كان هَمٌّ كثير من المفسرين في القديم والحديث أن يظهروا مقدار ما حصلوه من الثقافة العلمية في ما يفسرون به كتاب الله أكثر مما يظهرون المعنى المراد جلياً واضحاً لا لبس فيه، لذلك مُلئت كتب التفسير بحشود من مقررات النحو والبلاغة واللغة من الناحية اللسانية وبحشود من مقررات الأصول وعلم الكلام والمنطق والفلسفة في الناحية التشريعية والعقدية، وأصبح القارئ حائراً لا يدرى أين يتجه في هذا العجاج المنتشر حول آيات الكتاب المبين، حتى قال بعض الدارسين عن كتاب مفاتيح الغيب للإمام الرازي إنه جمع كل شيء غير التفسير! وهو قول مبالغ فيه، ولكنه يرسم حقيقة هذه الحشود المكتظة والنصوص المتراصة، والجدل المتدافع، يزحم بعضه بعضاً دون ضرورة داعية، بل لأدنى مناسبة تساق الاعتراضات، وتعقب بالإجابات، وكأننا في معارك، وكنت أظن أن هذه التخمة العلمية في كتب التفسير قد نشأت في القرن الرابع حين تلاطمت الثقافات المختلفة ولكني رأيت ابن قتيبة يعيبها، وينعى عليها إذ نشأت مبكرة في عهده، فقد قال في مقدمة (غريب القرآن): وغرضنا الذي امتثلناه في كتابنا هذا أن نختصر ونكمل، وأن نوضح ونجمل، وأَلاَّ نستشهدَ على اللفظ المبتذلِ، ولا نكثرَ الدلالةَ على الحرف المستعملِ، وأَلاَّ نحشوَ كتابَنا بالنحو وبالأحاديث والأسانيد).
وهذا نظر صحيح من ابن قتيبة، لأن للنقاش الجدلي موضعاً آخر، وكأنه ألف كتابه عن تأويل مشكل القرآن الكريم ثم أتبعه بكتاب خاص ليفسح المجال فيما تحاشاه في كتاب الغريب، لأن المشكل في صميمه كتاب نقد وتمحيص.
وقد كثرت التفاسير بعد الرازى ما بين موجزة و مسهبةٍ,، حتى جاء مطلع هذا القرن حافلاً بما نشر من كتب التراث في التفسير كبيرها وصغيرها، وقد عكفت الدوائر العلمية في الأزهر على مثل الكشاف وحواشي البيضاوي، وتطلع المثقفون إلى تفسير موجز مبسط، فكان تفسير الجلالين، جلال الدين المحلى، وجلال الدين السيوطي هو المختار من بين التفاسير الموجزة كالنسفي و البيضاوي، ولكن هل يقرأ أبناء الثقافة المدنية تفسير الجلالين دون عائق معترض؟
إن هذا التفسير كان صدى لثقافة جيله مهما أوجز، فهو يبدأ أحياناً بإعراب الكلمة دون معناها وكأن الإعراب يدل على المراد، ويحدد قراءات مختلفة دون أن يبين وجهتها العربية، ويعنى بتحديد الألفاظ الأعجمية التي تسربت إلى العربية ونزل بها القرآن الكريم، وأعظم نقد يقدم إليه أنه اشتمل على أشياء تاريخية لم يقم الدليل على صحتها، كحديثه عن كتب السحر التي تنسب إلى سليمان - عليه السلام -، ووصفه الألواح في سورة الأعراف بأنها من سدر الجنة، وتفسير ما ورد في قول الله - عز وجل -: {ولقد همت به وهم بها} على نحو مستبعد وهذا وأمثاله يحتاج إلى تمحيص، وقد كان لتفسير الجلالين حينئذ شهرة خاصة إذ أذيع عن الأستاذ الإمام محمد عبده أنه لا يحمل في يده حين إلقاء درسه التفسيري بالرواق العباسي غير ملزمة من تفسير الجلالين، وما حمل الإمام الملزمة إلا ليتأكد من المعنى اللغوي فحسب، ثم يفيض بما فتح الله عليه في تفسيره الحكيم، وقد نُشر تباعاً بمجلة المنار، فكان من أعظم الأسباب في رواجها!
لقد احتاج الشاب المثقف المدافع عن الإسلام محمد فريد وجدى إلى أن يقرأ كتب التفسير، فرآها بعيدة المنال لما تزدحم به من الآراء، ولا أجد أولى منه بالتعبير عن مشكلته إزاء هذه الكتب، فقد أبان في مقدمة تفسيره ما ارتطم فيه من عثرات دفعته إلى تأليف تفسير يسهل إدراك معانيه، فذكر في صدق وما نأخذ منه مجال العبرة حيث يقول: ((إنني حوالي سنة 1323هـ حاولت أن أقرأ القرآن قراءة تدبر وفهم كما أمر به موحيه - سبحانه وتعالى -، فأعوزني أن أجد من التفاسير ما يبلغني أمنيتي من أقرب الطرق وأسهلها، فإن المطولات لا يتسع لتلاوتها وقت أمثالي من المشتغلين بفروع كثيرة من العلم، والمختصرات قُصدَ بها حلول المسائل الفنية من التفسير وكان مرادى تفسيراً يعطى الألفاظ العربية حقها من البيان، ويعرض للمعنى بعبارة خالية من المسائل الفنية - يريد الاصطلاحات العلمية، مع بيان أسباب نزول الآيات ليتجلى للقارئ المعنى بكل جلاله - فأخذت أضع تفسيراً لنفسي، وشرعت أكتبه على هامش مصحف لأتخذه عمدة في تلاوتي للقرآن الكريم، وقبل أن أتمه أدركت أن هذا العمل طلبةُ كل تالٍ, للقرآن العظيم، فرأيت أن أتم ذلك التفسير وأطبعه ليعم انتشاره ففعلت، وهو هذا الكتاب الذي أقدمه للقراء راجياً أن أكون بهذا العمل سبباً في نشر معاني كتاب الله بين ناس لم يكونوا ليبلغوها في حياتهم، إما لأن أعمالهم لا تمكنهم من الإطلاع على التفاسير، وإما لأن مادتهم العلمية لا تسمح لهم بإدراك أغراض المؤلفين السابقين.
ثم رأيت متمماً للفائدة أن أجعله على شكل المصاحف العادية، فاستكتبته باليد، وطبعته بالحجر على ورق نباتي (وكانت كتب العلم حينئذ تطبع على هذا الورق) وجعلتُ تفسير كل صحيفة في ذيلها ليسهل الرجوع إلى معنى أي لفظ أو أية آية في حالة التلاوة والحمد لله أولاً وأخراً.
غير أن الاستقبال الحسن الذي استقبلت به الأمة هذا التفسير، حملنا على أن نزيده إتقاناً، فرأينا أن نكلف أحد الحفارين المشهورين بأخذ صورة من أجمل المصاحف العثمانية خطا بالزنكوغراف، على ما في ذلك من بذل نفقات طائلة، وأن يحيط كل صحيفة بتفسيرها من جهاتها الثلاث بحيث لا يخرج تفسير كل صفحة عنها بقدر الإمكان (وهذا الذي ابتكره الأستاذ وجدي صار مصطلحاً عاماً لكتب التفسير التي طبعت من بعد كالجلالين و البيضاوى وما ألفه المحدثون من بعده ومن سن سنة حسنة فله أجرها), وقصدنا من ذلك أن يكون خط هذا التفسير بالغاً الغاية من الجودة، وأن يجئ طبعه نظيفاً إلى أقصى حد تبلغه صناعة الطبع، ولم نجد في كل ما بذلناه من النفقات، وما تكبدناه من المتاعب في إبراز هذا العمل على هذه الصورة ما يحملنا على الزهو بجهدنا، لأن كل جهد يبذل في خدمة الذكر الحكيم، وينفق لمصلحة الأمة يجب أن يعتبر قليلاً في جنب الواجبات الكثيرة التي تتحتم على كل فرد حيال هذا الدين).
وبعد حديث يدور هذا المدار، اتجه الأستاذ إلى إيضاح خطته في التفسير فقال:
(وهنا يجب علي أن أذكر أنى استخلصت هذا التفسير من الآراء المجمع عليها لدى أئمة التفسير، وأقطاب أهل السنة، فلم أخرج به عن سننهم قيد شعرة ليوافق مذهباً من المذاهب، أو يؤيد رأياً من الآراء الفردية ولو اضطرني الكلام على أن أبين رأياً من لي، أو لأحد من غير أهل السنة، نبهت إليه وعزوته إلى قائله حتى يكون القارئ على بينة.
وقد راعيت في تفسيري هذا أن أعني باللغة عناية لم يُعن بها مفسر من السابقين (يريد ممن قرأ تفاسيرهم) فإنهم فيما يظهر لغزارة مادتهم اللغوية، لم يلموا من لغة القرآن إلا بالغريب الذي يعلو عن تناول الخاصة ولكني رأيت أن الكتاب الكريم قد جمع أوجه كلمات في اللغة العربية، وعقائل من مفرداتها، ونحن أحوج ما نكون إلى التقوي فيها، لنحفظ وجودها من عبث العجمة، فشرحنا المفردات شرحاً وافياً، ودللنا على أصولها، وأتينا بمشتقاتها، والتزمنا أن نشرح اللفظ حيث وجدناه ولو صادفنا في صفحة من صفحات المصحف، وهذا أيضاً ما لم يعمله مفسر من السابقين، فإنه إذا أتى على شرح اللفظ في سورة من السور، ثم صادفه في سورة أخرى، أهمله في الشرح اعتماداً على سبق الكلام فيه).
وكل ما ذكره الأستاذ في هذه المقدمة قد جاء على وجهه الصحيح، فلم يكن مدعياً أدنى ادعاء، وإن كان الأستاذ الدكتور محمد طه الحاجري {2} يرى أنه لم يلتزم بما خطه التزاماً دقيقاً، فأفرط في جانب وقصر في جانب آخر، ولكنه في الغالب قد وقف عند حدود ما التزمه، فجاء مؤدياً للغرض الذي أراده أداء كافياً من ناحية العناية بتفسير المعاني تفسيراً يجمع إلى الدقة والقصد القُرب واليسر، دون أن يعرض لرأي خاص إلا أن يضطره الكلام إلى ذلك، وقد وقع منه في مواضع قليلة، نبه إليها الأستاذ الحاجري، وأختارُ منها {3} هذه النصوص:
1- من ذلك ما ذكره في تفسير قول الله - تعالى -: {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعلٌ في الأرض خليفة} فقد علق عليها بقوله: (ربما يكبر على التالي للقرآن، أن يعتقد أن الملائكة يجادلون الله، والحقيقة أن هذا تمثيل لحال الملائكة، عندما علموا في عالمهم الروحاني أن كائناً سيظهر على الأرض يكون من أمره ما يكون من الفساد، فجاشت في صدورهم هذه الاعتراضات، وألهمهم الله الرد عليها على نحو ما نراه، وهذا تأويل واجب، لأن الله لا يُرَى ولا للملأ الأعلى).
2- من ذلك ما علق به على تفسير آية النسخ، {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها}، إذ يقول: (إن النسخ ضروري في الأحكام بسبب تطور الأمم أو ترقيها أو تدليها، وبما أن الإسلام دين عملي فلا مناص له من مسايرة المجتمع الإنساني في تقلباته، حتى يبلغ به كماله، أليس هذا أولى من بقاء الأحكام على حالة واحدة، فيضطر الآخذون بالدين إلى تركها واللجوء إلى تشريع أجنبي!).
وكذلك ما علق في تفسير قوله - تعالى -: {وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً ثم ادعهن يأتينك سعياً وأعلم أن الله عزيزٌ حكيم}، فقد قال: إن إشارة الكتاب إلى معجزة إبراهيم هذه تشير إلى أن في الإنسان قوى إلهية في إمكانها بتوفيق الله، أن تبعث الحياة في الجمادات، وقد دلت الأبحاث في المغناطيس الحيواني في هذا العصر، على ما يجعل هذه المعجزة معقولة علمياً).
هذه نماذج ثلاثة اختارها الدكتور الحاجري ولها نظائر لم أشأ أن أتعقبها لأن المجال مجال استشهاد لا مجال استقصاء! وكان المنتظر من قارئي هذا التفسير أن يعرفوا رسالته وأن يقدروا وجهة كاتبه، ولكن بعض الأشياخ قد وصفوه بالقصور، ورأوا أن المؤلف أعجز من أن يستوعب ما في بطون الأمهات، ولعمري هذا هو اللغو بعينه، لأن معنى ذلك أن مثل هذا الذي كتب في الإسلام والمدنية وفي المرأة المسلمة وفي حقائق الإسلام وشبهات خصومه مما يعجزون أن يكتبوا مثله لا يستطيع أن يقرأ كلاماً عربياً ويلخصه كما يفعل طلاب المدارس!! وغفر الله لشيخنا التقى الورع محمد الجنبيهي - رحمه الله - حين شن على الأستاذ وجدي حملة في كتابه (العمل المبرور في ردع أهل الغرور) لا لشيء إلا لأنه يشرح قضايا العلم الحديث ويحاول تفسيرها في ضوء ما يعرف من حقائق الإسلام! و الجنبيهي مخلص غيور، ولكن أفقه العلمي لا يتسع لقراءة ما يسطره الكاتب الكبير، فمضى يرميه بما لم يكن منه، ولعل الذين يصفون تفسيره بالقصور، يعرفون أن الرجل قد فسر بعض الآيات بإسهاب حين اقتضى الحال تفسيرها في (دائرة المعارف) فأتى بما يشرح الصدور تعمقاً واستقصاء.
ومعي الجزء الأول من الدائرة الآن أطالع صفحاته وقد بلغت ثماني مائة من الصفحات، فأجد قبسات من نور الذكر الحكيم تشع بنور في سطوره ومن ذلك ما جاء عن بني إسرائيل تفسيراً لقول الله - عز وجل -: {وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فأقتلوا أنفسكم، ذلكم خير لكم عند بارئكم، فتاب عليكم إنه التواب الرحيم} إذ ذكر قول المفسرين إن معنى قوله - تعالى -{4} {اقتلوا أنفسكم} أن موسى أمرهم أن يقتلوا أنفسهم فشهروا سيوفهم وخناجرهم، ونزلت عليهم ظلمة من السماء، فأخذ بعضهم بعضاً، فأحصوا القتلى فبلغوا سبعين ألفاً ثم تاب الله عليهم.
يذكر ذلك: ثم يقول تعقيباً عليه (إذا كانت رقة الشعور والندم على الذنب قد بلغت بهم أن يقبلوا اقتراح موسى في قتل بعضهم بعضاً، ألا يكفي هذا في توبتهم، والتوبة ندم.
ولنا في هذه الآية رأي نبديه، وهو أنه لا يعقل أن يكون جميع بني إسرائيل قد عبدوا العجل، فلابد أن يكون منهم من بقي على إيمانه، فلما جاء موسى ووجد قومه شطرين، أمر مؤمنيهم أن يقاتلوا كافريهم حين أبوا الرجوع إلى الإيمان، فحدثت بينهم موقعة مات بها خلق كثير، فذلك معنى قوله {فاقتلوا أنفسكم} أي فليقاتل بعضكم بعضاً حتى تجتث جرثومة الكفر، ذلك خير لكم، ويصح أن يكون معنى قوله - سبحانه -: فاقتلوا أنفسكم..أي اقتلوها قتلاً معنوياً بإماتة رعونتها، وكسر شرتها، فإن النفس أمارة بالسوء، وخير الناس من قتلها رياضة، وأماتها ورعاً ونزاهة.
والرأي الأول مما ارتاح إليه وليس معنى ذلك أني لا أخالف الأستاذ في بعض آرائه، ففي موقف آخر تعرض إلى (ذي القرنين) فكتب بحثاً مركزاً يجمع ما قاله الغربيون وأبرز المفسرين من العلماء، ونقل أقوالاً عن علي بن أبي طالب, ووهب بن منبه, والبيضاوى, والرازي, والنيسابوري مما يدل على أنه غير الاسكندر المقدوني، ثم رأى أن يخالفهم فقال {5} ما ملخصه:
(أما نحن فنقول إن ذا القرنين المذكور في القرآن هو الأسكندر، ولكن كيف يتفق ذلك مع ما نعلمه من أن الأسكندر في آخر أيامه قد دعا إلى عبادته والسجود أمامه بل مع ما ثبت من أنه كان يعبد كل إله يصادفه، ويقرب له القرابين، والضحايا، وليس في وسع أحد أن يفتات على التاريخ فيزعم أن الأسكندر كان منزهاً عما يلومه به من الصفات، أو أنه ليس الأسكندر المذكور في التاريخ، والقرآن لم يذكر أنه كان نبياً أرسل لهداية الناس وغاية ما ذكره أن الله مكن له في الأرض!.
ثم أسهب في موضع آخر غير هذا الموضع مادة (قرن) في تفسير الآيات الكريمة على نحو يقضي بأنه الاسكندر وهو رجل ذو حسنات وسيئات ولا يمنع أن يكون هو المقصود! ذكرت ذلك لأبين أن قراءة النصوص التي جاء بها المفسرون لم تكن لتعجز الرجل كما توهم من يرجمون بالباطل دون تحقيق، فها هو ذا في مادة (قرن) يستوعب ويدحض ويؤيد! وإن كنت مع هذا كله لا أميل إلى أن ذا القرنين المذكور في سورة الكهف هو الاسكندر، كما يتجه الأستاذ، لأمور قوية ذكرتها في كتابي (قضايا إسلامية جـ1){6}، وأهمها أن تاريخ الاسكندر الدامي لم يكن معروفاً بفظائعه المنكرة لدى من قالوا إنه ذو القرنين من المفسرين، وقد ظهرت الكتب المترجمة الآن تنقل عن معاصريه ما دونوه عنه من فظائع القتل والتدمير والتخريب وإحراق المدن والبلاد، وتنكره لأخلص أصدقائه الذين شادوا ملكه فيأمر بقتلهم في ساعة سكره! ومثل هذا لن يكون الملك الذي قال الله على لسانه: {أما من ظلم فسوق نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذاباً نكرا، وأما من آمن وعمل صالحاً فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا} هذا رأيي المخالف.
وفي تحقيق كلمة (التأويل) بالجزء الأول نفسه أفاض الأستاذ وجدي في المقصود من اللفظ، واستشهد بنصوص الطبري والنيسابوري، ليسرد ما وضحاه من الأمور المتقابلة، ودائرة المعارف ليست كتاب تفسير، ولكن ما جاء فيه من شرح آيات الكتاب لمناسبات كثيرة، يدل على تعمق الأستاذ في فهمه الدقيق من كتب العلماء، ولو جمعنا ما كتبه في الدائرة بأجزائها العشرة خاصاً بالتفسير لكان لنا جزء كبير يدل على أن ناقديه في هذا المجال لا يعرفون من هو على وجهه الصحيح.
ونحن نرى اليوم الكبار من أعيان التفسير المعاصر يقدمون بين يدي مؤلفهم الكبير، كتاباً مستقلاً يتحدث عن القرآن جمعاً وترتيباً وقراءة ونسخاً وكل ما يتعلق بعلوم القرآن الكريم نجد ذلك في تفسير جمال الدين القاسمي والطاهر بن عاشور، وأحمد مصطفى المراغى وغيرهم ممن أجادوا فيما فتح الله عليهم به من التأويل، وقد كان فريد وجدي سابقاً لهؤلاء جميعاً ومن حذا حذوهم، حين كتب مؤلفه (صفوة العرفان) ليكون مقدمة شافية لشرح الكتاب المبين، وقد استشعر ضرورة هذه المقدمة الوافية حين تحدث عنها في خاتمة المصحف المفسر، فقال:
((وإذا أدرك القارئ (قارئ المصحف المفسر) هذا الغرض (فهم كتاب الله) بقيت في نفسه حاجة ملحة إلى تفهم مرامى القرآن البعيدة، وحكمته البالغة، وأصوله القويمة، ومبادئه الحقة في تقويم الإنسانية، وكبح جماح الحيوانية.. فرأيت أن من تمام هذا العمل الذي انتدبنا إليه أن نضع كتاباً خاصاً في هذا الموضوع نعنى به عناية خاصة، فنذكر الأصول الجليلة التي غيرت مجرى العلوم والأفكار وبدلت الأرض غير الأرض، والأمم غير الأمم، وجعلت من تلك الشرذمة في سنين قليلة أمة أقامت أمر الله في الأرض، وأرغمت معاطس الجبابرة من القياصرة والأكاسرة، وخلصت الشعوب من آصار كانت عليها كالجبال حملاً، نعنى بذلك أن ندرس تلك الأصول على الطريقة العلمية وأسلوبها الطبيعي).
هذا ما وعد به الكاتب في خاتمة التفسير، وحين نشر هذا الكتاب بعد ثلاثة أعوام، نجده ذا بحثين مفترقين، أما البحث الأول فيدور حول ما أشار إليه في خاتمة التفسير إذ تحدث عن أثر القرآن في ارتقاء النفس البشرية بما ظل يتحدث عنه طول حياته، ولا أعني أنه يكرر ما يقول، بل أعني أن رسالة الإسلام تغلغلت في أعماقه، وملكت أجواز تفكيره فهو دائم البحث في أهدافها ونتائجها، وكل بحث تال يصل به إلى جديد يضطر إلى الحديث عنه متصلاً بما كتب من قبل.
وأما البحث الثاني فخاص بتاريخ القرآن جمعاً وقراءة وتدويناً ونزولاً، ويقول{7}الدكتور الحاجري بصدده إنه لم يأت بجديد في مقال، ولم يكد يزيد عما في كتاب الإتقان للسيوطي! وهذا حق، ولكنه لا ينقص من مزية الكتاب إذ ما عسى أن يقول المتحدث عن تاريخ القرآن نزولاً وجمعاً وقراءة وتدويناً غير الواقع المشهود الذي سجله الأقدمون! والسيوطي الذي أشار إليه الدكتور الحاجري قد نقل جل ما جاء في الإتقان عن كتاب (البرهان) لبدر الدين الزركشي، عرفنا ذلك حين طبع البرهان وقرأناه فوجدنا لدى السيوطي تلك الشنشنة التي نعرفها عند أخزم، شنشنة النقل مرة والتلخيص مرة! أما الابتكار فقليل.
هذا بعض ما أقوله عن المصحف المفسر، وعن مقدمة المصحف المفسر التي سماها الأستاذ (صفوة العرفان)، ولا أترك القلم حتى أقرر أن العناية قد أسعدت هذا التفسير فطبع عشرات الطبعات، وقامت (دار الشعب) في الستينيات بطبعه في أجزاء متوالية عدة مرات حتى بلغ المطبوع منه ما يقرب من مائة ألف نسخة! وقد حاكاه فضلاء من العلماء فكتبوا التفسير الموجز مثل الشيخ حسنين محمد مخلوف والشيخ عبد الجليل عيسى، وابن الخطيب، وغيرهم ولكل جزاؤه وفضله، وإن كان الأستاذ بالنسبة إليهم متبوعاً غير تابع، وسابقاً غير لا حق.
-------------------------------------------
(1) مقدمة الغريب ط. الشروق. ص8.
(2، 3) محمد فريد وجدي للدكتور الحاجري ص92
(4) دائرة المعارف جـ (1) ص291
(5) دائرة المعارف جـ (1) ص324
(6) قضايا إسلامية جزء أول للدكتور محمد رجب البيومي ص190 وما بعدها
(7) محمد فريد وجدي للحاجري ص90
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد