سورة القصص - تفسير السعدي | |
| | |
" تلك آيات الكتاب المبين " | |
" تِلْكَ " الآيات المستحقة للتعظيم والتفخيم " | |
| آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ " لكل أمر يحتاج إليه العباد, من معرفة ربهم, | |
| ومعرفة حقوقه, ومعرفة أوليائه وأعدائه, ومعرفة وقائعه وأيامه, ومعرفة ثواب | |
| الأعمال, وجزاء العمال. | |
| فهذا القرآن قد بينها غاية التبيين, وجلَّالها للعباد, ووضحها. | |
" نتلوا عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون " | |
ومن جملة ما أبان, قصة موسى وفرعون, فإنه | |
| أبداها, وأعادها في عدة مواضع. | |
| وبسطها في هذا الموضع فقال: " نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ | |
| مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ " . | |
| فإن نبأهما غريب, وخبرهما عجيب. | |
| " لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ " فإليهم يساق الخطاب, | |
| ويوجه الكلام. | |
| حيث إن معهم من الإيمان, ما يقبلون به, على تدبُّر ذلك, وتلقِّيه بالقبول | |
| والاهتداء, بمواقع العبر, ويزدادون به إيمانا, ويقينا, وخيرا إلى خيرهم. | |
| وأما من عداهم, فلا يستفيدون منه, إلا إقامة الحجة عليهم, وصانه اللّه عنهم, وجعل | |
| بينهم وبينه حجابا أن يفقهوه. | |
" إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح | |
| أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين " | |
فأول هذه القصة " إِنَّ | |
| فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ " في ملكه وسلطانه, وجنوده, وجبروته, | |
| فصار من أهل العلو فيها, لا من الأعلين فيها. | |
| " وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا " أي: طوائف | |
| متفرقة, يتصرف فيهم بشهوته, وينفذ فيهم ما أراد من قهره, وسطوته. | |
| " يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ " وتلك | |
| الطائفة, هم: بنو إسرائيل, الذين فضلهم اللّه على العالمين, الذين ينبغي له أن | |
| يكرمهم ويجلهم. | |
| ولكنه استضعفهم, بحيث إنه رأى أنهم لا منعة لهم تمنعهم مما أراده فيهم. | |
| فصار لا يبالي بهم ولا يهتم بشأنهم, وبلغت به الحال, إلى أنه " | |
| يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ " خوفا من أن | |
| يكثروا, فيغمروه في بلاده, ويصير لهم الملك. | |
| " إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ " الذين لا | |
| قصد لهم في صلاح الدين, ولا صلاح الدنيا, وهذا من إفساده في الأرض. | |
" ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم | |
| الوارثين " | |
" وَنُرِيدُ | |
| أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ " بأن نزيل عنهم مواد الاستضعاف, ونهلك من قاومهم, ونخذل من ناوأهم. | |
| " وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً " في الدين, وذلك لا | |
| يحصل مع استضعاف, بل لا بد من تمكين في الأرض, وقدرة تامة. | |
| " وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ " للأرض, الذين | |
| لهم العاقبة في الدنيا قبل الآخرة. | |
" ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا | |
| يحذرون " | |
" وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ " فهذه الأمور كلها, قد تعلقت بها إرادة اللّه, وجرت بها مشيئته. | |
| وكذلك نريد أن " وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ " وزيره | |
| " وَجُنُودَهُمَا " الذين بهم صالوا وجالوا, | |
| وعلوا وبغوا " مِنْهُمْ " أي: من هذه الطائفة | |
| المستضعفة. | |
| " مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ " من إخراجهم من | |
| ديارهم, ولذلك كانوا يسعون في قمعهم, وكسر شوكتهم, وتقتيل أبنائهم, الذين هم محل | |
| ذلك. | |
| فكل هذا قد أراده اللّه, وإذا أراد أمرا, سهل أسبابه, ونهج طرقه. | |
| وهذا الأمر كذلك, فإنه قدر وأجرى من الأسباب - التي لم يشعر بها لا أولياؤه ولا | |
| أعداؤه - ما هو سبب موصل إلى هذا المقصود. | |
" وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم | |
| ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين " | |
فأول ذلك, لما أوجد اللّه رسوله موسى, الذي جعل استنقاذ هذا الشعب | |
| الإسرائيلي على يديه وبسببه, وكان في وقت تلك المخافة العظيمة, التي يذبحون بها | |
| الأبناء, أوحى إلى أمه, أن ترضعه, ويمكث عندها. | |
| " فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ " بأن أحسست أحدا | |
| تخافين عليه منه أن يوصله إليهم. | |
| " فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ " أي نيل مصر, في وسط | |
| تابوت مغلق. | |
| " وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ | |
| وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ " . | |
| فبشرها بأنه سيرده إليها, وأنه سيكبر ويسلم من كيدهم, ويجعله اللّه رسولا. | |
| وهذا من أعظم البشائر الجليلة, وتقديم هذه البشارة لأم موسى, ليطمئن قلبها, ويسكن | |
| روعها, فكأنها خافت عليه, وفعلت ما أمرت به, ألقته في اليم, وساقه اللّه تعالى. | |
" فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا إن فرعون وهامان | |
| وجنودهما كانوا خاطئين " | |
" | |
| فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ " فصار من | |
| لقطهم, وهم الذين باشروا وجدانه. | |
| " لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا " أي: | |
| لتكون العاقبة والمآل من هذا الالتقاط, أن يكون عدوا لهم وحزنا يحزنهم, بسبب أن | |
| الحذر لا ينفع من القدر, وأن الذي خافوا منه من بني إسرائيل, قيض اللّه أن يكون | |
| زعيمهم, يتربى تحت أيديهم, وعلى نظرهم, وبكفالتهم. | |
| وعند التدبر والتأمل, تجد في طي ذلك من المصالح لبني إسرائيل, ودفع كثير من الأمور | |
| الفادحة بهم, ومنع كثير من التعديات قبل رسالته بحيث إنه صار من كبار المملكة. | |
| وبالطبع لا بد أن يحصل منه مدافعة عن حقوق شعبه هذا, وهو هو ذو الهمة العالية | |
| والغيرة المتوقدة. | |
| ولهذا وصلت الحال بذلك الشعب المستضعف - الذي بلغ بهم الذل والإهانة, إلى ما قص | |
| اللّه علينا بعضه - أن صار بعض أفراده, ينازع ذلك الشعب القاهر العالي في الأرض: | |
| كما سيأتي بيانه. | |
| وهذا مقدمة للظهور, فإن اللّه تعالى من سنته الجارية, أن جعل الأمور تمشي على | |
| التدريج, شيئا فشيئا, ولا تأتي دفعة واحدة. | |
| وقوله " إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا | |
| خَاطِئِينَ " أي: مجرمين, فأردنا أن نعاقبهم على إجرامهم, ونكيد لهم, | |
| جزاء على مكرهم وكيدهم. | |
" وقالت امرأة فرعون قرة عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو | |
| نتخذه ولدا وهم لا يشعرون " | |
فلما التقظه آل فرعون, حنَّن اللّه عليه امرأة فرعون الفاضلة الجليلة, | |
| المؤمنة " آسية " بنت مزاحم " | |
| وَقَالَتِ " : هذا الولد " قُرَّةُ عَيْنٍ لِي | |
| وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ " . | |
| أي أبقه لنا, لِتقرَّ به أعيننا, ونسر به في حياتنا. | |
| " عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا " أي: | |
| لا يخلو, إما أن يكون بمنزلة الخدم, الذين يسعون في نفعنا وخدمتنا أو نرقيه درجة | |
| أعلى من ذلك, نجعله ولدا لنا, ونكرمه, ونجله. | |
| فقدَّر اللّه تعالى, أنه نفع امرأة فرعون, التي قالت تلك المقالة. | |
| فإنه لما صار قرة عين لها, وأحبته حبا شديدا, فلم يزل لها بمنزلة الولد الشقيق, | |
| حتى كبر, ونبأه اللّه وأرسله, بادرت إلى الإسلام والإيمان به, رضى اللّه عنها, | |
| وأرضاها. | |
| قال اللّه تعالى هذه المراجعات والمقاولات, في شأن موسى: " | |
| وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ " ما جرى به القلم, ومضى به القدر, من وصوله | |
| إلى ما وصل إليه. | |
| وهذا من لطفه تعالى, فإنهم لو شعروا, لكان لهم وله, شأن آخر. | |
" وأصبح فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على | |
| قلبها لتكون من المؤمنين " | |
ولما فقدت موسى أمه, حزنت حزنا شديدا, وأصبح فؤادها فارغا من القلق, | |
| الذي أزعجها, على مقتضى الحالة البشرية, مع أن اللّه تعالى نهاها عن الحزن والخوف, | |
| ووعدها برده. | |
| " إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ " أي: بما في | |
| قلبها " لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا " فثبتناها, | |
| فصبرت, ولم تبد به. | |
| " لِتَكُونَ " بذكر الصبر والثبات " مِنَ الْمُؤْمِنِينَ " فإن العبد إذا أصابته مصيبة, | |
| فصبر وثبت, ازداد بذلك إيمانه, ودل ذلك, على أن استمرار الجزع مع العبد, دليل على | |
| ضعف إيمانه | |
" وقالت لأخته قصيه فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون " | |
" وَقَالَتِ " أم موسى " لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ " أي: اذهبي فقصي الأثر عن أخيك, | |
| وابحثي عنه, من غير أن يحس بك أحد, أو يشعروا بمقصودك. | |
| فذهبت تقصه " فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا | |
| يَشْعُرُونَ " أي: أبصرته على وجه, كأنها مارة لا قصد لها فيه. | |
| وهذا من تمام الحزم والحذر, فإنها لو أبصرته, وجاءت إليهم قاصدة لظنوا بها, أنها | |
| هي التي ألقته, فربما عزموا على ذبحه, عقوبة لأهله. | |
" وحرمنا عليه المراضع من قبل فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه | |
| لكم وهم له ناصحون " | |
ومن لطف اللّه بموسى وأمه, أن منعه من قبول ثدي امرأة, فأخرجوه إلى | |
| السوق, رحمة به, ولعل أحدا يطلبه. | |
| فجاءت أخته, وهو بتلك الحال " فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ | |
| عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ " . | |
| وهذا جُلُّ غرضهم, فإنهم أحبوه حبا شديدا, وقد منعه اللّه من المراضع فخافوا أن | |
| يموت. | |
| فلما قالت لهم أخته, تلك المقالة المشتملة على الترغيب, في أهل هذا البيت, بتمام | |
| حفظه وكفالته, والنصح له, بادروا إلى إجابتها, فأعلمتهم, ودلتهم على أهل هذا | |
| البيت. | |
" فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق | |
| ولكن أكثرهم لا يعلمون " | |
" فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ " كما وعدناها بذلك " كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا | |
| تَحْزَنَ " بحيث أنه تربى عندها, على وجه تكون فيه آمنة مطمئنة, تفرح | |
| به, وتأخذ الأجرة الكثيرة على ذلك. | |
| " وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ " فأريناها | |
| بعض ما وعدناها به عيانا, ليطمئن بذلك قلبها, ويزداد إيمانها, ولتعلم أنه سيحصل | |
| وعد اللّه, في حفظه, ورسالته. | |
| " وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ " فإذا | |
| رأوا السبب متشوشا, شوش ذلك إيمانهم, لعدم علمهم الكامل, أن اللّه تعالى يجعل المحن | |
| والعقبات الشاقة, بين يدي الأمور العالية, والمطالب الفاضلة. | |
| فاستمر موسى عليه الصلاة والسلام عند آل فرعون, يتربى في سلطانهم, ويركب مراكبهم, | |
| ويلبس ملابسهم. | |
| وأمه بذلك مطمئنة, قد استقر أنها أمه من الرضاع, ولم يستنكر ملازمته إياها, وحنوه | |
| عليها. | |
| وتأمل هذا اللطف من اللّه, وصيانة نبيه موسى من الكذب في منطقه, وتيسير الأمر, | |
| الذي صار به التعلق, بينه وبينها, الذي بان للناس, أنه هو الرضاع, الذي بسببه | |
| يسميها أُمَّا, فكان الكلام الكثير منه ومن غيره في ذلك كله, صدقا وحقا. | |
" ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين | |
| " | |
" | |
| وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ " من القوة والعقل | |
| واللب, وذلك نحو أربعين سنة في الغالب. | |
| " وَاسْتَوَى " فكملت فيه تلك الأمور " آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا " أي: حكما يعرف به | |
| الأحكام الشرعية, ويحكم به بين الناس, وعلما كثيرا. | |
| " وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ " في عبادة | |
| اللّه المحسنين, لخلق اللّه, يعطيهم علما وحكما, بحسب إحسانهم, ودل هذا على كمال | |
| إحسان موسى عليه السلام. | |
" ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان | |
| هذا من شيعته وهذا من عدوه فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى | |
| فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين " | |
" وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا | |
| " إما وقت القائلة, أو غير ذلك من الأوقات, | |
| التي بها يغفلون عن الانتشار. | |
| " فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ " يتخاصمان | |
| ويتضاربان " هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ " أي من بني | |
| إسرائيل " وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ " كالقبط. | |
| " فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ | |
| عَدُوِّهِ " لأنه قد اشتهر, وعلم الناس أنه من بني إسرائيل, واستغاثته | |
| لموسى, دليل على أنه بلغ موسى عليه السلام مبلغا, يخاف منه, ويرجى من بيت المملكة | |
| والسلطان. | |
| " فَوَكَزَهُ مُوسَى " أي: وكز الذي من عدوه, | |
| استجابة لاستغاثة الإسرائيلي. | |
| " فَقَضَى عَلَيْهِ " أي: أماته من تلك الوكزة, | |
| لشدتها, وقوة موسى. | |
| فندم موسى عليه السلام على ما جرى منه, و " قَالَ هَذَا مِنْ | |
| عَمَلِ الشَّيْطَانِ " أي: من تزيينه, ووسوسته " | |
| إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ " فلذلك أجريت ما أجريت بسبب عداوته | |
| البينة, وحرصه على الإضلال. | |
" قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم | |
| " | |
ثم استغفر ربه " قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ | |
| نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ " خصوصا | |
| للمخبتين إليه, المبادرين للإنابة والتوبة, كما جرى من موسى عليه السلام. | |
" قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين " | |
" قَالَ " موسى " رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ " بالتوبة والمغفرة, | |
| والنعم الكثيرة " فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا " أي: | |
| معينا ومساعدا " لِلْمُجْرِمِينَ " أي: لا أعين | |
| أحدا على معصية. | |
| وهذا وعد من موسى عليه السلام, بسبب منة اللّه عليه, أن لا يعين مجرما, كما فعل في | |
| قتل القبطي. | |
| وهذا يفيد أن النعم, تقتضي من العبد فعل الخير, وترك الشر. | |
" فأصبح في المدينة خائفا يترقب فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه | |
| قال له موسى إنك لغوي مبين " | |
لما جرى منه قتل الذي هو من عدوه " فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ " هل | |
| يشعر به آل فرعون, أم لا؟ وإنما خاف, لأنه قد علم, أنه لا يتجرأ أحد على مثل هذه | |
| الحال, سوى موسى, من بني إسرائيل. | |
| فبينما هو على تلك الحال " فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ | |
| بِالْأَمْسِ " على عدوه " يَسْتَصْرِخُهُ " على | |
| قبطي آخر. | |
| " قَالَ لَهُ مُوسَى " موبخا على حاله " إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ " أي: بين الغواية, ظاهر | |
| الجراءة. | |
" فلما أن أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما قال يا موسى أتريد أن | |
| تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون | |
| من المصلحين " | |
" فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ " موسى " بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا " أي: | |
| له وللمخاصم المستصرخ لموسى, أي: لم يزل اللجاج بين القبطي والإسرائيلي, وهو | |
| يستغيث بموسى, فأخذته الحمية, حتى هم أن يبطش بالقبطي. | |
| " قَالَ " له القبطي زاجرا له عن قتله: " يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ | |
| إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ " لأن من | |
| أعظم آثار الجبار في الأرض, قتل النفس بغير حق. | |
| " وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ " وإلا, | |
| فلو أردت الإصلاح, لحلت بيني وبينك, من غير قتل أحد. | |
| فانكف موسى عن قتله, وارعوى, لوعظه وزجره. | |
| وشاع الخبر بما جرى من موسى في هاتين القضيتين, حتى تراود ملأ فرعون, وفرعون على | |
| قتله, وتشاوروا على ذلك. | |
" وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك | |
| ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين " | |
فقيض اللّه, ذلك الرجل الناصح, وبادر إلى | |
| الإخبار لموسى بما اجتمع عليه رَأْيُ ملإهم. | |
| فقال: " وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى | |
| " أي: ركضا على قدميه, من نصحه لموسى, وخوفه أن يوقعوا به, قبل أن | |
| يشعر. | |
| " قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ | |
| " أي: يتشاورون فيك " لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ | |
| " عن المدينة " إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ | |
| " . | |
" فخرج منها خائفا يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين " | |
فامتثل نصحه " فَخَرَجَ | |
| مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ " أن يوقع به القتل, ودعا اللّه. | |
| " قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ " فإنه | |
| قد تاب من ذنبه وفعله غضبا, من غير قصد منه للقتل, فَتَوعُّدُهُمْ له, ظلم منهم | |
| وجراءة. | |
" ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل " | |
" | |
| وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ " أي: | |
| قاصدا بوجهه مدين, وهو جنوبي فلسطين, حيث لا ملك فيه لفرعون. | |
| " قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ | |
| " أي: وسط الطريق المختصر, الموصل إليها, بسهولة ورفق, فهداه اللّه | |
| سواء السبيل, فوصل إلى مدين. | |
" ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم | |
| امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير | |
| " | |
" وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً | |
| مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ " مواشيهم, وكانوا | |
| أهل ماشية كثيرة " وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ " أي: | |
| دون تلك الأمة " امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ " غنمهما, | |
| عن حياض الناس, لعجزهما عن مزاحمة الرجال, وبخلهم, وعدم مروءتهم, عن السقي لهما. | |
| " قَالَ " لهما موسى " مَا | |
| خَطْبُكُمَا " أي: ما شأنكما بهذه الحالة. | |
| " قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ " أي: | |
| قد جرت العادة أنه لا يحصل لنا سقي حتى يصدر الرعاء مواشيهم, فإذا خلا لنا الجو, | |
| سقينا. | |
| " وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ " أي: لا قوة له على | |
| السقي, فليس فينا قوة, نقتدر بها, ولا لنا رجال, يزاحمون الرعاء. | |
" فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير | |
| فقير " | |
فرق لهما موسى عليه السلام ورحمهما " فَسَقَى لَهُمَا " غير طالب منهما الأجر, ولا له قصد, | |
| غير وجه اللّه تعالى. | |
| فلما سقي لهما, وكان ذلك وقت شدة حر, وسط النهار, بدليل قوله: " | |
| ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ " مستريحا لتلك الظلال بعد التعب. | |
| " فَقَالَ " في تلك الحالة, مسترزقا ربه " رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ | |
| " . | |
| أي: إني مفتقر للخير, الذي تسوقه إليَّ,, وتيسره لي. | |
| وهذا سؤال منه بحاله, والسؤال بالحال, أبلغ من السؤال بلسان المقال. | |
| فلم يزل في هذه الحالة, داعيا ربه متملقا. | |
| وأما المرأتان, فذهبتا إلى أبيهما, وأخبرتاه بما جرى. | |
" فجاءته إحداهما تمشي على استحياء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر | |
| ما سقيت لنا فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين " | |
فأرسل أبوهما, إحداهما إلى موسى, فجاءته " تَمْشِي | |
| عَلَى اسْتِحْيَاءٍ " . | |
| وهذا يدل على كرم عنصرها, وخلقها الحسن, فإن الحياء من الأخلاق الفاضلة, وخصوصا في | |
| النساء. | |
| ويدل على أن موسى عليه السلام, لم يكن فيما فعله من السقي, بمنزلة الأجير والخادم, | |
| الذي لا يستحى منه عادة, وإنما هو عزيز النفس, رأت من حسن خلقه, ومكارم أخلاقه, ما | |
| أوجب لها الحياء منه. | |
| " قَالَتِ " له: " إِنَّ | |
| أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا " أي: لا | |
| لِمَنٍّ عليك, بل أنت الذي ابتدأتنا بالإحسان, وإنما قصده أن يكافئك على إحسانك. | |
| فأجابها موسى. | |
| " فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ " من | |
| ابتداء السبب الموجب لهربه, إلى أن وصل إليه " قَالَ " مسكنا | |
| روعه, جابرا قلبه: " لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ | |
| الظَّالِمِينَ " أي: ليذهب خوفك وروعك, فإن اللّه نجاك منهم, حيث وصلت | |
| إلى هذا المحل, الذي ليس لهم عليه سلطان. | |
" قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين | |
| " | |
" | |
| قَالَتْ إِحْدَاهُمَا " أي: إحدى ابنتيه " يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ " أي: اجعله أجيرا عندك, | |
| يرعى الغنم ويسقيها. | |
| " إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ | |
| " أي: إن موسى, أولى من استؤجر, فإنه جمع القوة والأمانة, وخير أجير | |
| استؤجر, من جمعهما, القوة, والقدرة, على ما استؤجر عليه, والأمانة فيه بعدم | |
| الخيانة. | |
| وهذان الوصفان, ينبغي اعتبارهما في كل من يتولى للإنسان عملا, بإجارة أو غيرها. | |
| فإن الخلل لا يكون إلا بفقدهما, أو فقد إحداهما. | |
| وأما باجتماعهما, فإن العمل يتم ويكمل. | |
| وإنما قالت ذلك, لأنها شاهدت من قوة موسى عند السقي لهما, ونشاطه, ما عرفت به | |
| قوته, وشاهدت من أمانته وديانته, وأنه رحمهما في حالة, لا يرجى نفعهما, وإنما قصده | |
| بذلك, وجه اللّه تعالى. | |
" قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني | |
| حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين | |
| " | |
" قَالَ " صاحب مدين | |
| لموسى " إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ | |
| هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي " أي تصير أجيرا عندي " ثَمَانِيَ حِجَجٍ " . | |
| أي: ثماني سنين. | |
| " فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ " تبرع | |
| منك, لا شيء واجب عليك. | |
| " وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ " فأحتم | |
| عشر السنين, وما أريد أن أستأجرك, لأكلفك أعمالا شاقة, وإنما استأجرتك, لعمل سهل | |
| يسير, لا مشقة فيه " سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ | |
| الصَّالِحِينَ " فرغبه في سهولة العمل, وفي حسن المعاملة. | |
| وهذا يدل على أن الرجل الصالح, ينبغي له أن يحسن خلقه, مهما أمكنه, وأن الذي يطلب | |
| منه, أبلغ من غيره. | |
" قال ذلك بيني وبينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي والله على | |
| ما نقول وكيل " | |
" قَالَ " موسى عليه | |
| السلام - مجيبا له فيما طلبه منه -: " ذَلِكَ بَيْنِي | |
| وَبَيْنَكَ " أي هذا الشرط, الذي أنت ذكرت, رضيت به, وقد تم فيما بيني | |
| وبينك. | |
| " أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ | |
| " سواء قضيت الثماني الواجبة, أم تبرعت بالزائد عليها " | |
| وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ " حافظ يراقبنا, ويعلم ما | |
| تعاقدنا عليه. | |
| وهذا الرجل, أبو المرأتين, صاحب مدين, ليس بشعيب النبي المعروف, كما اشتهر عند | |
| كثير من الناس, فإن هذا, قول لم يدل عليه دليل وغاية ما يكون, أن شعيبا عليه | |
| السلام, قد كانت بلده مدين, وهذه القضية, جرت في مدين, فأين الملازمة بين الأمرين؟ | |
| وأيضا, فإنه غير معلوم, أن موسى أدرك زمان شعيب, فكيف بشخصه؟!! ولو كان ذلك الرجل | |
| شعيبا, لذكره اللّه تعالى, ولسمته المرأتان. | |
| وأيضا فإن شعيبا, عليه الصلاة والسلام, قد أهلك اللّه قومه بتكذيبهم إياه. | |
| ولم يبق إلا من آمن به. | |
| وقد أعاذ اللّه المؤمنين به, أن يرضوا لبنتي نبيهم, بمنعهما عن الماء, وصد | |
| ماشيتهما, حتى يأتيهما رجل غريب, فيحسن إليهما, ويسقي ماشيتهما. | |
| وما كان شعيب, ليرضى أن يرعى موسى عنده, ويكون خادما له, وهو أفضل منه, وأعلى | |
| درجة, إلا أن يقال: هذا قبل نبوة موسى, فلا منافاة. | |
| وعلى كل حال, لا يعتمد على أنه شعيب النبي, بغير نقل صحيح عن النبي صلى اللّه عليه | |
| وسلم, واللّه أعلم. | |
" فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور نارا قال | |
| لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون | |
| " | |
" فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ " يحتمل أنه قضى الأجل الواجب, أو الزائد عليه, كما هو الظن بموسى, | |
| ووفائه, اشتاق إلى الوصول إلى أهله, ووالدته, وعشيرته, ووطنه. | |
| وظن من طول المدة, أنهم قد تناسوا ما صدر منه. | |
| " وَسَارَ بِأَهْلِهِ " قاصدا مصر " آنَسَ " أي: أبصر " مِنْ جَانِبِ | |
| الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي | |
| آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ | |
| " وكان قد أصابهم البرد, وتاهوا الطريق. | |
" فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من | |
| الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين " | |
" فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي | |
| الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى | |
| إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ " فأخبر | |
| بألوهيته, وربوبيته. | |
| ويلزم من ذلك, أن يأمره بعبادته, وتألهه, كما صرح به في الآية الأخرى " فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي " . | |
" وأن ألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا | |
| موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين " | |
" وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ " فألقاها " فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ " تسعى | |
| سعيا شديدا, ولها سورة مُهِيلة " كَأَنَّهَا جَانٌّ " ذَكَرُ | |
| الحيات العظيم. | |
| " وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ " أي: يرجع, | |
| لاستيلاء الروع على قلبه. | |
| فقال اللّه له: " يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ | |
| مِنَ الْآمِنِينَ " وهذا أبلغ ما يكون في التأمين, وعدم الخوف. | |
| قإن قوله: " أَقْبِلْ " يقتضي الأمر بإقباله, | |
| ويجب عليه الامتثال. | |
| ولكن قد يكون إقباله, وهو لم يزل في الأمر المخوف, فقال: " | |
| وَلَا تَخَفْ " أمر له بشيئين, إقباله, وأن لا يكون في قلبه خوف. | |
| ولكن يبقى احتمال, وهو أنه, قد يقبل وهو غير خائف, ولكن لا تحصل له الوقاية والأمن | |
| من المكروه, فلذلك قال: " إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ " فحينئذ | |
| اندفع المحذور من جميع الوجوه. | |
| فأقبل موسى عليه السلام, غير خائف, ولا مرعوب, بل مطمئنا, واثقا بخبر ربه, قد | |
| ازداد إيمانه, وتم يقينه. | |
| فهذه آية, أراه اللّه إياها, قبل ذهابه إلى فرعون, ليكون على يقين تام, فيكون أجرا | |
| له, وأقوى وأصلب. | |
" اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء واضمم إليك جناحك من | |
| الرهب فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه إنهم كانوا قوما فاسقين " | |
ثم أراه الآية الأخرى فقال: " | |
| اسْلُكْ يَدَكَ " أي: أدخلها " فِي جَيْبِكَ | |
| تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ " فسلكها وأخرجها, كما ذكر | |
| اللّه تعالى. | |
| " وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ " أي | |
| ضم جناحك وهو عضدك إلى جنبك ليزول عنك الرهب والخوف. | |
| " فَذَانِكَ " أي: انقلاب العصا حية, وخروج اليد | |
| بيضاء من غير سوء. | |
| " بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ " أي: حجتان قاطعتان | |
| من اللّه. | |
| " إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا | |
| فَاسِقِينَ " فلا يكفيهم مجرد الإنذار وأمر الرسول إياهم, بل لا بد من | |
| الآيات الباهرة, إن نفعت. | |
" قال رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون " | |
" | |
| قَالَ " موسى عليه السلام, معتذرا من ربه, وسائلا | |
| له المعونة على ما حمله, وذاكرا له الموانع, التي فيه, ليزيل ربه ما يحذره منها. | |
| " رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا " أي: " فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِي وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ | |
| مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءًا ءا " أي: معاونا ومساعدا " يُصَدِّقُنِي " فإنه مع تضافر الأخبار, يقوى الحق " إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ " . | |
" قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما | |
| بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون " | |
فأجابه اللّه إلى سؤاله فقال: " سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ " أي: نعاونك به | |
| ونقويك. | |
| ثم أزال عنه محذور القتل, فقال: " وَنَجْعَلُ لَكُمَا | |
| سُلْطَانًا " أي: تسلطا, وتمكنا من الدعوة, بالحجة, والهيبة الإلهية | |
| من عدوهما " فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا " . | |
| وذلك بسبب آياتنا, وما دلت عليه من الحق, وما أزعجت به من باشرها ونظر إليها. | |
| فهي التي بها حصل لكما السلطان, واندفع بها عنكم, كيد عدوكم, وصارت لكم أبلغ من | |
| الجنود, أولي الْعَدَدِ والْعُدَدِ. | |
| " أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ " وهذا | |
| وعد لموسى في ذلك الوقت, وهو وحده فريد, وقد رجع إلى بلده, بعد ما كان شريدا. | |
| فلم تزل الأحوال تتطور, والأمور تنتقل, حتى أنجز له موعوده, ومكنه من العباد | |
| والبلاد, وصار له ولأتباعه, الغلبة والظهور. | |
" فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات قالوا ما هذا إلا سحر مفترى وما | |
| سمعنا بهذا في آبائنا الأولين " | |
فذهب موسى برسالة ربه " فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى | |
| بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ " واضحات الدلالة على ما قال لهم, ليس فيها | |
| قصور, ولا خفاء. | |
| " قَالُوا " على وجه الظلم, والعلو, والعناد " مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى " كما قال فرعون | |
| في تلك الحال, التي ظهر فيها الحق, واستعلى على الباطل, واضمحل الباطل, وخضع له | |
| الرؤساء العارفون حقائق الأمور " إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ | |
| الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ " (هذا, وهو الذكي غير الزكي الذي بلغ | |
| من المكر والخداع والكيد, ما قصه اللّه علينا وقد علم " مَا | |
| أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ " ولكن | |
| الشقاء غالب. | |
| " وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ | |
| " وقد كذبوا في ذلك, فإن اللّه أرسل يوسف, قبل موسى كما قال تعالى " وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا | |
| زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ | |
| يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ | |
| مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ " . | |
" وقال موسى ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ومن تكون له عاقبة | |
| الدار إنه لا يفلح الظالمون " | |
" | |
| وَقَالَ مُوسَى " حين زعموا أن الذي جاءهم به | |
| سحر وضلال, وأن م أكثر المصاحف تفاعلاً |