سورة مريم - تفسير السعدي | |
| | |
| |
" ذكر رحمة ربك عبده زكريا " | |
أي: هذا " | |
| ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا " سنقصه عليك, ونفصله تفصيلا, | |
| يعرف به حالة نبيه زكريا, وآثاره الصالحة, ومناقبه الجميلة. | |
| فإن في قصها عبرة للمعتبرين, وأسوة للمقتدين. | |
| ولأن في تفصيل رحمته لأوليائه, وبأي سبب حصلت لهم, مما يدعو إلى محبة الله تعالى, | |
| والإكثار من ذكره ومعرفته, والسبب الموصل إليه. | |
| وذلك أن الله تعالى, اجتبى واصطفى, زكريا عليه السلام لرسالته, وخصه بوحيه. | |
| فقام بذلك قيام أمثاله من المرسلين, ودعا العباد إلى ربه, وعلمهم ما علمه الله, | |
| ونصح لهم في حياته وبعد مماته, كإخوانه من المرسلين, ومن اتبعهم. | |
| فلما رأى من نفسه الضعف, وخاف أن يموت,. | |
| ولم يكن أحد ينوب منابه في دعوة الخلق إلى ربهم والنصح لهم شكا إلى ربه ضعفه | |
| الظاهر والباطن, وناداه نداء خفيا, ليكون أكمل, وأفضل, وأتم إخلاصا فقال: | |
" قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب | |
| شقيا " | |
" | |
| رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي " أي: | |
| وهى وضعف, وإذا ضعف العظم, الذي هو عماد البدن, ضعف غيره. | |
| " وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا " لأن الشيب | |
| دليل الضعف والكبر, ورسول الموت, ورائده, ونذيره. | |
| فتوسل إلى الله تعالى بضعفه وعجزه, وهذا من أحب الوسائل إلى الله, لأنه يدل التبري | |
| من الحول والقوة, وتعلق القلب بحول الله وقوته. | |
| " وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا " أي: | |
| لم تكن يا رب تردني خائبا ولا محروما من الإجابة. | |
| بل لم تزل بي حفيا, ولدعائي مجيبا. | |
| ولم تزل ألطافك تتوالى علي, وإحسانك واصلا إلي. | |
| وهذا توسل إلى الله, بإنعامه عليه, وإجابة دعواته السابقة. | |
| فسأل الذي أحسن سابقا, أن يتمم إحسانه لاحقا. | |
" وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك | |
| وليا " | |
" وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي " أي: وإني خفت من يتولى على بني إسرائيل من بعد موتي, أي: لا يقوموا | |
| بدينك حق القيام, ولا يدعوا عبادك إليك. | |
| وظاهر هذا, أنه لم ير فيهم أحدا, فيه لياقة للإمامة في الدين. | |
| وهذا فيه شفقة زكريا عليه السلام, ونصحه. | |
| وأن طلبه للولد, ليس كطلب غيره, قصده مجرد المصلحة الدنيوية, وإنما قصده, مصلحة | |
| الدين, والخوف من ضياعه, ورأي غيره, غير صالح لذلك. | |
| وكان بيته من البيوت المشهورة في الدين, ومعدن الرسالة, ومظنة للخير. | |
| فدعا الله أن يرزقه ولدا, يقوم بالدين من بعده. | |
| واشتكى أن امرأته عاقر, أي ليست تلد أصلا, وأنه قد بلغ من الكبر عتيا, أي: عمرا | |
| يندر معه وجود الشهوة والولد. | |
| " فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا " وهذه | |
| الولاية, ولاية الدين, وميراث النبوة والعلم والعمل. | |
" يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا " | |
ولهذا قال: " يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ | |
| يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا " أي: عبدا صالحا ترضاه, وتحببه | |
| إلى عبادك. | |
| والحاصل أنه سأل الله ولدا, ذكرا, صالحا, يبق بعد موته, ويكون وليا من بعده, ويكون | |
| نبيا مرضيا عند الله وعند خلقه, وهذا أفضل ما يكون من الأولاد. | |
| ومن رحمة الله بعبده, أنه يرزقه ولدا صالحا, جامعا لمكارم الأخلاق, ومحامد الشيم. | |
" يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا | |
| " | |
فرحمه ربه واستجاب دعوته فقال: " يَا زَكَرِيَّا | |
| " إلى " وَعَشِيًّا " أي: بشره الله | |
| تعالى على يد الملائكة بـ " يحيى " وسماه الله له | |
| " يحيى " . | |
| وكان اسما موافقا لمسماه: يحيا حياة حسية, فتتم به المنة, ويحيا حياة معنوية, وهي | |
| حياة القلب والروح, بالوحي والعلم والدين. | |
| " لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا " أي: | |
| لم يسم هذا الاسم قبله أحد. | |
| ويحتمل أن المعنى: لم نجعل له من قبل مثيلا ومساميا. | |
| فيكون, بشارة بكماله, واتصافه بالصفات الحميدة, وأنه فاق من قبله ولكن هذا | |
| الاحتمال هذا العموم, لا بد أن يكون مخصوصا بإبراهيم, وموسى, ونوح عليهم الصلاة | |
| والسلام, ونحوهم, ممن هو أفضل من يحيى قطعا. | |
| فحينئذ لما جاءته البشارة بهذا المولود, الذي طلبه, استغرب وتعجب وقال: | |
" قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر | |
| عتيا " | |
" | |
| رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ " والحال | |
| أن المانع من وجود الولد, موجود بي وبزوجتي؟ وكأنه وقت دعائه, لم يستحضر هذا | |
| المانع, لقوة الوارد في قلبه, وشدة الحرص العظيم على الولد. | |
| وفي هذه الحال, حين قبلت دعوته, تعجب من ذلك, فأجابه الله بقوله: | |
" قال كذلك قال ربك هو علي هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا | |
| " | |
" كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ " أي: الأمر مستغرب في العادة, وفي سنة الله في الخليقة, ولكن قدرة الله | |
| تعالى صالحة لإيجاده بدون أسبابها فذلك هين عليه, ليس بأصعب من إيجاده قبل, ولم | |
| يكن شيئا. | |
" قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا | |
| " | |
" | |
| قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً " أي: يطمئن | |
| بها قلبي. | |
| وليس هذا شكا في خبر الله, وإنما هو, كما قال الخليل عليه السلام " | |
| رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى | |
| وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي " فطلب زيادة العلم, والوصول إلى عين | |
| اليقين بعد علم اليقين, فأجابه الله إلى طلبته, رحمة به. | |
| " قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ | |
| سَوِيًّا " وفي الآية الأخرى " ثَلَاثَةَ | |
| أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا " . | |
| والمعنى واحد, لأنه تارة يعبر بالليالي, وتارة بالأيام ومؤداها واحد. | |
| وهذا من الآيات العجيبة, فإن منعه من الكلام مدة ثلاثة أيام, وعجزه عنه من غير خرس | |
| ولا آفة, بل كان سويا, لا نقص فيه - من الأدلة على قدرة الله الخارقة للعوائد, ومع | |
| هذا, ممنوع من الكلام, الذي يتعلق بالآدميين وخطابهم. | |
| وأما التسبيح, والذكر ونحوه, فغير ممنوع منه. | |
| ولهذا قال في الآية الأخرى " وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ | |
| بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ " . | |
| فاطمأن قلبه, واستبشر بهذه البشارة العظيمة, وامتثل لأمر الله له, بالشكر, بعبادته | |
| وذكره. | |
| فعكف في محرابه, وخرج على قومه منه, فأوحى إليهم. | |
| أي: بالإشارة والرمز " أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا | |
| " لأن البشارة بـ " يحيى " في حق | |
| الجميع, مصلحة دينية. | |
| " يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ | |
| الْحُكْمَ صَبِيًّا " | |
| دل الكلام السابق, على ولادة يحيى, وشبابه, وتربيته. | |
| فلما وصل إلى حالة يفهم فيها الخطاب, أمره الله أن يأخذ الكتاب بقوة, أي: بجد | |
| واجتهاد. | |
| وذلك بالاجتهاد في حفظ ألفاظه, وفهم معانيه, والعمل بأوامره ونواهيه. | |
| هذا تمام أخذ الكتاب بقوة. | |
| فامتثل أمر ربه وأقبل على الكتاب فحفظه وفهمه, وجعل الله فيه من الذكاء والفطنة, | |
| ما لا يوجد في غيره ولهذا قال: " وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ | |
| صَبِيًّا " . | |
" وحنانا من لدنا وزكاة وكان تقيا " | |
وآتيناه أيضا حنانا " | |
| مِنْ لَدُنَّا " أي: رحمة ورأفة, تيسرت بها أموره, وصلحت بها أحواله, | |
| واستقامت بها أفعاله. | |
| " وَزَكَاةً " أي: طهارة من الآفات والذنوب, فطهر | |
| قلبه, وتزكى عقله, وذلك يتضمن زوال الأوصاف المذمومة, والأخلاق الرديئة, وزيادة | |
| الأخلاق الحسنة, والأوصاف المحمودة ولهذا قال: " وَكَانَ | |
| تَقِيًّا " أي: فاعلا للمأمور, تاركا للمحظور. | |
| ومن كان مؤمنا تقيا, كان لله وليا, وكان من أهل الجنة, التي أعدت للمتقين. | |
| وحصل له من الثواب الدنيوي والأخروي, ما رتبه الله على التقوى. | |
" وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا " | |
وكان أيضا برا " بِوَالِدَيْهِ " أي | |
| لم يكن عاقا, ولا مسيئا إلى أبويه بل كان محسنا إليهما بالقول والفعل. | |
| " وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا " أي لم يكن | |
| متجبرا متكبرا عن عبادة الله, ولا مترفعا على عبادة الله, ولا على والديه. | |
| فجمع بين القيام بحق الله, وحق خلقه, ولهذا حصلت له السلامة من الله, في جميع | |
| أحواله مبادئها وعواقبها. | |
" وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا " | |
فلذا قال: " وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ | |
| وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا " وذلك يقتضي سلامته من | |
| الشيطان, والشر, والعقاب في هذه الأحوال الثلاثة وما بينها, وأنه سالم من النار | |
| والأهوال, ومن أهل دار السلام. | |
| فصلوات الله وسلامه عليه, وعلى والده, وعلى سائر المرسلين, وجعلنا من أتباعهم, إنه | |
| جواد كريم. | |
" واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا " | |
لما ذكر قصة زكريا ويحيى, وكانت من الآيات العجيبة, انتقل, منها إلى ما | |
| هو أعجب منها, تدريجا من الأدنى إلى الأعلى فقال: " وَاذْكُرْ | |
| فِي الْكِتَابِ " الكريم " مَرْيَمَ " عليها | |
| السلام, وهذا من أعظم فضائلها, أن تذكر في الكتاب العظيم, الذي يتلوه المسلمون, في | |
| مشارق الأرض ومغاربها, تذكر فيه بأحسن الذكر, وأفضل الثناء, جزاء لعملها الفاضل, | |
| وسعيها الكامل. | |
| أي: واذكر في الكتاب مريم, في حالها الحسنة, حين " | |
| انْتَبَذَتْ " أي: تباعدت عن أهلها " مَكَانًا | |
| شَرْقِيًّا " أي: مما يلي الشرق عنهم. | |
" فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا | |
| " | |
" | |
| فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا " أي: | |
| سترا ومانعا. | |
| وهذا التباعد منها, واتخاذ الحجاب, لتعتزل, وتنفرد بعبادة ربها, وتقنت له في حالة | |
| الإخلاص والخضوع, والذل لله تعالى, وذلك امتثال منها لقوله تعالى: " | |
| وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ | |
| وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ | |
| وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ " . | |
| " فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا " وهو: جبريل | |
| عليه السلام " فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا " أي: | |
| كاملا من الرجال, في صورة جميلة, وهيئة حسنة, لا عيب فيه ولا نقص, لكونها لا تحتمل | |
| رؤيته على ما هو عليه. | |
| فلما رأته في هذه الحال, وهي معتزلة عن أهلها, منفردة عن الناس, قد اتخذت الحجاب | |
| عن أعز الناس عليها, وأهلها, خافت أن يكون رجلا قد تعرض لها بسوء, وطمع فيها, | |
| فاعتصمت بربها, واستعاذت منه فقالت له: | |
" قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا " | |
" | |
| إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ " أي. | |
| ألتجئ به واعتصم برحمته, أن تنالني بسوء. | |
| " إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا " أي: إن كنت تخاف الله, | |
| وتعمل بتقواه, فاترك التعرض لي. | |
| فجمعت بين الاعتصام بربها, وبين تخويفه وترهيبه, وأمره بلزوم التقوى, وهي في تلك | |
| الحالة الخالية, والشباب, والبعد عن الناس. | |
| وهو في ذلك الجمال الباهر, والبشرية الكاملة السوية, ولم ينطق لها بسوء, أو يتعرض | |
| لها. | |
| وإنما ذلك خوف منها, وهذا أبلغ ما يكون من العفة, والبعد عن الشر وأسبابه. | |
| وهذه العفة - خصوصا مع اجتماع الدواعي, وعدم المانع - من أفضل الأعمال. | |
| ولذلك أثنى الله عليها فقال: " وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ | |
| الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا " , " وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا | |
| وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ " . | |
" قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا " | |
فأعاضها الله بعفتها, ولدا من آيات الله, | |
| ورسولا من رسله. | |
| فلما رأى جبريل منها الروع والخيفة, قال: " إِنَّمَا أَنَا | |
| رَسُولُ رَبِّكِ " أي, إنما وظيفتي وشغلي, تنفيذ رسالة ربي فيك " لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا " . | |
| وهذه بشارة عظيمة بالولد وزكائه, فإن الزكاء, يستلزم تطهيره من الخصال الذميمة, | |
| واتصافه بالخصال الحميدة. | |
| فتعجبت من وجود الولد من غير أب فقالت: " أَنَّى يَكُونُ لِي | |
| غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا " والولد لا | |
| يوجد إلا بذلك؟!!. | |
" قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان | |
| أمرا مقضيا " | |
" | |
| قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ | |
| " تدل على قدرة الله تعالى, وعلى أن الأسباب | |
| جميعها, لا تستقل بالتأثير, وإنما تأثيرها بتقدير الله. | |
| فيرى عباده خرق العوائد في بعض الأسباب العادية, لئلا يقفوا مع الأسباب, ويقطعوا | |
| النظر عن مقدرها ومسببها " وَرَحْمَةً مِنَّا " ولنجعله | |
| رحمة منا به, وبوالدته, وبالناس. | |
| أما رحمة الله به, فلما خصه الله بوحيه ومن عليه بما من به على أولي العزم. | |
| وأما رحمته بوالدته, فلما حصل لها من الفخر, والثناء الحسن, والمنافع العظيمة. | |
| وأما رحمته بالناس, فإن أكبر نعمه عليهم, أن بعث فيهم رسولا, يتلو عليهم آياته, | |
| ويزكيهم, ويعلمهم الكتاب والحكمة, فيؤمنون به, ويطيعونه, وتحصل لهم سعادة الدنيا | |
| والآخرة. | |
| " وَكَانَ " أي: وجود عيسى عليه السلام على هذه | |
| الحاله " أَمْرًا مَقْضِيًّا " قضاء سابقا, فلا | |
| بد من نفوذ هذا التقدير والقضاء, فنفخ جبريل عليه السلام في جيبها. | |
" فحملته فانتبذت به مكانا قصيا " | |
أي: لما حملت بعيسى عليه السلام, خافت من الفضيحة, فتباعدت عن الناس " مَكَانًا قَصِيًّا " . | |
| فلما قرب ولادها, ألجأها المخاض إلى جذع نخلة. | |
| فلما آلمها وجع الولادة, ووجع الانفراد عن الطعام والشراب, ووجع قلبها من قالة | |
| الناس, وخافت عدم صبرها, تمنت أنها ماتت قبل هذا الحادث, وكانت نسيا منسيا فلا | |
| تذكر. | |
" فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا " | |
وهذا التمني بناء على ذلك المزعج, وليس في هذه الأمنية خير لها, ولا | |
| مصلحة, وإنما الخير والمصلحة, بتقدير ما حصل فحينئذ سكن الملك روعها وثبت جأشها | |
| وناداها من تحتها, لعله من مكان أنزل من مكانها, وقال لها: لا تحزني, أي: لا تجزعي | |
| ولا تهتمي فـ " قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا " | |
| أي: نهرا تشربين منه. | |
" وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا " | |
" | |
| وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا | |
| " أي: طريا لذيذا نافعا " | |
| فَكُلِي " من التمر, " وَاشْرَبِي " من | |
| النهر " وَقَرِّي عَيْنًا " بعيسى. | |
| فهذا طمأنينتها من جهة السلامة من ألم الولادة, وحصول المأكل والمشرب الهني. | |
" فكلي واشربي وقري عينا فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت | |
| للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا " | |
وأما من جهة قالة الناس, فأمرها أنها إذا | |
| رأت أحدا من البشر, أن تقول على وجه الإشارة: " إِنِّي | |
| نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا " أي: سكوتا " | |
| فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا " أي: لا تخاطبيهم, بكلام, | |
| لتستريحي من قولهم وكلامهم. | |
| وكان معروفا عندهم أن السكوت من العبادات المشروعة. | |
| وإنما لم تؤمر بمخاطبتهم في نفي ذلك عن نفسها لأن الناس لا يصدقونها, ولا فيه | |
| فائدة, وليكون تبرئتها بكلام عيسى في المهد, أعظم شاهد على براءتها. | |
| فإن إتيان المرأة بولد, من دون زوج ودعواها أنه من غير أحد, من أكبر الدعاوي, التى | |
| لو أقيم عليها عدة من الشهود, لم تصدق بذلك. | |
| فجعلت بينة هذا الخارق للعادة, أمرا من جنسه, وهو كلام عيسى في حال صغره جدا, | |
| ولهذا قال تعالى: " فَأَتَتْ بِهِ " إلى " أُبْعَثُ حَيًّا " | |
" فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا " | |
أي: فلما تعلت مريم من نفاسها, أتت بعيسى | |
| قومها تحمله, وذلك, لعلمها ببراءة نفسها وطهارتها, فأتت غير مبالية ولا مكترثة. | |
| فقالوا: " لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا " أي: | |
| عظيما وخيما وأرادوا بذلك: البغاء حاشاها من ذلك. | |
" يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا " | |
" يَا أُخْتَ هَارُونَ " الظاهر, أنه أخ لها حقيقي, فنسبوها إليه. | |
| " مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ | |
| بَغِيًّا " أي: لم يكن أبواك إلا صالحين سالمين من البشر, وخصوصا هذا | |
| البشر, الذي يشيرون إليه. | |
| وقصدهم: فكيف كنت على غير وصفهما؟ وأتيت بما لم يأتيا به؟. | |
| وذلك أن الذرية - في الغالب - بعضها من بعض, في الصلاح وضده. | |
| فتعجبوا - بحسب ما قام بقلوبهم - كيف وقع منها, فأشارت لهم إليه, أي كلموه. | |
" فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا " | |
وإنما أشارت لذلك, لأنها أمرت عند مخاطبة الناس لها, أن, تقول: " إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ | |
| إِنْسِيًّا " . | |
| فلما أشارت إليهم بتكليمه, تعجبوا من ذلك وقالوا: " كَيْفَ | |
| نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا " لأن ذلك لم تجر به عادة, | |
| ولا حصل من أحد في ذلك السن. | |
" قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا " | |
فحينئذ قال عيسى عليه السلام, وهو في المهد صبي: " | |
| إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا " فخاطبهم | |
| بوصفه بالعبودية, وأنه ليس فيه صفة, يستحق بها أن يكون إلها, أو ابنا للإله, تعالى | |
| الله عن قول النصارى المخالفين لعيسى - في قوله " إِنِّي | |
| عَبْدُ اللَّهِ " ومدعون موافقته " آتَانِيَ | |
| الْكِتَابَ " أي: قضى أن يؤتيني الكتاب " | |
| وَجَعَلَنِي نَبِيًّا " فأخبرهم بأنه عبد الله, وأن الله علمه الكتاب, | |
| وجعله من جملة أنبيائه, فهذا من كماله لنفسه. | |
| ثم ذكر تكميله لغيره فقال: " وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ | |
| مَا كُنْتُ " أي: في أي مكان, وأي زمان. | |
| فالبركة جعلها الله فيَّ من تعليم الخير والدعوة إليه, والنهي عن الشر, والدعوة | |
| إلى الله في أقواله, وأفعاله فكل من جالسه, أو اجتمع به, نالته بركته, وسعد به | |
| مصاحبه. | |
| " وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا | |
| " أي: أوصاني بالقيام بحقوقه, التي من أعظمها الصلاة, وحقوق عباده, | |
| التي أجلها الزكاة, مدة حياتي, أي: فأنا ممتثل لوصية ربي, عامل عليها, منفذ لها. | |
| وأوصاني أيضا, أن أبر والدتي فأحسن إليها غاية الإحسان, وأقوم بما ينبغي له, | |
| لشرفها وفضلها, ولكونها والدة, لها حق الولادة وتوابعها. | |
| " وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا " أي: متكبرا على | |
| الله, مترفعا على عباده " شَقِيًّا " في دنياي | |
| وأخراي, فلم يجلعني كذلك بل جعلني مطيعا له خاضعا خاشعا متذللا, متواضعا لعباد | |
| الله, سعيدا في الدنيا والآخرة, أنا ومن اتبعني. | |
" والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا " | |
فلما تم له الكمال, ومحامد الخصال قال: " | |
| وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا | |
| " أي: من فضل ربي وكرمه, حصلت لي السلامة يوم ولادتي, ويوم بعثي - من | |
| الشر, والشيطان والعقوبة. | |
| وذلك يقتضي سلامته من الأهوال, ودار الفجار, وأنه من أهل دار السلام. | |
| فهذه معجزة عظيمة, وبرهان باهر, على أنه رسول الله, وعبد الله حقا. | |
" ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون " | |
أي: ذلك الموصوف بتلك الصفات, عيسى بن مريم, من غير شك ولا مرية. | |
| بل قول الحق, وكلام الله, الذي لا أصدق منه قيلا, ولا أحسن منه حديثا. | |
| فهذا الخبر اليقيني, عن عيسى عليه السلام, وما قيل فيه مما يخالف هذا, فإنه مقطوع | |
| ببطلانه. | |
| وغايته أن يكون شكا من قائله لا علم له به, ولهذا قال: " | |
| الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ " أي: يشكون فيما يرون بشكهم, ويجادلون | |
| بخرصهم فمن قائل عنه: إنه الله, أو ابن الله, أو ثالث ثلاثة, تعالى الله عن إفكهم | |
| وتقولهم, علوا كبيرا. | |
" ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له | |
| كن فيكون " | |
فـ " مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ | |
| وَلَدٍ " أي: ما ينبغي ولا يليق, لأن ذلك من الأمور المستحيلة, لأنه | |
| الغني الحميد, المالك لجميع الممالك, فكيف يتخذ من عباده ومماليكه, ولدا؟!! " سُبْحَانَهُ " أي: تنزه وتقدس عن الولد والنقص. | |
| " إِذَا قَضَى أَمْرًا " أي من الأمور الصغار | |
| والكبار, لم يمتنع, عليه ولم يستصعب " فَإِنَّمَا يَقُولُ | |
| لَهُ كُنْ فَيَكُونُ " . | |
| فإذا كان قدره ومشيئته نافذا في العالم العلوي والسفلي, فكيف يكون له ولد؟!!. | |
| وإذا كان إذا أراد شيئا قال له: " كن فيكون " فكيف | |
| يستبعد إيجاده عيسى من غير أب؟!!. | |
" وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم " | |
ولهذا أخبر عيسى أنه عبد مربوب كغيره فقال: " | |
| وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ " الذي خلقنا, وصورنا, ونفذ فينا | |
| تدبيره, وصرفنا تقديره. | |
| " فَاعْبُدُوهُ " أي: أخلصوا له العبادة, | |
| واجتهدوا في الإنابة. | |
| وفي هذا, الإقرار بتوحيد الربوبية, وتوحيد الإلهية, والاستدلال بالأول على الثاني. | |
| ولهذا قال: " هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ " أي: | |
| طريق معتدل, موصل إلى الله, لكونه طريق الرسل وأتباعهم, وما عدا هذا, فإنه من طرق | |
| الغي والضلال. | |
" فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم | |
| " | |
لما بين تعالى حال عيسى بن مريم الذي لا يشك فيها ولا يمتري, أخبر أن | |
| الأحزاب, أي: فرق الضلال, من اليهود والنصارى وغيرهم, على اختلاف طبقاتهم - | |
| اختلفوا في عيسى عليه السلام, فمن غال فيه وجاف. | |
| فمنهم من قال: إنه الله, ومنهم من قال: إنه ابن الله. | |
| ومنهم من قال: إنه ثالث ثلاثة. | |
| ومنهم من يجعله رسولا, بل رماه بأنه ولد بغي كاليهود. | |
| وكل هؤلاء أقوالهم باطله, وآراؤهم فاسدة, مبنية على الشك والعناد, والأدلة | |
| الفاسدة, والشبه الكاسدة, وكل هؤلاء مستحقون للوعيد الشديد, ولهذا قال: " فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا " بالله ورسله, وكتبه. | |
| ويدخل فيهم, اليود والنصارى, القائلون بعيسى قول الكفر. | |
| " مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ " أي: مشهد يوم | |
| القيامة, الذي يشهده الأولون والآخرون, أهل السماوات, وأهل الأرض, الخالق | |
| والمخلوق, الممتلئ بالزلازل والأهوال المشتمل على الجزاء بالأعمال. | |
| فحينئذ يتبين ما كانوا يخفون ويبدون, وما كانوا يكتمون. | |
" أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين | |
| " | |
" أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا " أي: ما أسمعهم وما أبصرهم في ذلك اليوم؟!. | |
| فيقررون بكفرهم وشركهم وأقوالهم ويقولون: " ربنا أبصرنا | |
| وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون " ففي القيامة, يستيقنون حقيقة | |
| ما هم عليه. | |
| " لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ " | |
| وليس لهم عذر في هذا الضلال, لأنهم بين معاند ضال على بصيرة, عارف بالحق, | |
| صادف عنه, وبين ضال عن طريق الحق, متمكن من معرفة الحق والصواب, ولكنه راض بضلاله | |
| وما هو عليه من سوء أعماله, غير ساع في معرفة الحق من الباطل. | |
| وتأمل كيف قال: " فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا " بعد | |
| قوله " فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ " . | |
| ولم يقل " فويل لهم " ليعود الضمير إلى الأحزاب, | |
| لأن من الأحزاب المختلفين, طائفة أصابت الصواب, ووافقت الحق فقالت في عيسى: " إنه عبد الله ورسوله " فآمنوا به, واتبعوه. | |
| فهؤلاه مؤمنون, غير داخلين في هذا الوعيد, فلهذا خص الله بالوعيد الكافرين. | |
" وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون | |
| " | |
الإنذار هو: الإعلام بالمخوف على وجه الترهيب, والإخبار بصفاته, وأحق | |
| ما ينذر به ويخوف به العباد, يوم الحسرة حين يقضى الأمر, فيجمع الأولون والآخرون | |
| في موقف واحد, ويسألون عن أعمالهم. | |
| فمن آمن بالله, واتبع رسله سعد سعادة لا يشقى بعدها. | |
| ومن لم يؤمن بالله ويتبع رسله شقى شقاء لا يسعد بعدها, وخسر نفسه وأهله. | |
| فحينئذ يتحسر ويندم ندامة, تنقطع منها القلوب, وتتصدع منها الأفئدة. | |
| وأي: حسرة أعظم من قوات رضا الله وجنته, واستحقاق سخطه والنار, على وجه لا يتمكن | |
| الرجوع, ليستأنف العمل ولا سبيل له إلى تغيير حاله بالعود إلى الدنيا؟!! | |
" إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون " | |
فهذا قدامهم, والحال أنهم في الدنيا في غفلة عن هذا الأمر العظيم لا | |
| يخطر بقلوبهم, ولو خطر, فعلى سبيل الغفلة, قد عمتهم الغفلة وشملتهم السكرة, فهم لا | |
| يؤمنون بالله, ولا يتبعون رسله. | |
| قد ألهتهم دنياهم, وحالت بينهم وبين الإيمان, شهواتهم المنقضية الفانية. | |
| فالدنيا وما فيها, من أولها إلى آخرها, ستذهب عن أهلها, ويذهبون عنها, وسيرث الله | |
| الأرض ومن عليها, ويرجعهم إليه, فيجازيهم بما عملوا فيها, وما خسروا فيها أو | |
| ربحوا. | |
| فمن عمل خيرا, فليحمد الله, ومن وجد غير ذلك, فلا يلومن إلا نفسه. | |
" واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا " | |
أجل الكتب وأفضلها وأعلاها, هذا الكتاب المبين, والذكر الحكيم. | |
| فإن ذكر فيه الأخبار, كانت أصدق الأخبار, وأحقها, وأنفعها. | |
| وإن ذكر فيه الأمر والنهي, كانت أجل الأوامر والنواهي, وأعدلها وأقسطها. | |
| وإن ذكر فيه الجزاء, والوعد والوعيد, كان أصدق الأنباء وأحقها وأدلها على الحكمة, | |
| والعدل والفضل. | |
| وإن ذكر فيه الأنبياء والمرسلون, كان المذكور فيه, أكمل من غيره, وأفضل. | |
| ولهذا كثيرا ما يبدئ ويعيد في قصص الأنبياء, الذين فضلهم على غيرهم, ورفع قدرهم, | |
| وأعلى أمرهم, بسبب ما قاموا به, من عبادة الله ومحبته, والإنابة إليه, والقيام | |
| بحقوقه, وحقوق العباد, ودعوة الخلق إلى الله, والصبر على ذلك, والمقامات الفاخرة, | |
| والمنازل العالية. | |
| فذكر الله في هذه السورة, جملة من الأنبياء, يأمر الله رسوله أن يذكرهم. | |
| لأن في ذكرهم إظهار الثناء على الله وعليهم, وبيان فضله وإحسانه إليهم. | |
| وفيه الحث على الإيمان بهم, ومحبتهم, والاقتداء بهم, فقال: " | |
| وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا " جمع | |
| الله له بين الصديقية والنبوة. | |
| فالصديق: كثير الصدق, فهو الصادق في أقواله, وأفعاله, وأحواله المصدق بكل ما أمر | |
| بالتصديق به. | |
| وذلك يستلزم العلم العظيم الواصل إلى القلب, المؤثر فيه, الموجب لليقين, والعمل | |
| الصالح الكامل. | |
| وإبراهيم عليه السلام, هو أفضل الأنبياء كلهم, بعد محمد صلى الله عليه وسلم. | |
| وهو الأب الثالث للطوائف الفاضلة. | |
| وهو الذي جعل الله في ذريته النبوة والكتاب. | |
| وهو الذي دعا الخلق إلى الله, وصبر على ما ناله من العذاب العظيم. | |
| فدعا القريب والبعيد, واجتهد في دعوة أبيه, مهما أمكنه. | |
| وذكر الله مراجعته إياه فقال: " إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ " مهجنا | |
| له عبادة الأوثان. | |
| " يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ | |
| وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا " . | |
| أي: لم تعبد أصناما, ناقصة في ذاتها, وفي أفعالها, فلا تسمع, ولا تبصر ولا تملك | |
| لعابدها, نفعا ولا ضرا, بل لا تملك لأنفسها شيئا من النفع, ولا تقدر على شيء من | |
| الدفع. | |
| فهذا برهان جلي دال, على أن عبادة الناقص, في ذاته, وأفعاله, مستقبح, عقلا وشرعا. | |
| ودل تنبيهه وإشارته, أن الذي يجب, ويحسن, عبادة من له الكمال الذي, لا ينال العباد | |
| نعمة إلا منه, ولا يدفع عنهم نقمة, إلا هو, وهو الله تعالى. | |
" يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا | |
| سويا " | |
" يَا | |
| أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ " أي: يا أبت لا تحقرني وتقول: إني ابنك, وإن عندك ما ليس عندي, بل قد | |
| أعطاني الله من العلم ما لم يعطك. | |
| والمقصود من هذا قوله: " فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا | |
| سَوِيًّا " أي: مستقيما معتدلا, وهو: عبادة الله وحده لا شريك له, | |
| وطاعته في جميع الأحوال. | |
| وفي هذا من لطف الخطاب ولينه, ما لا يخفى; فإنه لم يقل " يا | |
| أبت أنا عالم, وأنت جاهل " أو " ليس عندك من | |
| العلم شيء " . | |
| وإنما أتى بصيغة أن عندي وعندك علما, وأن الذي وصل إلي لم يصل إليك, ولم يأتك. | |
| فينبغي لك أن تتبع الحجة, وتنقاد لها. | |
" يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا " | |
" يَا | |
| أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ " لأن من | |
| عبد غير الله, فقد عبد الشيطان كما قال تعالى " أَلَمْ | |
| أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ | |
| لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ " . | |
| " إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا " فمن | |
| اتبع خطواته, فقد اتخذه وليا وكان عاصيا لله بمنزلة الشيطان. | |
| وفي ذكر إضافة العصيان إلى اسم الرحمن, إشارة إلى أن المعاصي, تمنع العبد من رحمة | |
| الله وتغلق عليه أبوابها. | |
| كما أن الطاعة, أكبر الأسباب لنيل رحمته, ولهذا قال: | |
" يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا | |
| " | |
" يَا | |
| أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ " أي: بسبب إصرارك على الكفر, وتماديك في الطغيان " | |
| فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا " أي: في الدنيا والآخرة, فتنزل | |
| بمنازله الذميمة, وترتع في مراتعه الوخيمة. | |
| فتدرج الخليل عليه السلام بدعوة أبيه, بالأسهل فالأسهل. | |
| فأخبره بعلمه, وأن ذلك, موجب لاتباعك إياي وأنك إن أطعتني, اهتديت إلى صراط | |