o سورة إبراهيم سورة مكية، موضوعها الأساسي هو العقيدة المتمثلة في الوحي والرسالة والتوحيد والبعث والجزاء.
o بدأت السورة ببيان وظيفة الرسل وهي إخراج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم وانتقلت إلى بيان حقيقة الرسل، وركزت على بشرية الرسل، وبينت أن الرسول مبلغ ومنذر ناصح أمين، ولكنه لا يملك أن يأتي بأمر خارق للعادة إلا بإذن الله، وحين يشاء الله - تعالى - لا حين يشاء الرسول أو قومه، ولا يملك أن يهدي قومه أو يضلهم لأن الهدى والضلال متعلقات بسنن الله التي اقتضتها مشيئته..، وقد كانت بشرية الرسل هي وضع الاعتراض من جميع الأقوام في جاهليتهم..، فجاءت هذه السورة لتحدد حقيقة الرسول ووظيفته وأنه لا تشتبه حقيقة الرسل البشرية وصفاتهم بشيء من حقيقة
الذات الإلهية وصفاتها..، فلا مماثلة ولا مشابهة بين الله ورسله.
o ثم عرضت السورة حقيقة وحدة الرسالة والرسل، ووحدة دعوتهم ووقفتهم أمة واحدة في مواجهة الجاهلية المكذبة..، ومن خلال آيات السورة نرى تجمع الأنبياء كلهم في صف، وتجمع الجاهليين كلهم في صف مقابل صف الأنبياء، وتدور المعركة بينهم في الأرض ثم لا تنتهي هنا، بل تتابع خطواتها كذلك في يوم الحساب..، ونبصر فنشهد أمة الرسل، وأمة الجاهلية في صعيد واحد على تباعد الزمان والمكان، فالزمان والمكان عرضان زائلان، أما الحقيقة الكبرى في هذا الكون ـ حقيقة الإيمان والصراع بينهما، فهي أضخم وأبرز من عرض الزمان والمكان...،.
o فها هنا تتجمع الأجيال من لدن نوح وتتجمع الرسل، ويتلاشى الزمان والمكان، وتبرز الحقيقة الكبرى حقيقة الرسالة وهي واحدة، واعتراضات الجاهليين عليها وهي واحدة، وحقيقة الخيبة والخذلان للمتجبرين وهي واحدة، وحقيقة العذاب الذي ينتظرهم وهي واحدة...، ولا تنتهي المعركة بين الكفر والإيمان هنا، بل تتابع خطواته إلى ساحة الآخرة، فتبرز معالمها من مشاهد القيامة المتنوعة التي تتضمنها السورة..، وهي كلها تشير إلى أنها معركة واحدة تبدأ في الدنيا وتنتهي في الآخرة، وتكمل إحداهما الأخرى بلا انقطاع ولا انفصال
o وتتابع السورة بيانها فتقول لنا إن الذين يوجهون قلوبهم للآخرة لا يخسرون متاع الحياة الدنيا، لأنه لا تعطيل للحياة في الإسلام انتظارا للآخرة، بل الإسلام تعمير للحياة بالحق والعدل والاستقامة والأمانة، ابتغاء رضوان الله وتمهيداً لنعيم الآخرة..، أما الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة فلا يملكون أن يصلوا إلى غاياتهم من الاستئثار بخيرات الأرض والكسب الحرام والمتاع المرذول، ومن استغلال الناس وغشهم واستعبادهم..، إنهم لا يملكون ذلك في ظل الإيمان والاستقامة على هداه، ومن ثم يصدون عن سبيل الله، ويصدون الناس ويبغونها عوجا لا استقامة فيها ولا عدالة..، لهذا فان منهج الإيمان ضمانة للحياة، وضمانة الأحياء من أثرة الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة، واستئثارهم بخيرات هذه الحياة..، وهكذا تتجلى طبيعة المعركة وساحتها في الحياة الدنيا.
o لا الجاهلية الأولى ولا المعاصرة ترضى من الإسلام أن يكون له كيان مستقل عنها ولا تطيق أن يكون له وجود خارج حدودها، وهي لا تسالم الإسلام حتى ولو سالمها، لذلك لا يطلب الذين كفروا من رسلهم أو من المؤمنين بهم مجرد أن يكفوا عن دعوتهم، ولكن يطلبون منهم أن يعودوا في ملتهم، وأن يندمجوا في تجمعهم الجاهلي، وأن يذوبوا في مجتمعهم، فلا يبقى لهم كيان مستقل..، وهذا ما تأباه طبيعة هذا الدين لأهله، ولابد أن يبدو الإسلام في صورة تجمع حركي مجرد مستقل بقيادة مستقلة وولاء مستقل، وهذا ما فعله الرسول بعد تمهيد وسعى حثيث، ولا يتميّع في تشكيلياته وأجهزته، وأن يرفضوا أن يعودوا في حلة قومهم (التجمع الجاهلي) بعد إذ نجاهم الله منها..، وعند ذلك فقط ـ تتدخل القوة الكبرى لاستخلاف الفئة المؤمنة التي لا تتطاول ولا تتعالى ولا تستكبر ولا تتجبر فلا تظلم ولا تفسد وتخاف من الوعيد..، وعندما تلتقي قوة الجبار المهيمن المتكبر بالقوة الصغيرة المؤمنة تندك قوة الطغاة الظالمين ويعلو الحق وأهله.
o إن الجهود والأعمال التي تقوم على قاعدة الإيمان، ولا تمسكها العروة الوثقى التي تصل العمل بالباعث، وتصل الباعث بالله.. تكون أعمالا مفككة كالهباء والرماد لا قوام لها ولا نظام ولا رابط، والباعث للعمل أهم من العمل نفسه، لأن الباعث هو الذي يحدد وجهة العمل ومقاييسه..، أما العمل فهو حركة آلية ولا يفترق فيها الإنسان عن الآلة إلا بالباعث والدافع والقصد والغاية.
o المشهد في السورة ـ ينتقل بسرعة من قضية الكفر والإيمان، والرسل وقومهم إلى مشهد من أعجب مشاهد القيامة وأحفلها بالحركة والانفعال والحوار بين الضعفاء والمستكبرين وبين الشيطان والجميع..، ينتقل المشهد من مسرح الدنيا إلى مسرح الآخرة {وبرزوا لله جميعاً} الطغاة المكذبون وأتباعهم من الضعفاء المستذلين، ومعهم الشيطان، ثم الذين آمنوا وعملوا الصالحات..، برزوا جميعاً مكشوفين لا يحجبهم حجاب، ولا يسترهم ساتر، ولا يقيهم واق..، وبدأ الحوار بين الضعفاء والمستكبرين..، {.. فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعاً فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء.. }..، والضعفاء هم الذين تنازلوا عن إنسانيتهم وحريتهم في التفكير والاعتقاد والسلوك، ودانو لبشر مثلهم واختاروه على الدينونة لله الواحد القهار..، والضعف ليس عذراً بل جريمة..، هم ضعفاء لا لأنهم أقل قوة مادية من الطغاة، ولا لأنهم أقل جاهاً أو مالاً أو منصباً أو مقاماً..، كلا إنما هم ضعفاء لأن الضعف في أرواحهم، وفي قلوبهم وفي نخوتهم وفي اعتزازهم بأخص خصائص الإنسان. إن المستضعفين يخضعون للطواغيت لضعف الروح، وسقوط الهمة، وقلة النخوة، والهزيمة والتنازل الداخلي عن الكرامة التي وهبها الله لبني الإنسان. إن الذل لا ينشأ إلا عن قابلية للذل في نفوس الأذلاء..، وهذه القابلية هي وحدها التي يعتمد عليها الطغاة في إذلال غيرهم.
o والأذلاء على مسرح الآخرة مع الذين استكبروا يرون الشيطان يلبس مسوح الكهان، ويتشيطن على الضعفاء والمستكبرين بكلام ربما يكون أقسى عليهم من العذاب. هذا الشيطان الذي كان يوسوس لهم في الصدور، ويقربهم بالعصيان، ويزين لهم الكفر والفسوق، ويصدهم عن استماع الحق والاستجابة له..، هذا الشيطان الذي كان يتشيطن لهم بكل ذلك، هو الذي يقف أمامهم في ساحة الآخرة ويؤنبهم، ويدعوهم إلى تأنيب أنفسهم، لأنهم أطاعوه {.. فلا تلوموني ولوموا أنفسكم}. ثم يتخلى عنهم في أحلك الظروف، وينفض يده منهم ويقول لهم بكل عنهجية وخبث: ما بيننا من صلة ولا ولاء..، ثم يقال للجميع: {إن الظالمين لهم عذاب أليم}.
o وقبل أن يسدل الستار نرى مشهد الأمة المؤمنة الفائزة الناجية {وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار، خالدين فيها بإذن ربهم تحيتهم فيها سلام.. }. فيا لها من خاتمة لقصة الدعوة والدعاة مع المكذبين والطغاة، فهل من مشمر للنجاة من خزي يومئذ. ؟
__________________
المرجع: تفسير في ظلال القرآن للشيخ سيد قطب.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد