قال - تعالى -: {وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون} [الأنعام: 112].
معاني الألفاظ:
- شياطين الإنس والجن: روى ابن جرير - من طرق عدة - عن أبي ذر مرفوعاً: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له عقب صلاة: \"يا أبا ذر: هل تعوذت من شر شياطين الإنس والجن؟ قال: قلت يا رسول الله: وهل للإنس من شياطين؟ قال: نعم\" اه. وقال ابن عباس: كل عات متمرد من الجن والإنس فهو شيطان.
- يوحي: أصل الوحي الإشارة السريعة، وذلك يكون بالكلام على سبيل الرمز والتعريض، وقد يكون بصوت مجرد عن التركيب، وبإشارة بعض الجوارح وبالكتابة أيضاً. [روح المعاني للألوسي].
- زخرف القول: المزوق من الكلام الباطل منه، وأصل الزخرف الزينة المزوقة، كالأزهار للأرض، والذهب للنساء، والتجميل الشعري في الكلام، وما يصرف السامع عن الحقائق إلى الأوهام، فهو القول الذي يغتر سامعه من الجهلة بأمره.
- غروراً: الغرور ضرب من الخداع بالباطل مأخوذ من الغرة (بالكسر) والغرارة (بالفتح) وهما بمعنى الغفلة والبلاهة وعدم التجارب ومنه: شاب غرُّ وفتاة غر (بالكسر) أي غافلان عن شؤون الرجال والنساء لا تجربة لهما. [تفسير المنار].
الصراع بين الحق والباطل سنة كونية تحكم أمر المجتمعات البشرية اقتضتها الحكمة الإلهية ليتحقق في دنيا الناس مفعول قوله - تعالى -: {ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الله الخبيث من الطيب} [آل عمران:179]، وقوله: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين} [البقرة:251]، وقوله أيضاً: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً} [الحج: 40] أما من بيده مقاليد السماوات والأرض فإنه عليم بحال الصالح والطالح.
ولا يتميز الخبيث من الطيب في دنيا الناس إلا من خلال المدافعة عبر الشدائد والمحن والابتلاءات، إذ لو كان الإيمان مجرد لفظة يتشدق بها الإنسان ليفوز بلقب \"المؤمن\" أو \"المسلم\" لسهل أمر اعتناق هذا الدين ولدخل في زمرته كل من هب ودب دون أن يتميز المؤمن الصادق في إيمانه من المنافق عليم اللسان.
في هذه الآية الكريمة يتحدث الحق تباركت أسماؤه، مسلياً نبيه - عليه الصلاة والسلام - ، بعد الذي عاناه من مشركي قريش ومترفيها عن وسيلة يعمد إليها العتاة المتمردون في حربهم الشعواء التي لا يخبو أوارها ولا تهدأ نارها في مواجهة الحق وأهله ألا وهي زخرف القول. فيقول مخاطباً إياه[1]: (أي مثل ذلك الجعل في حقك حيث جعلنا لك أعداء أيضاً دونك لا يؤمنون ويبغونك الغوائل ويجهدون في إبطال أمرك جعلنا لكل نبي تقدمك فعلوا معهم نحو ما فعل معك أعداؤك لا جعلا أنقص منهم) اه. يقول رشيد رضا[2]: (أي وكما جعلنا هؤلاء ومن على شاكلتهم أعداء لك جعلنا لكل نبي جاء قبلك شياطين الإنس والجن) اه.
هذا الذي ذكره الله في هذا النص تحدث عنه في مواطن أخرى من كتابه وتحدث عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضاً، فقال - تعالى -: {وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين وكفى بربك هادياً ونصيرا} [الفرقان:31]، {ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا}[الأنعام:34]، {ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك} [فصلت:43]، وقال ورقة بن نوفل للنبي - صلى الله عليه وسلم - عندما جاءه مغموماً مهموماً في بدايات نزول الوحي عليه: \"إنه لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي\".
لقد مثل زخرف القول معلماً بارزاً من معالم الحرب الشعواء التي شنها أهل الباطل، واستحوذ على حيز كبير في إطار الخطة الشاملة التي أعدوها لمجابهة الأنبياء والمرسلين ثم المصلحين الذين ساروا على نهجهم، ومن يتأمل كتاب الله يجد هذا الأمر واضحاً من خلال الآيات التي تحدثت عن قصص الأنبياء عليهم السلام، ابتداءً من نوح - عليه السلام - الذي قالوا في حقه {مجنون وازدجر} [القمر: 9] وانتهاء بمحمد - عليه الصلاة والسلام - الذي رموه بالجنون والكهانة والشعوذة مع أنهم يعلمون في حقيقة أنفسهم أنهم كانوا كاذبين، فقد كانوا بالأمس القريب يلقبونه بالأمين ويودعون أماناتهم الغالية عنده.
أما أرباب الفتنة اليوم فلم يدعوا لقباً ولا وصفاً إلا وألصقوه بالعاملين للإسلام في كل مكانº الإرهاب، التطرف، الأصولية، التزمت... الخ، وهم في كل ذلك يريدون صرف الناس عن حقيقة المعركة التي بينهم وبين دعاة الإصلاح ليجروهم إلى زخارف أقوالهم وإلى معارك جانبية، فيزينوا لهم الباطل الذي هم عليه، ويشوهوا الحق الذي عليه العاملون للإسلام بسبب امتلاكهم وسائل الإعلام الضخمة بشتى أصنافها. وتسخيرهم الأقلام المأجورة المنافقة التي تنفث السموم التي يراد حقنها للشعوب المغلوبة على أمرها. يقول رشيد رضا[3] موضحاً هذا الأمر: (والتغرير بزخرف القول قد ارتقى عند شياطين هذا الزمان ولاسيما شياطين السياسة ارتقاء عجيباً فإنهم يخدعون الأحزاب منهم والأمم والشعوب من غيرهم فيصورون لها الاستعباد حرية، والشقاوة سعادة، بتغيير الأسماء وتزيين أقبح المنكرات، وأن من الشعوب غراراً كالأفراد، تلدغ من الجحر الواحد مرتين بل عدة مرار، فاعتبروا يا أولي الأبصار) اه.
ويقول الطاهر بن عاشور[4]: (... وأفهم وصف القول بالزخرف أنه محتاج إلى التحسين والزخرفة، وإنما يحتاج إلى ذلك إذا كان غير مشتمل على ما يكسبه القبول في حد ذاته، وذلك أنه كان يفضي إلى ضر يحتاج قائله إلى تزيينه وتحسينه لإخفاء ما فيه من الضر، خشية أن ينفر عنه من يسوله لهم، فذلك التزيين ترويج يستهوون به النفوس، كما تموه للصبيان اللعب بالألعاب والتذهيب) اه.
إن اعتماد هذا الأسلوب من أهل الباطل يجب أن لا يضير حملة الحق ليثنيهم عن النور والهدى الذي هم عليه، لا بل يجب عليهم الإصرار في المضي على طريق الخير والفلاح والمصابرة على ذلك، لأن هذا الذي يقوم به هؤلاء المتجبرون لا يخرج عن إرادة ومشيئة العليم القدير {ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون} فهم إذن ليسوا أكثر من مجرد أدوات تحركها يد القدر، ومتى شاءت هذه اليد أن تضع حداً لهرائهم وسخريتهم هذه لفعلت، ومتى أرادت لأهل الخير المستضعفين النصر والتمكين - إن هم استحقوا ذلك - لفعلت. وهنا لابد من التنبيه على مسألة أو قول يردده بعض الطيبيين حين ينطق الواحد منهم موضحاً ذلك:\"ليس لدي أعداء\"، واعجباً كيف غفل هؤلاء عن هذه الآيات وعن سيرة الأنبياء والمصلحين وكيف أن الواحد منهم مجرد أن يرفع راية الدعوة إلى الله حتى يجابه بالإعراض والسخرية والاستهزاء ويسمع ما لم يألفه حين كان بعيداً عن ميدان دعوة الناس إلى الخير والصلاح.
فيا دعاة الإسلام وأهله: إياكم ثم إياكم أن تُضعفكم نعوت طواغيت النظام العالمي من اليهود والنصارى والمنافقين العلمانيين من الحكام والكتاب وغيرهم في بلادنا، فهذا الذي يفعلونه ويقومون به لا يخرج عن نطاق السنة الكونية التي اقتضتها الحكمة الإلهية: {ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور} [آل عمران: 186]، فهو الصبر والإصرار إذن مع الاعتماد والتوكل على القوي العزيز، مع تدارك الأخطاء التي تقع حتى لا نستبطىء النصر ونزيد في عمر الباطل بسبب ما كسبت أيدينا، فالله وعدنا بالنصر والتمكين، فقال: {بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون} [الأنبياء:18]، {فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض} [الرعد:17]، {وكان حقاً علينا نصر المؤمنين} [الروم:47]، {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في ا لحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد}[غافر:51]، {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا، يعبدونني لا يشركون بي شيئاً}[النور:55]. فسيروا على بركة الله أيها العاملون وتلفتوا لأخطائكم وأنفسكم فقوِّموها، وزنوا أعمالكم وتصرفاتكم بميزان الشرع حتى تكتمل شروط النصر والتمكين.
- - - - - - - - - - - -
[1] روح المعاني للألوسي.
[2] تفسير المنار لرشيد رضا.
[3] المرجع السابق.
[4] التحرير والتنوير، الطاهر بن عاشور.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد