الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد، فقد أحببت أن أُشرِكَ إخواني في الملتقى معي في موضوع حيوي يحرص عليه كثير ممن يقرأ في كتب التفسير، وهي ما يسمى بلطائف التفسير، أو ملحه، أو نكته، وقد يتوسَّع بعضهم فيسمِّيها فوائد، مع أن الفوائد أوسع مدلولاً من المصطلحات السابقة.
وما سأكتبه لكم إنما هو مفتاح لهذا الموضوع، ولا يبعد أن لو أخذه باحث وفتَّق أكمامه لخرج بزهر كثير، وثمر وفير، فكم من موضوع ينظر إليه ناظر مبدعٌ فيزيد وفيه، ثم يبدئ ويعيد، فإذا هو أمام موضوع مبتكر جديدº ينافس بجدَّتِه، ويعجبُ ناظره بجودته.
وسأجعل الموضوع على مسائل:
المسألة الأولى: تحليل المصطلحات السابقة:
أولاً: اللطائف:
ترجع مادة (لطف) إلى معنيين:
الأول: الدقة أو الخفاء، وهذا باب (لَطُفَ) بضم الطاء.
والثاني: الرفق، وهذا باب (لَطَفَ) بفتح الطاء.
ويجوز أن يكون المعنيان مرادين في اللطائف، وتكون تسميتها باللطائف لما فيها من الخفاء الذي لا يُدرك إلا بإمعان نظر، أو للترفٌّقٍ, في الوصول إلى اللطيفة، أو لاجتماعهما معًا فيها.
ثانيًا: المُلحُ:
سمِّيت مُلَحًا لما فيها من الغرابة التي يستعذبها القارئ ويستلذٌّها حتى تستولي على لُبِّهِ. قال الراغب في المفردات: ((ثمَّ استُعير من لفظ المِلح الملاحةُ، فقيل: رجل مليحٌ، وذلك يرجع إلى حسنٍ, يغمض إدراكه)).
وكذا مُلَحُ الكلام وطرائفُه استعيرت من هذا الباب، ويظهر أنها أشبهت بحسنها الملح الذي يُحسِّنُ طعم الطعام ويزيِّنه.
ثالثًا: النٌّكت:
سُمِّيتَ نُكتًا، لأنها تؤثِّر على لُبِّ قارئها، فأصل النَّكت يرجع إلى معنى التأثير اليسير على الشيء، كما قال ابن فارس في مقاييس اللغة، ومن نكت الأرض: إذا ضربها بقضيب، فضربها بالقضيب يُحدِث أثرًا فيها، ومن قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((نُكِتَ في قلبه نُكتةٌ سوداء))º لأنَّ الذنب يؤثر في القلب، فيكون من أثره نقطة سوداء تصير على القلب، والله أعلم.
وبعد هذا، فإن في التحليل اللغوي ما يحتاج إلى زيادة إفصاح وبحث، لكني جعلته مدخلاً لهذا الموضوع الذي يرغب فيه كثيرٌ من قارئ التفسير، وتراه يأخذُ بمجامع لُبِّهم، والله الموفق.
المسألة الثانية: مقام المُلح من العلم:
ذكرها الشاطبي في الموافقات (تحقيق: مشهور سلمان: 1: 107) المقدمة التاسعة من مقدمات كتابه، فقال: ((من العلم ما هو صُلبٌ، ومنه ما هو مُلَحُ العلم لا من صُلبِه، ومنه ما ليس من صلب العلم ولا مُلَحه)). وقد فصَّل هذه الثلاثة، فارجع إليها تكرٌّمًا.
المسألة الثالثة: قواعد في اللطائف والمُلَح والنكت:
أولاً: النكت لا تتزاحم.
المراد بذلك أنَّ اللفظة الواحد أو الجملة الواحدة يمكن أن تحتوي على أكثر من نكته، وهذه النكت لا تتعارض فيما بينها، وهي صحيحة كلُها، فيجوز أن تكون كلٌّ هذه النٌّكت مرادةً بهذا اللفظ أو هذه الجملة، ومن أمثلة ذلك:
قال الآلوسي: ((… ((فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا)) إخبار عن عاجل أمرهم وآجله من الضحك القليل في الدنيا والبكاء الكثير في الأخرى.
وإخراجه في صورة الأمر للدلالة على تحتم وقوع المخبر به، وذلك لأن صيغة الأمر للوجوب في الأصل والأكثر، فاستعمل في لازم معناه.
أو لأنه لا يحتمل الصدق والكذب بخلاف الخبرº كذا قرره الشهاب، ثم قال: فإن قلت: الوجوب لا يقتضي الوجود، وقد قالوا: إنه يعبر عن الأمر بالخبر للمبالغة لاقتضائه تحقق المأمور به، فالخبر آكد، وقد مرَّ مثله، فما باله عكس؟
قلت: لا منافاة بينهما كما قيل ºلأن لكل مقام مقالا، والنكت لا تتزاحم، فإذا عبر عن الأمر بالخبر لإفادة أن المأمور لشدة امتثاله كأنه وقع منه ذلك، وتحقق قبل الأمر كان أبلغ.
وإذا عبر عن الخبر بالأمر لإفادة لزومه ووجوبه كأنه مأمور به أفاد ذلك مبالغة من جهة أخرى)) (روح المعاني 10: 152)
وقال الطاهر ابن عاشور: ((والواو في قوله: (وَلَم يَكُن لَهُ كُفؤاً أَحَدٌ) (الإخلاص: 4) اعتراضية، وهي واو الحال، كالواو في قوله - تعالى -: (وَهَل يُجَازَى إِلاَّ الكَفُورُ)(سـبأ: من الآية17) فإنها تذييل لجملة: (ذَلِكَ جَزَينَاهُم بِمَا كَفَرُوا)(سـبأ: من الآية17).
ويجوز كون الواو عاطفة إن جعلت الواو الأولى عاطفة، ويكون المقصود من الجملة إثبات وصف مخالفته - تعالى -للحوادث، وتكون استفادة معنى التذييل تبعًا للمعنى، والنكت لا تتزاحم)) (التحرير والتنوير 30: 620). (1)
وانظر أمثلة لمصطلح: النكت لا تتزاحم: روح المعاني (5: 122 / 10: 83 / 15: 341) التحرير والتنوير (28: 346).
ثانيًا: النكت لا يلزم منها الاطراد
المراد أن النكتة أو اللطيفة التي تستنبطها في سياق لا يلزم تُعارض بسبب ساق آخر خالف السياق الأول في النظم، لأن الاطراد ليس من شروط اللطائف والنكت، وقد نصَّ الآلوسي على ذلك، فقال: ((وإذا شئنا بدلنا أمثالهم)) أي: أهلكناهم وبدلنا أمثالهم في شدة الخلق.
((تبديلا)) بديعا لا ريب فيهº يعني: البعث والنشأة الأخرى، فالتبديل في الصفاتº لأن المعاد هو المبتدأ.
ولكون الأمر محققًا كائنا جيء بـ(إذا).
وذكر المشيئة لإبهام وقته، ومثله شائع، كما يقول العظيم لمن يسأله الأنعام: إذا شئتُ أحسِن إليك.
ويجوز أن يكون المعنى: وإذا شئنا أهلكناهم وبدلنا غيرهم ممن يطيع.
فالتبديل في الذوات، و(إذا) لتحقق قدرته - تعالى - عليه، وتحقق ما يقتضيه من كفرهم المقتضي لاستئصالهم، فجعل ذلك المقدور المهدد به كالمحقق، وعبر عنه بما يعبر به عنه.
ولعله الذي أراده الزمخشري بما نقل عنه من قوله: إنما جاز ذلك لأنه وعيد جيء به على سبيل المبالغة، كأن له وقتًا معينًا.
ولا يعترض عليه بقوله - تعالى -: ((وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم))º لأن النكات لا يلزم إطرادها فافهم والوجه الأول أوفق بسياق النظم الجليل)) (روح المعاني 29: 167).
ثالثًا: ما يكون نكتة في علم قد يكون متنا وصلبا في علم آخر.
وهذا يكثر في علم التفسير، من جهة اعتبار علم البلاغة ليس من علم التفسير، إذ المراد بالتفسير بيان المعنى، وما وراء ذلك من علوم الآية فإنه يخرج عن صلب التفسير ومتنه، ومنه علم البلاغة.
والملاحظ أن كثيرًا مما يطلق عليه المفسرون نكتًا ولطائف فإنه من علم البلاغة، وقد تتبعت هذين اللفظين عند الزمخشري والآلوسي وغيرهما، فظهر لي كثرة التعبير عن دقائق بلاغية باللطائف.
والمقصود أن النكات البلاغية واللطائف الأسلوبية تكون في علم التفسير من باب اللطائف والنكت، وتكون في علم البلاغة من المتن والصلب، والله أعلم.
رابعًا: النكات واللطائف ليس لها ضابط في ذاتها، ولا في قبولها فقد يكون ما تعده لطيفة يعده غيرك غير ذلك.
وقد أشار إلى ذلك الطاهر ابن عاشور في تفسيره لقوله - تعالى -: ((وثامنهم كلبهم)) من سورة الكهف، وتعليقه على من يرى أن هذه الواو هي (واو الثمانية)، فقال في نهاية حديثه في تفسير هذه الجملة: ((ومن غريب الاتفاق أن كان لحقيقة الثمانية اعتلاق بالمواضع الخمسة المذكورة من القرآن إما بلفظه، كما هنا وآية الحاقة، وإما بالانتهاء إليه كما في آية براءة وآية التحريم، وإما بكون مسماه معدودًا بعدد الثمانية، كما في آية الزمر.
ولقد يُعَدٌّ الانتباه إلى ذلك من اللطائف، ولا يبلغ أن يكون من المعارف، وإذا كانت كذلك ولم يكن لها ضابط مضبوط فليس من البعيد عدٌّ القاضي الفاضل منها آية سورة التحريمº لآتها صادفت الثامنة في الذكر، وإن لم تكن ثامنة في صفات الموصوفين، وكذلك لعَدِّ الثعلبي آية سورة الحاقة.
ومثل هذه اللطائف كالزهرة تُشَمٌّ، ولا تُحَكٌّ)) (التحرير والتنوير 15: 293).
ـــــــــــــــــــ
(1) ملاحظة: الآيات عند الطاهر على رواية قالون عن نافع. وفي المطبوع واو قبل ((لا تتزاحم)) والصواب حذفها.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد