ " قالوه على وجه الجزم منهم بباطلهم, والجهل بما ينبغي من | |
| الخطاب. | |
| فلو أنهم إذ أقاموا على باطلهم من الشبه والتمويهات, ما أوجب لهم أن يكونوا على | |
| بصيرة ويقين منه - قالوا لمن ناظرهم, وادعى أن الحق معه. | |
| إن كان هذا هو الحق من عندك, فاهدنا له, لكان أولى لهم وأستر لظلمهم. | |
| فمنذ قالوا: " اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ | |
| مِنْ عِنْدِكَ " الآية, علم بمجرد قولهم, أنهم السفهاء الأغبياء, | |
| الجهلة الظالمون. | |
| فلو عاجلهم اللّه بالعقاب, لما أبقى منهم باقية. | |
" وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم | |
| يستغفرون " | |
ولكنه تعالى, دفع عنهم العذاب, بسبب وجود الرسول بين أظهرهم فقال: " وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ " فوجوده | |
| صلى الله عليه وسلم, أمنة لهم من العذاب. | |
| وكانوا مع قولهم هذه المقالة, التي يظهرونها على رءوس الأشهاد, يدرون بقبحها | |
| فكانوا يخافون من وقوعها فيهم, فيستغفرون اللّه تعالى فلهذا قال " | |
| وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ " . | |
| فهذا مانع يمنع من وقوع العذاب بهم, بعد ما انعقدت أسبابه. | |
" وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا | |
| أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون " | |
ثم قال " وَمَا لَهُمْ | |
| أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ " أي: أي شيء يمنعهم من عذاب اللّه, وقد | |
| فعلوا ما يوجب ذلك وهو صد الناس عن المسجد الحرام, خصوصا صدهم النبي صلى الله عليه | |
| وسلم, وأصحابه, الذين هم أولى به منهم. | |
| ولهذا قال: " وَمَا كَانُوا " أي المشركون " أَوْلِيَاءَهُ " يحتمل أن الضمير يعود إلى اللّه, أي: | |
| أولياء اللّه. | |
| ويحتمل أن يعود إلى المسجد الحرام, أي: وما كانوا أولى به من غيرهم. | |
| " إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ " وهم | |
| الذين آمنوا باللّه ورسوله, وأفردوا اللّه بالتوحيد والعبادة, وأخلصوا له الدين. | |
| " وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ " فلذلك | |
| ادَّعَوْا لأنفسهم أمرا, غيرهم أولى به. | |
" وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية فذوقوا العذاب بما | |
| كنتم تكفرون " | |
يعني: أن اللّه تعالى, إنما جعل بيته | |
| الحرام, ليقام فيه دينه, وتخلص له فيه العبادة. | |
| فالمؤمنون, هم الذين قاموا بهذا الأمر. | |
| وأما هؤلاء المشركون, الذين يصدون عنه, فما كان صلاتهم فيه, التي هي أكبر أنواع | |