الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فقد بينا في الحلقة السابقة بحمد الله - تعالى - الردود على بعض الشّبه التي أثيرت حول المكي والمدني من القرآن الكريم، وفندنا بعض تلك الأباطيل التي قيلت حول أسلوب القرآن المكي والمدني، ونكمل بمشيئة الله - تعالى - تفنيد بعض تلك الشبه حول هذا الموضوع في هذه الحلقة.
الشبهة الرابعة
يقولون: إن القسم المكي قد خلا من التشريع والأحكام على حين أن القسم المدني مشحون بتفاصيل التشريع والأحكام، وذلك يدل على أن القرآن من وضع محمد - صلى الله عليه وسلم - وتأليفه تبعًا لتأثره بالوسط الذي يعيش فيه، فعندما كان في مكة بين أميين خلا كتابه من العلوم والمعارف العالية، ولما حل بالمدينة بين أهل الكتاب المثقفين جاء كتابه مليئًا بتلك العلوم والمعارف.
الرد على هذه الشبهة:
ومما ينقض هذه الشبهة ما يلي:
أ- أن القسم المكي لم يخل جملة من التشريع والأحكام، بل عرض لها ولكن بطريقة إجمالية موجزة كما في الوصايا العشر من سورة الأنعام في قوله - تعالى -: قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا إلى تمام ثلاث آيات بعدها، فقد أشار إلى مقاصد الدين الخمسة: حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، على أن التشريع بمعناه العام يشمل كل ما شرع الله لعباده مما يقربهم إليه ويعرفهم به، فيشمل العقائد والأخلاق والمعاملات وغير ذلك، لكنه صار عرفًا في تنظيم علاقة الناس بعضهم ببعض، وهذا موجود في الوصايا العشر.
ب- تفصيل التشريع في المدينة ليس نتيجة لما زعموه، بل تمشيًا مع الحكمة الرشيدة في سياسة الأمم، فلابد من التمهيد قبل التوجيه، والإجمال قبل التفصيل، وذلك أن الطفرة نتيجتها الخيبة، والتدرج نتيجته السداد والتوفيق، وتقديم الأهم على المهم واجب من حيث الحكمة.
ج- أن ما زعموه لو كان صحيحًا لظهر أثر أهل الكتاب المدنيين فيمن معهم من عرب أهل المدينة، وفيمن حولهم من أهل مكة وآفاق الجزيرة، ولكانوا هم الأحرى بالنبوة والرسالة، ولسبق محمدًا إليها كثير غيره من فصحاء العرب وتجار قريش الذين كانوا يختلطون بأهل الكتاب في المدينة والشام أيما اختلاط.
د- أن القرآن الكريم تحدى الناس كافة مكيين ومدنيين، فهلا كان من أهل المدينة هؤلاء من يستطيعون أن يجاروه ولو في مقدار سورة قصيرة واحدة لو كانوا كما يزعم أولئك المبطلون مصدر الإلهام والتعليم؟
لقد كان في مكة الأميون والبلغاء، وفي المدينة أهل الكتاب والعرب الأميون، فكان أهل مكة يلمحون بذكاء خارق الإشارات إلى التعميم والتفصيل المرتقب من مثل قوله - تعالى - في سورة فصلت المكية: وويل للمشركين (6) الذين لا يؤتون الزكاة {فصلت: 6-7}، بل إن التدرج بدأ في مكة وانتهى في المدينة عندما قال عمر: اللهم بين لنا في الخمر بيانًا شافيًا، ثم توالت الآيات في التدرج في تحريم الخمر بالمدينة.
الشبهة الخامسة
يقولون: إن القرآن أقسم كثيرًا بالضحى، والليل، والتين والزيتون، وطور سينين، وكثيرٍ, من المخلوقات، ولا ريب أن القسم بالأشياء الحسية يدل على تأثر القرآن بالبيئة في مكةº لأن القوم فيها كانوا أميين، لا تعدوا مداركهم حدود الحسيات، أما بعد الهجرة واتصال محمد - صلى الله عليه وسلم - بأهل المدينة، وهم قوم مثقفون مستنيرون، فقد تأثر القرآن بالوسط الراقي وخلا من تلك الأيمان الحسية الدالة على البساطة والسذاجة.
الرد على هذه الشبهة:
ومما يبطل هذه الشبهة ما يلي:
أ- أن القسم بالأمور الحسية لم يكن مرده إلى انحطاط القوم، بل إلى رعاية مقتضى الحال فيما سيق لأجله، وقد تفشت في القوم عقائد الشرك فلم يكن من سبيل إلى استئصالها إلا بلفت عقولهم إلى ما في الكون من خلق الله وشئون الله، وفتح عيونهم على طائفة كبيرة من نعم الله المحيطة بهم ليصلوا من وراء ذلك إلى الإيمان بالله وحده وإلى عبادته وحده.
ب- وما من محسوس وَقَع مُقسَمًا به في القرآن إلا وفيه أسرار عجيبة تنأى به عن السذاجة والبساطة، وتشهد ببراعة المخاطبين به وتفوقهم في الفهم والذكاء والبيان لأن في القسم به إشارة إلى تلك الأسرار العظيمة التي أودعها الله فيه، وهذه الأسرار لا يدركها إلا اللبيب، ولا يفهمها إلا من كمل عقله وسلم ذوقه، كما قال - تعالى - في سورة الواقعة المكية: فلا أقسم بمواقع النجوم (75) وإنه لقسم لو تعلمون عظيم {الواقعة: 75}، لقد أقسم الله - جل وعلا - بالضحى والليل إذا سجى، وفي هذا القسم إشارة إلى أن تنزل الوحي أشبه بضحوة النهار، وأن فترة الوحي أشبه بهدأة الليل.
وسبب نزول هذه الآيات أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فتر عنه الوحي مرة فرماه أعداؤه بأن ربه ودعه وقلاه أي تركه أو أبغضه، فنزلت هذه الآيات مصدرة بهذا القسم، مشيرة إلى أن ما كان من سطوع الوحي على قلبه بمنزلة الضحى، وأن ما عرض بعد ذلك من فترة الوحي فإنه بمنزلة الليل إذا سجى، فإذا كانوا يتقبلون الضحى والليل بالتسليم والرضا لما فيهما من نفع للإنسان بالسعى والحركة في النهار والنوم والاستجمام بالليل فيجب أن يتقبلوا ما يجري على محمد - صلى الله عليه وسلم - من نزول الوحي وفترته للمعنى الذي سلف.
وأقسم بالتين إشارة إلى العهد الأول للإنسان، حيث آدم، وبالزيتون إشارة إلى العهد الثاني حيث نوح، وقد أغرق الله الأرض، ولم يبق فيها جافًا سوى الزيتون، وطور سنين تذكيرًا بعهد موسى، والبلد الأمين تذكيرًا بتلك الشريعة الغراء حيث نشأ محمد - صلى الله عليه وعلى سائر الأنبياء وسلم تسليمًا -.
وهكذا كالقسم بالعصر الذي ينشط فيه الإنسان والفجر الذي يبدأ فيه نشاطه، والليالي العشر التي فيها ليلة القدر، هي خير من ألف شهر، والنجم الذي يقتدي به ويهتدي إشارة إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم - ومعراجه، وكن يقظًا متأملاً في سائر الأقسام، فسوف تجد فيها من الأسرار العِجَاب ما لا يدركه إلا من كمل عقله وسلم ذوقه.
قلت: جاءت الأحاديث الصحيحة في النهي عن القسم بغير الله فليس لعباده أن يقسموا بغيره وهو - سبحانه - يقسم بما شاء من مخلوقاته، لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون.
والحمد لله رب العالمين.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد