سورة المؤمنون - تفسير السعدي | |
| | |
" قد أفلح المؤمنون " | |
هذا تنويه من | |
| الله, بذكر عباده المؤمنين, وذكر فلاحهم وسعادتهم, وبأي شيء وصلوا إلى ذلك. | |
| وفي ضمن ذلك, الحث على الاتصاف بصفاتهم, والترغيب فيها. | |
| فليزن العبد نفسه وغيره, على هذه الآيات, يعرف بذلك, ما معه, وما مع غيره من | |
| الإيمان, زيادة ونقصا, كثرة وقلة. | |
| فقوله " قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ " أي: قد فازوا وسعدوا ونجحوا, | |
| وأدركوا كل ما يروم المؤمنون الذين آمنوا بالله وصدقوا المرسلين الذين من صفاتهم | |
| الكاملة أنهم " فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ " . | |
| والخشوع في الصلاة هو: حضور القلب بين يدي الله تعالى, مستحضرا لقربه. | |
| فيسكن لذلك قلبه, وتطمئن نفسه, وتسكن حركاته ويقل التفاته, متأدبا بين يدي ربه, | |
| مستحضرا جميع ما يقوله ويفعله في صلاته, من أول صلاته, إلى آخرها, فتنتفي بذلك, | |
| الوساوس والأفكار الردية. | |
| وهذا روح الصلاة, والمقصود منها, وهو الذي يكتب للعبد. | |
| فالصلاة التي لا خشوع فها ولا حضور قلب, وإن كانت مجزية مثابا عليها, فإن الثواب | |
| على حسب ما يعقل للقلب منها. | |
" والذين هم عن اللغو معرضون " | |
" | |
| وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ " هو الكلام | |
| الذي لا خير فيه, ولا فائدة " مُعْرِضُونَ " رغبة | |
| عنه, وتنزيها لأنفسهم, وترفعا عنه. | |
| وإذا مروا باللغو, مروا كراما, وإذا كانوا معرضين عن اللغو, فإعراضهم عن المحرم, | |
| من باب أولى, وأحرى. | |
| وإذا ملك العبد لسانه وخزنه - إلا في الخير - كان مالكا لأمره, كما قال النبي صلى | |
| الله عليه وسلم, لمعاذ بن جبل حين وصاه بوصايا قال: " ألا | |
| أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت: بلى يا رسول الله, فأخذ بلسان نفسه وقال: كف عليك هذا | |
| " . | |
| فالمؤمنون من صفاتهم الحميدة, كف ألسنتهم عن اللغو والمحرمات. | |
" والذين هم للزكاة فاعلون " | |
" وَالَّذِينَ | |
| هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ " أي مؤدون | |
| لزكاة أموالهم, على اختلاف أجناس الأموال, مزكين لأنفسهم من أدناس الأخلاق ومساوئ | |
| الأعمال التي تزكو النفوس بتركها وتجنبها. | |
| فأحسنوا في عبادة الخالق, في الخشوع في الصلاة, وأحسنوا إلى خلقه بأداء الزكاة. | |
" والذين هم لفروجهم حافظون " | |
" وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ " عن الزنا ومن تمام حفظها تجنب ما يدعو إلى ذلك كالنظر واللمس ونحوهما. | |
| فحفظوا فروجهم عن كل أحد " إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ | |
| مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ " من الإماء المملوكات " | |
| فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ " بقربهما, لأن الله تعالى أحلهما. | |
" فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون " | |
" | |
| فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ " غير الزوجة | |
| والسرية " فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ " الذين | |
| تعدوا ما أحل الله إلى ما حرمه, المتجرئون على محارم الله. | |
| وعموم هذه الآية, يدل على تحريم المتعة, فإنها ليست زوجة حقيقة مقصودا بقاؤها, ولا | |
| مملوكة, وتحريم نكاح المحلل لذلك. | |
| ويدل قوله " أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ " أنه | |
| يشترط في حل المملوكة, أن تكون كلها في ملكه, فلو كان له بعضها لم تحل, الأنعام | |
| ليست مما ملكت يمينه, بل هي ملك له ولغيره. | |
| فإنه لا يجوز أن يشترك في المرأة الحرة زوجان, فلا يجوز أن يشتركا في الأمة | |
| المملوكة سيدان. | |
" والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون " | |
" | |
| وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ " . | |
| أي: مراعون لها, ضابطون, حافظون, حريصون على القيام بها وتنفيذها. | |
| وهذا عام في جميع الأمانات, التي هي حق لله, والتي هي حق للعباد. | |
| قال تعالى " إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى | |
| السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا | |
| وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ " فجميع ما أوجبه الله | |
| على عبده, أمانة, على العبد حفظها بالقيام التام بها. | |
| وكذلك يدخل في ذلك, أمانات الآدميين, كأمانات الأموال, والأسرار, ونحوهما. | |
| فعلى العبد, مراعاة الأمرين, وأداء الأمانتين " إِنَّ اللَّهَ | |
| يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا " . | |
| وكذلك العهد, يشمل العهد الذي بينهم وبين العباد, وهي الالتزامات والعقود, التي | |
| يعقدها العبد, فعليه مراعاتها والوفاء بها, ويحرم عليه, التفريط فيها, وإهمالها. | |
" والذين هم على صلواتهم يحافظون " | |
" وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ " أي: يداومون عليها في أوقاتها وحدودها وأشراطها وأركانها. | |
| فمدحهم بالخشوع في الصلاة, وبالمحافظة عليها, لأنه لا يتم أمرهم إلا بالأمرين: فمن | |
| يداوم على الصلاة من غير خشوع, أو على الخشوع من دون محافظة عليها فإنه مذموم | |
| ناقص. | |
" أولئك هم الوارثون " | |
" أُولَئِكَ " الموصوفون | |
| بتلك الصفات " الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ | |
| الْفِرْدَوْسَ " الذي هو أعلى الجنة ووسطها وأفضلها, لأنهم جعلوا من | |
| صفات الخير أعلاها وذروتها. | |
| أو المراد بذلك, جميع الجنة, ليدخل بذلك, عموم المؤمنين, على درجاتهم في مراتبهم, | |
| كل بحسب حاله. | |
| " هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ " لا يظعنون عنها, ولا | |
| يبغون عنها حولا, لاشتمالها على أكمل النعيم وأفضله, وأتمه, من غير مكدر ولا منغص. | |
" ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين " | |
ذكر الله في هذه الآيات أطوار الآدمي وتنقلاته, من ابتداء خلقه إلى آخر | |
| ما يصير إليه. | |
| فذكر ابتداء خلق أبي النوع البشري آدم عليه السلام, وأنه " | |
| مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ " أي: قد سلت, وأخذت من جميع الأرض. | |
| ولذلك جاء بنوه على قدر الأرض: منهم الطيب والخبيث, وبين ذلك. | |
| والسهل, والحزن, وبين ذلك. | |
" ثم جعلناه نطفة في قرار مكين " | |
" | |
| ثُمَّ جَعَلْنَاهُ " أي: جنس الآدميين " نُطْفَةٍ " تخرج من بين الصلب والترائب, فتستقر " فِي قَرَارٍ مَكِينٍ " وهو: الرحم محفوظة من الفساد | |
| والريح وغير ذلك. | |
" ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما | |
| فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين " | |
" | |
| ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ " التي قد | |
| استقرت قبل " عَلَقَةٍ " أي: دما أحمر, بعد مضي | |
| أربعين يوما من النطفة. | |
| " فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ " بعد أربعين يوما " مُضْغَةٍ " أي: قطعة لحم صغيرة, بقدر ما يمضغ من | |
| صغرها. | |
| " فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ " اللينة " عِظَامًا " صلبة, قد تخللت اللحم, بحسب حاجة البدن | |
| إليها. | |
| " فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا " أي: جعلنا | |
| اللحم, كسوة للعظام, كما جعلنا العظام, عمادا للحم, وذلك في الأربعين الثالثة. | |
| " ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ " نفخ فيه | |
| الروح, فانتقل من كونه جمادا, إلى أن صار حيوانا. | |
| " فَتَبَارَكَ اللَّهُ " أي: تعالى, وتعاظم, وكثر | |
| خيره " أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ " الذي " | |
| أحسن كل شيء خلقه. | |
| وبدأ خلق الإنسان من طين وجعل نسله من سلالة من ماء مهين. | |
| ثم سواه ونفخ فيه من روحه, وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا, ما تشكرون " فخلقه كله حسنا, والإنسان من أحسن مخلوقاته, بل هو أحسنها على | |
| الإطلاق كما قال تعالى: " لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ | |
| تَقْوِيمٍ " ولهذا كان خواصه, أفضل المخلوقات وأكملها | |
" ثم إنكم بعد ذلك لميتون " | |
" | |
| ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ " الخلق, ونفخ | |
| الروح " لَمَيِّتُونَ " في أحد أطواركم وتنقلاتكم | |
" ثم إنكم يوم القيامة تبعثون " | |
" | |
| ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ " فتجازون بأعمالكم, حسنها وسيئها. | |
| قال تعالى: " أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى | |
| أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ | |
| فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ | |
| بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى " . | |
" ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق وما كنا عن الخلق غافلين " | |
لما ذكر تعالى خلق الآدمي, ذكر مسكنه, وتوفر النعم عليه, من كل وجه | |
| فقال: " وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ " سقفا | |
| للبلاد, ومصلحة للعباد " سَبْعَ طَرَائِقَ " أي: | |
| سبع سموات طباقا, كل طبقة فوق الأخرى, قد زينت بالنجوم, والشمس, والقمر, وأودع | |
| فيها من مصالح الخلق, ما أودع. | |
| " وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ " فكما | |
| أن خلقنا عام لكل مخلوق, فعلمنا أيضا, محيط بما خلقنا, فلا نغفل مخلوقا, ولا | |
| ننساه, ولا نخلق خلقا فنضيعه, ولا نغفل عن السماء فتقع على الأرض, ولا ننسى ذرة في | |
| لجج البحار, وجوانب الفلوات, ولا دابة إلا سقنا إليها رزقا " | |
| وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ | |
| مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا " . | |
| وكثيرا ما يقرن تعالى بين خلقه وعلمه كقوله " أَلَا يَعْلَمُ | |
| مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ " " بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ | |
| الْعَلِيمُ " لأن خلق المخلوقات, من أقوى الأدلة العقلية, على علم | |
| خالقها وحكمته. | |
" وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به | |
| لقادرون " | |
" وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً " يكون رزقا لكم ولأنعامكم, بقدر ما يكفيكم. | |
| فلا ينقصه, بحيث يتلف المساكن, ولا تعيش منه النباتات والأشجار. | |
| بل أنزله وقت الحاجة لنزوله, ثم صرفه, عند التضرر من دوامه. | |
| " فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ " أي: أنزلناه | |
| عليها, فسكن واستقر, وأخرج بقدرة منزله, جميع الأزواج النباتية, وأسكنه أيضا معدا, | |
| في خزائن الأرض, بحيث لم يذهب نازلا, حتى لا يوصل إليه, ولا يبلغ قعره. | |
| " وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ " إما | |
| بأن لا ننزله, أو ننزله, فيذهب نازلا, لا يوصل إليه, أو لا يوجد منه المقصود منه. | |
| وهذا تنبيه منه لعباده, أن يشكروه على نعمته, ويقدروا عدمها, ماذا يحصل به من | |
| الضرر, كقوله تعالى: " قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ | |
| مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ " , " فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ " أي: بذلك الماء " جَنَّاتٍ " أي: بساتين " مِنْ | |
| نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ " . | |
| خص تعالى, هذين النوعين, مع أنه ينشر منه غيرهما من الأشجار, لفضلهما, ومنافعهما, | |
| التي فاقت بها الأشجار, ولهذا ذكر العام في قوله: " لَكُمُ | |
| " أي: في تلك الجنات " فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ | |
| وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ " من تين, وأترج, ورمان, وتفاح وغيرها. | |
" وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين " | |
" وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ " وهي شجرة الزيتون, أي: جنسها. | |
| خصت بالذكر, لأن مكانها خاص, في أرض الشام, ولمنافعها, التي ذكر بعضها في قوله: " تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ " أي: | |
| فيها الزيت, الذي هو دهن, يكثر استعماله من الاستصباح به, واصطباغ للآكلين, أي: | |
| يجعل إداما للآكلين, وغير ذلك من المنافع. | |
" وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها ولكم فيها منافع | |
| كثيرة ومنها تأكلون " | |
أي: ومن نعمه عليكم, أن سخر لكم الأنعام من الإبل, والبقر, والغنم, | |
| فيها عبرة للمعتبرين, ومنافع للمنتفعين. | |
| " نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا " من لبن, | |
| يخرج من بين فرث ودم, لبن, خالص, سائغ للشاربين. | |
| " وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ " من | |
| أصوافها, وأوبارها, وأشعارها, وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا, تستخفونها يوم | |
| ظعنكم, ويوم إقامتكم " وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ " أفضل | |
| المآكل من لحم وشحم. | |
" وعليها وعلى الفلك تحملون " | |
" | |
| وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ " أي: جعلها لكم في البر, تحملون عليها أثقالكم إلى بلد, لم تكونوا | |
| بالغيه, إلا بشق الأنفس. | |
| كما جعل لكم السفن في البحر, تحملكم, وتحمل متاعكم, قليلا كان, أو كثيرا. | |
| فالذي أنعم بهذه النعم, وصنف أنواع الإحسان, وأدر علينا من خيره المدرار, هو الذي | |
| يستحق كمال الشكر, وكمال الثناء, والاجتهاد في عبوديته وأن لا يستعان بنعمه على | |
| معاصيه. | |
" ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من | |
| إله غيره أفلا تتقون " | |
يذكر تعالى رسالة عبده ورسوله, نوح عليه | |
| السلام, أول رسول أرسله لأهل الأرض فأرسله إلى قومه, وهم يعبدون الأصنام, فأمر | |
| بعبادة الله وحده فقال: " يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ | |
| " أي: أخلصوا له العبادة, لأن العبادة, لا تصح إلا بإخلاصها. | |
| " مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ " فيه إبطال | |
| ألوهية غير الله, وإثبات الإلهية لله تعالى, لأنه الخالق الرازق, الذي له الكمال | |
| كله, وغيره بخلاف ذلك. | |
| " أَفَلَا تَتَّقُونَ " ما أنتم عليه من عبادة | |
| الأوثان, والأصنام, التي صورت على صور قوم صالحين, فعبدوها مع الله. | |
| فاستمر على ذلك, يدعوهم سرا وجهارا, وليلا ونهارا, ألف سنة إلا خمسين عاما, وهم لا | |
| يزدادون إلا عتوا ونفورا. | |
" فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن | |
| يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين " | |
" | |
| فَقَالَ الْمَلَأُ " من قومه الأشراف والسادة | |
| المتبوعون - على وجه المعارضة لنبيهم نوح, والتحذير من اتباعه -: " | |
| مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ " أي: | |
| ما هذا إلا بشر مثلكم, قصده حين ادعى النبوة أن يزيد عليكم فضيلة, ليكون متبوعا, | |
| وإلا فما الذي يفضله عليكم, وهو من جنسكم؟. | |
| وهذه المعارضة, لا زالت موجودة, في مكذبي الرسل. | |
| وقد أجاب الله عنها بجواب شاف, على ألسنة رسله كما في " قالوا | |
| " أي: لرسلهم " إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ | |
| مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا | |
| فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا | |
| بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ | |
| " . | |
| فأخبروا أن هذا فضل الله ومنته, فليس لكم أن تحجروا على الله, وتمنعوه من إيصال | |
| فضله علينا. | |
| وقالوا أيضا: ولو شاء الله لأنزل ملائكة. | |
| وهذه أيضا معارضة بالمشيئة باطلة, فإنه وإن كان لو شاء لأنزل ملاكة, فإنه حكيم | |
| رحيم, حكمته ورحمته, تقتضي أن يكون الرسول من جنس الآدميين لأن الملائكة, لا قدرة | |
| لهم على مخاطبته, ولا يمكن أن يكون إلا بصورة رجل ثم يعود اللبس عليهم كما كان. | |
| وقولهم: " مَا سَمِعْنَا بِهَذَا " أي بإرسال | |
| الرسول " فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ " . | |
| وأي حجة في عدم سماعهم إرسال رسول في آبائهم الأولين؟ لأنهم لم يحيطوا علما, بما | |
| تقدم, فلا يجعلوا جهلهم حجة لهم. | |
| وعلى تقدير أنه لم يرسل منهم رسولا, فإما أن يكونوا على الهدى, فلا حاجة لإرسال | |
| الرسول إذ ذاك. | |
| وإما أن يكونوا على غيره, فليحمدوا ربهم, ويشكروه أن خصهم بنعمة, لم تأت آباءهم, | |
| ولا شعروا بها. | |
| ولا يجعلوا عدم الإحسان على غيرهم, سببا لكفرهم للإحسان إليهم. | |
" إن هو إلا رجل به جنة فتربصوا به حتى حين " | |
" إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ " أي: مجنون " فَتَرَبَّصُوا بِهِ " أي: | |
| انتظروا به " حَتَّى حِينٍ " إلى أن يأتيه الموت. | |
| وهذه الشبه التي أوردوها, معارضة لنبوة نبيهم, دالة على شدة كفرهم وعنادهم, وعلى | |
| أنهم في غاية الجهل والضلال, فإنها لا تصلح للمعارضة, بوجه من الوجوه, كما ذكرنا, | |
| بل هي في نفسها متناقضة متعارضة. | |
| فقولهم: " مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ | |
| يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ " أثبتوا أن له عقلا يكيدهم به, ليعلوهم, | |
| ويسودهم, ويحتاج - مع هذا - أن يحذر منه لئلا يغتر به. | |
| فكيف يلتئم مع قولهم: " إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ | |
| " وهل هذا إلا من مشبه ضال, منقلب عليه الأمر, قصده: الدفع بأي طريق | |
| اتفق له, غير عالم بما يقول؟!!. | |
| ويأبى الله إلا أن يظهر خزي من عاداه وعادى رسله. | |
" قال رب انصرني بما كذبون " | |
فلما رأى نوح أنه لا يفيدهم دعاؤه إلا فرارا " | |
| قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ " فاستنصر ربه عليهم, غضبا, | |
| حيث ضيعوا أمره, وكذبوا رسله وقال: " رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى | |
| الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا | |
| عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا " قال تعالى: " وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ " . | |
" فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا فإذا جاء أمرنا وفار | |
| التنور فاسلك فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم ولا | |
| تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون " | |
" | |
| فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ " عند استجابتنا له, | |
| سببا, ووسيلة للنجاة, قبل وقوع أسبابه. | |
| " أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ " أي: السفينة " بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا " أي: بأمرنا لك, | |
| ومعونتنا, وأنت في حفظنا وكلاءتنا بحيث نراك ونسمعك. | |
| " فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا " بإرسال الطوفان الذي | |
| عذبوا به " وَفَارَ التَّنُّورُ " . | |
| أي: فارت الأرض, وتفجرت عيونا, حتى محل النار, الذي لم تجر العادة إلا ببعده عن | |
| الماء. | |
| " فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ " أي: | |
| أدخل في الفلك من كل جنس من الحيوانات, ذكرا وأنثى, تبقى مادة النسل لسائر | |
| الحيوانات, التي اقتضت الحكمة الربانية إيجادها في الأرض. | |
| " وَأَهْلَكَ " أي: أدخلهم " | |
| إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ " كابنه. | |
| " وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا " أي: | |
| لا تدعني أن أنجيهم, فإن القضاء والقدر, قد حتم أنهم مغرقون. | |
" فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من | |
| القوم الظالمين " | |
" | |
| فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ " أي: علوتم عليها, واستقلت بكم في تيار الأمواج, ولجج اليم, فاحمدوا | |
| الله على النجاة والسلامة. | |
| فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين, وهذا تعليم منه له, ولمن معه, أن | |
| يقولوا هذا شكرا له, وحمدا على نجاتهم من القوم الظالمين في عملهم وعذابهم. | |
" وقل رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين " | |
" | |
| وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ | |
| " أي: وبقيت عليكم نعمة أخرى, فادعوا الله | |
| فيها, وهي أن ييسر الله لكم منزلا مباركا. | |
| فاستجاب الله دعاءه, قال الله: " وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ | |
| عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ " إلى أن | |
| قال: " قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ | |
| عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ " الآية. | |
" إن في ذلك لآيات وإن كنا لمبتلين " | |
" | |
| إِنَّ فِي ذَلِكَ " أي: في هذه القصة " لَآيَاتٍ " تدل على أن الله وحده المعبود, وعلى أن | |
| رسوله نوحا, صادق, وأن قومه كاذبون, وعلى رحمة الله بعباده, حيث حملهم في صلب | |
| أبيهم نوح, في الفلك لما غرق أهل الأرض. | |
| والفلك أيضا من آيات الله قال تعالى: " وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا | |
| آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ " ولهذا جمعها هنا لأنها تدل على عدة | |
| آيات ومطالب. | |
| " وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ " . | |
" ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين " | |
لما ذكر نوحا وقومه, وكيف أهلكهم قال: " ثُمَّ | |
| أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ " . | |
| الظاهر أنهم " ثمود " قوم صالح, عليه السلام لأن | |
| هذه القصة تشبه قصتهم. | |
" فأرسلنا فيهم رسولا منهم أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره | |
| أفلا تتقون " | |
" | |
| فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ " من | |
| جنسهم, يعرفون نسبه وحسبه, وصدقه, ليكون ذلك أسرع لانقيادهم, إذا كان منهم, وأبعد | |
| عن اشمئزازهم فدعا إلى ما دعت إليه الرسل أممهم " أَنِ | |
| اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ " . | |
| فكلهم اتفقوا على هذه الدعوة, وهي أول دعوة يدعون بها أممهم, الأمر بعبادة الله, | |
| والإخبار أنه المستحق لذلك, والنهي عن عبادة ما سواه, والإخبار ببطلان ذلك وفساده. | |
| ولهذا قال: " أَفَلَا تَتَّقُونَ " ربكم, | |
| فتجتنبوا هذه الأوثان والأصنام. | |
" وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم | |
| في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون | |
| " | |
" | |
| وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ | |
| الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا " أي: قال الرؤساء الذين جمعوا بين الكفر والمعاندة, وإنكار البعث | |
| والجزاء, وأطغاهم ترفهم في الحياة الدنيا, معارضة لنبيهم, وتكذيبا, وتحذيرا منه: " مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ " أي: من جنسكم " يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا | |
| تَشْرَبُونَ " . | |
| فما الذي يفضله عليكم؟ فهلا كان ملكا, لا يأكل الطعام, ولا يشرب الشراب. | |
" ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون " | |
" | |
| وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ " أي: إن تبعتموه وجعلتموه لكم رئيسا, وهو مثلكم إنكم لمسلوبو العقل, | |
| نادمون على ما فعلتم. | |
| وهذا من العجب, فإن الخسارة والندامة حقيقة, لمن لم يتابعه, ولم ينقد له. | |
| والجهل والسفه العظيم, لمن تكبر عن الانقياد لبشر, خصه الله بوحيه, وفضله برسالته, | |
| وابتلي بعبادة الشجر والحجر. | |
| وهذا نظير قولهم: " فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا | |
| نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ | |
| مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ " . | |
| فلما أنكروا رسالته وردوها, أنكروا ما جاء به من البعث بعد الموت, والمجازاة على | |
| الأعمال فقالوا: | |
" أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون " | |
" | |
| أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ | |
| مُخْرَجُونَ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ " أي: بعيد بعيد ما يعدكم به, من البعث, بعد أن تمزقتم, وكنتم ترابا | |
| وعظاما. | |
| فنظروا نظرا قاصرا, ورأوا هذا, بالنسبة إلى قدرهم غير ممكن. | |
| فقاسوا قدرة الخالق بقدرهم, تعالى الله عن ذلك. | |
| فأنكروا قدرته على إحياء الموتى وعجزوه غاية التعجيز, ونسوا خلقهم أول مرة, وأن | |
| الذي أنشأهم من العدم, فإعادته لهم بعد البلى, أهون عليه وكلاهما هين لديه. | |
| فلم لا ينكرون أول خلقهم, ويكابرون المحسوسات, ويقولون: إننا لم نزل موجودين, حتى | |
| يسلم لهم إنكارهم البعث, وينتقلو معهم إلى الاحتجاج على إثبات وجود الخالق | |
| العظيم؟. | |
| وهنا دليل آخر, وهو: أن الذي أحيا الأرض بعد موتها, إن ذلك لمحيي الموتى, إنه على | |
| كل شيء قدير. | |
| وثم دليل آخر, وهو ما أجاب به المنكرين للبعث في قوله: " بَلْ | |
| عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ | |
| عَجِيبٌ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ " فقال | |
| في جوابهم: " قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ | |
| " أي في البلى. | |
| " وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ " | |
" إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين " | |
" إِنْ | |
| هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا " أي: يموت أناس, ويحيا أناس " وَمَا نَحْنُ | |
| بِمَبْعُوثِينَ " . | |
| " إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ " فلهذا | |
| أتى بما أتى به من توحيد الله, وإثبات المعاد " فَتَرَبَّصُوا | |
| بِهِ حَتَّى حِينٍ " أي: ارفعوا عنه العقوبة بالقتل وغيره, احتراما | |
| له, ولأنه مجنون غير مؤاخذ بما يتكلم به. | |
| أي: فلم يبق بزعمهم الباطل, مجادلة معه, لصحة ما جاء به, فإنهم قد زعموا بطلانه. | |
| وإنما بقي الكلام, هل يوقعون به أم لا؟. | |
| فبزعمهم أن عقولهم الرزينة اقتضت الإبقاء عليه, وترك الإيقاع به, مع قيام الموجب. | |
| فهل فوق هذا العناد والكفر غاية؟!!. | |
| ولهذا لما اشتد كفرهم, ولم ينفع فيهم الإنذار, دعا عليهم نبيهم فقال: " رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ " أي بإهلاكهم, | |
| وخزيهم الدنيوي, قبل الآخرة. | |
| فـ " قَالَ " الله مجيبا لدعوته: " | |
| عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ | |
| " لا بالظلم والجور, بل بالعدل وظلمهم, أخذتهم الصيحة, فأهلكتهم عن | |
| آخرهم. | |
| " فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً " أي هشيما يبسا | |
| بمنزلة غثاء السيل الملقى في جنبات الوادي, وقال في الآية الأخرى " | |
| إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ | |
| الْمُحْتَظِرِ " " فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ " أي: | |
| أتبعوا مع عذابهم, البعد واللعنة والذم من العالمين. | |
| " فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا | |
| كَانُوا مُنْظَرِينَ " . | |
| هذا التعبير مجاز عن عدم الاكتراث بهلاكهم والاعتداد بوجودهم. | |
| وفيه تهكم بهم, وبحالهم المنافية لحال من يعظم فقده, فيقال عنه: " | |
| بكت عليه السماء والأرض " . | |
| ومنه ما روي " أن المؤمن إذا مات, ليبكي عليه مصلاه, ومحل | |
| عبادته, ومصاعد عمله, ومهابط رزقه, وآثاره في الأرض " . | |
| وعن الحسن يبكي عليه أهل السماء والأرض. | |
| " وَمَا كَانُوا " لما جاءهم وقت هلاكهم " مُنْظَرِينَ " أي: ممهلين إلى وقت آخر, بل عجل لهم | |
| العذاب في الدنيا. | |
| والمعنى الإجمالي: فما حزنت عليهم السماء والأرض عندما أخذهم العذاب, لهوان شأنهم, | |
| لأنهم ماتوا كفارا, ولم ينظروا لتوبة, ولم يمهلوا لتدارك تقصيرهم احتقارا لهم. | |
" ثم أنشأنا من بعدهم قرونا آخرين " | |
أي: ثم أنشأنا من بعد هؤلاء المكذبين المعاندين, قرونا آخرين, كل أمة | |
| في وقت مسمى, وأجل محدود, لا تتقدم عنه ولا تتأخر. | |
| وأرسلنا إليهم رسلا متتابعة, لعلهم يؤمنون ويبينون. | |
| فلم يزل الكفر والتكذيب, دأب الأمم العصاة, والكفرة البغاة كلما جاء أمة رسولها, | |
| كذبوه, مع أن كل رسول يأتي من الآيات, ما يؤمن على مثله البشر. | |
| بل مجرد دعوة الرسل وشرعهم, يدل على حقية ما جاءوا به. | |
| " فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا " بالهلاك, | |
| فلم يبق منهم باقية, وتعطلت مساكنهم من بعدهم. | |
| " وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ " يتحدث بهم من | |
| بعدهم, ويكونون عبرة للمتقين, ونكالا للمكذبين, وخزيا عليهم مقرونا بعذابهم. | |
| " فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ " ما | |
| أشقاهم!! وتعسا لهم, ما أخسر صفقتهم!!. | |
| مر علي منذ زمان طويل, كلام لبعض العلماء لا يحضرني الآن اسمه, وهو أنه بعد موسى | |
| ونزول التوراة, رفع الله العذاب عن الأمم, أي: عذاب الاستئصال, وشرع للمكذبين | |
| المعاندين بالجهاد, ولم أدر من أين أخذه. | |
| فلما تدبرت هذه الآيات, مع الآيات التي في سورة القصص, تبين لي وجهه. | |
| أما هذه الآيات, فلأن الله, ذكر الأمم المهلكة المتتابعة على الهلاك. | |
| ثم أخبر أنه أرسل موسى بعدهم, وأنزل عليه التوراة, فيها الهداية للناس. | |
| ولا يرد على هذا, إهلاك فرعون, فإنه قبل نزول التوراة. | |
| وأما الآيات التي في سورة القصص, فهي صريحة جدا. | |
| فإنه لما ذكر هلاك فرعون قال: " وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى | |
| الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ | |
| وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ " فهذا صريح أنه آتاه | |
| الكتاب بعد هلاك الأمم الباغية. | |
| وأخبر أنه أنزله بصائر للناس, وهدى ورحمة. | |
| ولعل من هذا, ما ذكر الله في سورة " يونس " من | |
| قولة " ثم بعثنا من بعده " أي من بعد نوح " رسلا إلى قومهم فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل كذلك نطبع | |
| على قلوب المعتدين ثم بعثنا من بعدهم موسى وهرون " الآيات والله أعلم. | |
" ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا وسلطان مبين " | |
فقوله " ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى " بن | |
| عمران, كليم الرحمن " وَأَخَاهُ هَارُونَ " حين | |
| سأل ربه أن يشركه في أمره فأجاب سؤله. | |
| " بِآيَاتِنَا " الدالة على صدقهما وصحة ما جاءا | |
| به " وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ " أي: حجة بينة. | |
| من قوتها, أن تقهر القلوب, وتتسلط عليها لقوتها فتنقاد لها قلوب المؤمنين, وتقوم | |
| الحجة البينة على المعاندين. | |
| وهذا كقوله " وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ | |
| بَيِّنَاتٍ " ولهذا رئيس المعاندين عرف الحق وعاند " | |
| فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ " بتلك الآيات البينات " فَقَالَ " له " فِرْعَوْنُ | |
| إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ | |
| هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ | |
| يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا " . | |
| وقال تعالى: " وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا | |
| أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا " . | |
| وقال هنا " ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ | |
| بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ " كـ " هامان " وغيره من رؤسائهم. | |
| " فَاسْتَكْبَرُوا &a أكثر المصاحف تفاعلاً |