سورة المدثر


 بسم الله الرحمن الرحيم 

الحلقة الثانية

قال - تعالى -: {ذرني ومن خلقت وحيدا (11) وجعلت له مالا ممدودا (12) وبنين شهودا (13) ومهدت له تمهيدا (14) ثم يطمع أن أزيد (15) كلا إنه كان لآياتنا عنيدا (16) سأرهقه صعودا (17) إنه فكر وقدر (18) فقتل كيف قدر (19) ثم قتل كيف قدر (20) ثم نظر (21) ثم عبس وبسر (22) ثم أدبر واستكبر (23) فقال إن هذا إلا سحر يؤثر (24) إن هذا إلا قول البشر (25) سأصليه سقر (26) وما أدراك ما سقر (27) لا تبقي ولا تذر (28) لواحة للبشر (29) عليها تسعة عشر (30) وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر} [المدثر: 11- 30]

جاء في سبب نزول هذه الآيات: عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه القرآن، فكأنه رقّ له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه فقال: يا عمّ، إن قومك يرون أن يجمعوا لك مالاً، قال: لِمَ؟ قال: ليعطوكه، فإنك أتيت محمدًا لتعرض لما قِبَلَه. قال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالاً، قال: فقل فيه قولاً يبلغُ قومك أنك منكرٌ له، أو أنك كارهٌ له. قال: وماذا أقول، فوالله ما فيكم رجل أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجزٍ, ولا بقصيدة مني، ولا بأشعار الجنّ، والله ما يشبهُ الذي يقول شيئًا من هذا، والله إن لقوله الذي يقولُ حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمرٌ أعلاه، مُغدِقٌ أسفله، وإنه ليعلو وما يُعلى، وإنه يحطم ما تحته. قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه. قال: فَدَعني حتى أفكر، فلما فكر قال: هذا سحرٌ يؤثر، يأثرُه عن غيره، فنزلت: ذرني ومن خلقت وحيدا. [صحيح: رواه الحاكم 2/507، والبيهقي 1/556]

أي: خلَ بيني يا محمد وبين هذا المخلوق الضعيف، الذي أخرجته من بطن أمه وحيدًا، ليس معه شيءٌ مما يعتز به الآن، وجعلت له مالا ممدودا أي: واسعًا كثيرًا، وبنين شهودا قال المفسرون: أعطاه عشرة من الذكور، ولم يكن بحاجة إلى عملهم لكثرة ماله، فأقعدهم عنده يستأنس بهم، وضارب العمال بماله، فكان العمال يعملون له، ويأتون بكسبه، وأولاده عند رأسه لا يفارقونه، وهذه نعمٌ عظيمة، إلا أنه كفرها.

وقوله - تعالى -: ومهدت له تمهيدا أي يسرت له الحياة، ومكنته من صنوف المال والأثاث وغير ذلك، ثم يطمع أن أزيد وهو لَم يعمل بموجب الزيادة، إن اللَّه - تعالى - أنعم على عباده نعمًا لا تعدّ ولا تُحصى، وأرشدهم إلى سبيل الزيادة من هذه النعم، فقال - سبحانه -: {وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم} [إبراهيم: 7].

وهذا الملعون كفر بأنعم اللَّه، ثم يطمع أن يزيده اللَّه، قال - تعالى -: «كلاّ» وهي كلمةُ زجرٍ, وردعٍ,، «كلاّ» لن أزيده، وكيف أزيده مع إنه كان لآياتنا عنيدا، فقد كفر بآيات اللَّه بعد إذ جاءته، وكذب بما علم أنه الحق فعاند دلائل الحقّ وموجبات الإيمان، ووقف في وجه الدعوة وحارب رسولها، وصدّ عنها نفسه وغيره، وأطلق حواليها الأضاليل.

وهكذا الكفار دائمًا، لا يحملهم على الكفر إلا البغي والحسد والعناد، كما قال - تعالى -عن فرعون وملئه فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين (13) وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا [النمل: 13، 14].

ولذا قال موسى - عليه السلام - لفرعون: لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر وإني لأظنك يا فرعون مثبورا [الإسراء: 102].

وقال - تعالى - لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون [الأنعام: 33].

وبعد هذا الردع يأتي الوعيد الشديد، الذي يبدل اليسر عسرًا، والتمهيد مشقة: سأرهقه صعودا أي سأتعبه بما أكلفه به من صعود جبل في جهنم، والصعود في طرقات الدنيا شاقّ، فكيف بصعود جبلٍ, في جهنم، لا خبرة للإنسان في صعوده، وإنما يُدفع إليه دفعًا؟

ولم هذا الوعيد؟ إنه فكر وقدر أي: إنما أرهقناه صعودًا لأنه حين طُلب منه أن يقول في القرآن «فكّر» ماذا يقول، «وقدّر» أي تروى في التفكير، ومِن ثمّ دعا اللهُ عليه بالهلاك، ودعاءُ اللَّه قضاءٌ محكمٌ: فقتل كيف قدر (19) ثم قتل كيف قدر، ثم نظر أي أعاد النظرة والتروي، ثم عبس وبسر أي قبض بين عينيه وقطب جبينه كالمفكر في أمر يهمه، ثم أدبر واستكبر أي صُرِفَ عن الحق، ورجع القهقري مستكبرًا عن الانقياد للقرآن، «فقال» بعد هذا التفكير الطويل: إن هذا إلا سحر يؤثر أي: إن هذا إلا سحرٌ ينقله محمدٌ عن غيره ممن قبله ويحكيه عنهم: إن هذا إلا قول البشر وما هو من عند اللَّه، قال - تعالى -: سأصليه سقر أي سأغمره فيها من جميع جهاته، كما قال - تعالى -عن أهل النار: لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غوا [الزمر: 16].

وقال - تعالى -: لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل، وقال - تعالى -: إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها [الكهف: 29]، وما أدراك ما سقر؟ هذا سؤالٌ لتهويل أمرها وتفخيم شأنها: لا تبقي ولا وتذر أي لا تُبقي ممن يدخلها لحمًا ولا عظمًا، ولا تذر منهم شيئًا أبدًا، إنما تنسفهم نسفا، وتبلعهم بلعًا، ثم يعيدهم اللَّه كما كانوا، كما قال - تعالى -: كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب [النساء: 56]، لواحة للبشر أي تلفح وجوههم لفحًا فتتركها أسود من الليل البهيم، كما قال - تعالى -: تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون [المؤمنون: 104]، عليها تسعة عشر أي من الزبانية الموصوفين في آية أخرى بأنهم غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون [التحريم: 6].

قال ابن القيم - رحمه الله - في «إغاثة اللهفان» (14/1): «أخبر اللَّه - سبحانه - عن الحكمة التي جعل لأجلها عدّة الملائكة الموكّلين بالنار تسعة عشر، فذكر - سبحانه - خمس حكم: فتنة الكافرين، فيكون ذلك زيادة في كفرهم وضلالهم، وقوة يقين أهل الكتاب، فيقوى يقينهم بموافقة الخبر بذلك لما عندهم عن أنبيائهم من غير تلقّ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنهم، فتقوم الحجةُ على معاندهم، وينقادُ للإيمان من يرد اللَّه أن يهديه، وزيادة إيمان الذين آمنوا بكمال تصديقهم بذلك والإقرار به، وانتفاء الريب عن أهل الكتاب لجزمهم بذلك، وعن المؤمنين لكمال تصديقهم به».

فهذه أربع حكم: فتنةُ الكفار، ويقين أهل الكتاب، وزيادةُ إيمان المؤمنين، وانتفاء الريب عن المؤمنين وأهل الكتاب.

والخامسة: حيرةُ الكافرين ومَن في قلبه مرضٌ، وعَمى قلبه عن المراد بذلك، فيقول: ماذا أراد الله بهذا مثلا.

وهذا حالُ القلوب عند ورود الحق المنزّل عليها: قلبٌ يفتتن به كفرًا وجحودًا، وقلبٌ يزداد به إيمانًا وتصديقًا، وقلبٌ يتيقنه، فتقوم عليه به الحجة، وقلبٌ يوجب له حيرةً وعمًى، فلا يدري ما يراد به. اهـ.

والمراد بمرض القلب هنا مرض الشبهات التي تجعل القلب مرتابًا شاكًا حائرًا، كما قال - تعالى -عن المنافقين: في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا [البقرة 10]، وقال - تعالى -: وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون (124) وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون [التوبة: 124، 125].

وهناك نوعُ ثانٍ, من أمراض القلوب وهو مرض الشهوات التي تجعل القلب يعشق الحرام ويرغب فيه ويحرص عليه ويبحث عن أسبابه، وهذا هو المذكور في قوله - تعالى -: يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا [الأحزاب: 32].

وقوله - تعالى -: كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء أي: كما أضلّ اللَّه من أنكر عدد الخزنة، وهدى من صدّق كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء، وما يضل به إلا الفاسقين (26) الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون [البقرة: 26، 27].

وقوله - تعالى -:وما هي إلا ذكرى للبشر يعني النار تذكرةٌ وعظةٌ للبشر.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply