الحمد لله والصلاة والسلام على من بعثه الله رحمة للأنام نبينا محمد - عليه الصلاة والسلام - وعلى آله وصحبه والتابعين له بإحسان أما بعد:
فإن سورة (طه) من السور المكية التي نزلت بمكة وخوطب بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والخطاب له ولأمته - عليه السلام -، واشتملت على بيان وظيفته ومهمته - عليه السلام - وضرب له فيها المثل بمن سبقه بالرسالة حيث تضمنت طرفاً من قصة موسى ثم آدم - عليهم السلام -. وبالنظر في بدء السورة وختامها كانت هذه الوقفات:
1) تبدأ هذه السورة بخطاب للرسول - صلى الله عليه وسلم - (طه*مَا أَنزَلنَا عَلَيكَ القُرآنَ لِتَشقَى) وبيان أن القرآن منزل من الله على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - وأنه لم ينزل على الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليشقى به أو بسببه.
2) بيان وظيفته وحدود تكاليفه وهي الدعوة إلى الله وتذكير عباد الله (إِلا تَذكِرَةً لِمَن يَخشَى)، ليتذكر به مَن يخاف عقاب الله، فيتقيه بأداء الفرائض واجتناب المحارم.
3) أن هذا القرآن منـزل من الله الذي خلق الأرض والسموات العلى (تَنزِيلاً مِّمَّن خَلَقَ الأَرضَ وَالسَّمَاوَاتِ العُلَى) (طه: 4).
4)التذكير باسم من أسماء الله وصفة من صفاته (الرَّحمَنُ عَلَى العَرشِ استَوَى) أي ارتفع وعلا استواء يليق بجلاله وعظمته.
5) بيان عظمة الله وسعة ملكه (لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ) أي له - سبحانه – ما حوت السماوات (وَمَا فِي الأَرضِ وَمَا بَينَهُمَا) وما اشتملت عليه الأرض ومايقع بين السماوات والأرض (وَمَا تَحتَ الثَّرَى)وما تحت الأرض لله خَلقًا ومُلكًا وتدبيرًا.
6)ويخبر- تبارك وتعالى -عن سعة علمه بقوله: (وَإِن تَجهَر بِالقَولِ فَإِنَّهُ يَعلَمُ السِّرَّ وَأَخفَى) وإن تجهر - أيها الرسول - بالقول، فتعلنه أو تخفيه، فإن الله لا يخفى عليه شيء، يعلم السر وما هو أخفى من السر مما تحدِّث به نفسك.
7) ثم بين - سبحانه - أنه (اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الأَسمَاءُ الحُسنَى) الله الذي لا معبود بحق إلا هو، له وحده الأسماء الكاملة في الحسن، ومن أحصاها ودعا بها وهو مؤمن دخل الجنة.
8) وأن أمر الخلق بعد ذلك إلى الله الواحد الذي لا إله غيره المهيمن على ظاهر الكون وباطنه الخبير بظواهر القلوب وخوافيها.
9) وبين المطلع والختام تعرض قصة موسى - عليه السلام - من حلقة الرسالة إلى حلقة اتخاذ بني إسرائيل للعجل بعد خروجهم من مصر مفصلة مطولة. بدأً من الآية (9) (وَهَل أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى) إلى الآية (98)
10) تعقبها الإشارة في آيتين (99/100) إلى ما تضمنته السورة من قصص (كَذَلِكَ نَقُصٌّ عَلَيكَ مِن أَنبَاءِ مَا قَد سَبَقَ) وما امتن به - تعالى -من إنزال القرآن (وَقَد آتَينَاكَ مِن لَدُنَّا ذِكراً) والوعيد لمن أعرض عنه بالشقاء (مَن أَعرَضَ عَنهُ فَإِنَّهُ يَحمِلُ يَومَ القِيَامَةِ وِزراً).
11) وتعرض السورة لجانب من قصة آدم - عليه السلام - (وَلَقَد عَهِدنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبلُ فَنَسِيَ وَلَم نَجِد لَهُ عَزماً) من الآية (115).
12) ثم يأتي التصريح بالوعيد بالشقاء الدنيوي لمن أعرض عن كتاب الله في قوله - تعالى -: (وَمَن أَعرَضَ عَن ذِكرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحشُرُهُ يَومَ القِيَامَةِ أَعمَى) (124).
13) ثم يمضي السياق حتى يأتي ختام السورة(130-135) بادئاً بالأمر للرسول - صلى الله عليه وسلم - بالصبر على ما يلقاه في هذه الحياة (فَاصبِر عَلَى مَا يَقُولُونَ) أي فاصبر - أيها الرسول - على ما يقوله المكذبون عنك من أباطيل كقولهم ساحر كاهن شاعر.
14) ويأتي الأمر بتنـزيه الله جل في علاه (وَسَبِّح بِحَمدِ رَبِّكَ قَبلَ طُلُوعِ الشَّمسِ وَقَبلَ غُرُوبِهَا وَمِن آنَاءِ اللَّيلِ فَسَبِّح وَأَطرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرضَى) (130) وفي هذا أمر للنبي - عليه السلام - بذكر الله وتنـزيهه، وفي هذه الآية إشارة إلى الصلوات الخمس وسبِّح بحمد ربك في صلاة الفجر قبل طلوع الشمس، وصلاة العصر قبل غروبها، وصلاة العشاء في ساعات الليل، وصلاة الظهر والمغرب أطراف النهار; كي تثاب على هذه الأعمال بما تَرضى به.
15) ويعقبه النهي له - عليه السلام - عن النظر فيما أنعم به على العباد (وَلا تَمُدَّنَ عَينَيكَ إِلَى مَا مَتَّعنَا بِهِ أَزوَاجاً مِنهُم زَهرَةَ الحَيَاةِ الدٌّنيَا لِنَفتِنَهُم فِيهِ) والمعنى: ولا تنظر إلى ما مَتَّعنا به هؤلاء المشركين وأمثالهم من أنواع المتع، فإنها زينة زائلة في هذه الحياة الدنيا، متعناهم بها; لنبتليهم بها، مع كونه أزهد الخلق صلوات الله وسلامه عليه. وما أشد حاجتنا إلى هذا التوجيه.
16) ويتبعه الوعد الكريم من الرب الرحيم (وَرِزقُ رَبِّكَ خَيرٌ وَأَبقَى) أي: ورزق ربك وثوابه خير لك مما متعناهم به وأدوم; حيث لا انقطاع له ولا نفاد.
17) ويأت الأمر بقول الله - تعالى -: (وَأمُر أَهلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصطَبِر عَلَيهَا) والمعنى: وَأمُر - أيها النبي - أهلك بالصلاة، واصطبر على أدائها، والأمر أبلغ وأعظم من مجرد الأمر بالصبر.
18) ولعلمه - سبحانه - بخفايا النفوس وما يشغل العبد عن طاعة الرب قال: (لا نَسأَلُكَ رِزقاً نَحنُ نَرزُقُكَ وَالعَاقِبَةُ لِلتَّقوَى) أي لا نسألك مالا، نحن نرزقك ونعطيك. والعاقبة الصالحة في الدنيا والآخرة لأهل التقوى.
19) ثم يأتي تبيين قول المكذبين (وَقَالُوا لَولا يَأتِينَا بِآيَةٍ, مِن رَبِّهِ أَوَلَم تَأتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصٌّحُفِ الأُولَى) أي وقال مكذبوك - أيها الرسول -: هلا تأتينا بعلامة من ربك تدلٌّ على صدقك، أولم يأتهم هذا القرآن المصدق لما في الكتب السابقة من الحق؟
20) ثم جاء التهديد والوعيد والتذكير في قوله - تعالى -: (وَلَو أَنَّا أَهلَكنَاهُم بِعَذَابٍ, مِن قَبلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَولا أَرسَلتَ إِلَينَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبلِ أَن نَذِلَّ وَنَخزَى) أي: ولو أنَّا أهلكنا هؤلاء المكذبين بعذاب من قبل أن نرسل إليهم رسولا وننزل عليهم كتابًا لقالوا: ربنا هلا أرسلت إلينا رسولا من عندك، فنصدقه، ونتبع آياتك وشرعك، مِن قبل أن نَذلَّ ونَخزى بعذابك.
21) وتختم السورة بقوله- تبارك وتعالى -: (قُل كُلُّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا) أي: قل - أيها الرسول - لهؤلاء المشركين بالله: كل منا ومنكم منتظر دوائر الزمان، ولمن يكون لنصر والفلاح، فانتظروا، (فَسَتَعلَمُونَ مَن أَصحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهتَدَى) مَن أهل الطريق المستقيم، ومَن المهتدي للحق منا ومنكم؟
22) ويلاحظ المتدبر لمطلع السورة وختامها أن جو السورة من مطلعها إلى ختامها خطاب رخي شجي ندي بذلك المد الذاهب مع الألف المقصورة في فواصل وتذييل الآيات كلها تقريبا.
23) يقول الطاهر بن عاشور في التحرير والتنوير: وقد جاءت خاتمة هذه السورة كأبلغ خواتم الكلام لإيذانها بانتهاء المحاجة وانطواء بساط المقارعة. ومن محاسنها: أن فيها شبيه رد العجز على الصدر لأنها تنظر إلى فاتحة السورة. وهي قوله (ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى) لأن الخاتمة تدل على أنه قد بلغ كل ما بعث به من الإرشاد والاستدلال، فإذا لم يهتدوا به فكفاه انثلاج صدر أنه أدى الرسالة والتذكرة فلم يكونوا من أهل الخشية فتركهم وضلالهم حتى يتبين لهم أنه الحق.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد