نحو مواجهة ظاهرة أصحاب الخواطر القرآنية في العصر الحديث


 بسم الله الرحمن الرحيم

 

\"المضغة غير المخلّقة\" لا تعني الإستنساخ والمفسرون أولى بالإتباع

 

 

بين حين وآخر يطالعنا بعض المتسلقين على أعمدة الإسلام بتأويلات وتفسير لنصوص القرآن الكريم هي اقرب إلى الرأي المجترأ منه إلى العلم المستنبط، ولا هم لهؤلاء سوى أن يتناولهم الناس بالمدح والثناء في الصالونات والمنتديات· والصحف والمجلات· وأن يظهروا على شاشات التلفزة الأرضية والفضائيات التي حولت العالم إلى قرية كونية صغيرة ليعرف فيها القاصي والداني ما يدور من أحداث في وقت واحد في إحدى زوايا الأرض الأربع·

ولعل أحد هؤلاء المتأولين الذين (خطر على بالهم) ان يفسروا القرآن الكريم، ويجترئوا على كتاب الله من قالوا بأن الاستنساخ موجود· واستشهدوا بالآية الخامسة من سورة الحج - هذا نصها:( يأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلاً ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج)·

يفهمون كما يريدون

وكان التركيز على عبارة (مضغة مخلقة وغير مخلقة) ورأوا في ذلك تفويضاً ربانياً للإنسان بإمكانية الاستنساخ ضاربين بعرض الحائط تراثاً إسلاميا علمياً عمره يزيد عن أربعة عشر قرناً، وضاربين بعرض الحائط أقوال صحابة كرام· وتابعين كبار، وكبار العلماء والفقهاء والمحدثين واللغويين الذين كتبوا وصنفوا واجتهدوا وغاصوا في بحور العلم والمعرفة· ولم يتركوا باباً إلا وطرقوه· وكانوا أكثر عناية واهتماماً بكتاب المسلمين المقدس بالقرآن الكريم الذي هو دستور رب العالمين نقلاً بالتواتر بأسانيد صحيحة لا يعتورها أدنى درجات الشك وقدموا لنا هذا التراث كتباً وتفاسير في مجلدات يعجز العلم عن وصف مكنوناتها من الدرر·

كل هؤلاء العلماء والمفسرين لم يروا في الآية دليلاً على الاستنساخ بل اجمعوا رغم اختلاف عصورهم وأزمانهم على أن معنى قوله تعالى: مخلقة وغير مخلقة هي الحمل الذي اكتمل نموه وكتب له أن يعيش والسقط من الدم الذي لم يتم بعد·

الدلالات اللغوية

وفي هذه العجالة من السطور أردت الرجوع إلى كبار العلماء والمفسرين السابقين لكي اعرض لمقالهم واترك القارئ كي يقرأ ويحكم بذاته·

جاء في لسان العرب ج 86/10 ·· \"ومضغة مخلقة اي تامة الخلق، وسئل احمد بن يحيى عن قوله تعالى: (مخلقة وغير مخلقة) فقال: الناس خلقوا على ضربين: منهم تام الخلق· ومنهم خديج ناقص غير تام يدلك على ذلك قوله تعالى: ونقر في الأرحام ما نشاء وقال ابن الأعرابي: مخلقة قد بدا خلقها، وغير مخلقة لم تصور·

وفي مختار الصحاح والخلقة الفطرة· وفلان خليق بكذا أي جدير به· ومضغة مخلقة تامة الخلق·

وكتابا لسان العرب ومختار الصحاح هما من أميز المصنفات والمراجع في اللغة العربية، وفهم اللغة العربية هو اللبنة الأولى في أي بناء علمي، وهو الخطوة الأولى لمعرفة مدلولات الكلمات ومراميها·

رأي المفسرين \"القرطبي وابن العربي

وابن كثير\"

وجاء في تفسير القرطبي أيضاً ج 9/12 قوله تعالى: \"مخلقة وغير مخلقة\"· قال الفراء: مخلقة تامة الخلق وغير مخلقة السقط· وقال ابن الاعرابي: مخلقة قد بدأ خلقها وغير مخلقة لم تصوّر بعد وقال ابن زيد: المخلقة التي خلق الله فيها الرأس واليدين والرجلين وغير مخلقة التي لم يخلق فيها شيء·

قال ابن العربي: إذا رجعنا إلى أصل الاشتقاق فان النطفة والعلقة والمضغة مخلقة لان الكل خلق الله تعالى، وان رجعنا إلى التصوير الذي هو منتهى الخلقة كما قال الله تعالى: ثم أنشأناه خلقاً آخر فذلك ما قال ابن زيد قلت: التخليق من الخلق وفيه معنى الكثرة فما تتابع عليه الأطوار فقد خلق خلقاً بعد خلق وإذا كان نطفة فهو مخلوق، ولهذا قال الله تعالى: ثم أنشأناه خلقاً آخر····

وقال ابن عباس: المخلّقة ما كان حياً، وغير المخلّقة السقط·

وقال ابن كثير في تفسيره ج 208/3 روى ابن ابي حاتم وابن جرير من حديث ابن داوود بن أبى هند عن الشعبي عن علقمة عن عبد الله قال: النطفة إذا استقرت في الرحم أخذها ملك بكفه فقال: يا رب مخلقة أو غير مخلّقة· فان قيل غير مخلقة لم تكن نسمة وقذفتها الأرحام دماً، وان قيل مخلقة قال اي رب ذكر او انثى··

وقال الإمام الطبري في تفسيره ج 116/17 واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: مخلقة وغير مخلقة· فقال بعضهم هي من صفة النطفة· قال: ومعنى ذلك فان خلقناكم من تراب ثم من نطفة مخلقة وغير مخلقة قالوا فأما المخلقة فما كان خلقاً سوياً، واما غير مخلقة من دفعته الأرحام من النطف وألفته قبل أن يكون خلقاً·

وقال الامام السيوطي في الدر المنثور ج 10/6 أخرج ابن ابي حاتم وصححه عن ابن عباس في قوله مخلقة وغير مخلقة· قال المخلقة ما كان حياً· وغير المخلقة ما كان من سقط·

وفي تفسيره للآية يقول الواحدي ج 728/2 يا أيها الناس يعني كفار مكة إن كنتم في ريب من البعث شك من الاعادة فانا خلقناكم خلقنا اباكم الذي هو اصل البشر من تراب ثم خلقنا ذريته من نطفة ثم من علقة وهي الدم الجامد ثم من مضغة وهي لحمة قليلة قدر ما يمضغ مخلقة مصورة تامة الخلق وغير مخلقة وهي ما تمجّه الأرحام دماً يعني السقط لنبين لكم كمال قدرتنا بتصريفنا أطوار خلقكم ونقرّ في الأرحام ما نشاء· ننزل فيها ما لا يكون سقطاً إلى أجل مسمى إلى وقت خروجه··

وكذلك يؤكد الإمام البغوي·

وفي زاد المسير لبشير عبد الرحــمن الجــــوزي ج 405/5 - 406 قوله تعالى مخلقة وغير مخلقة فيه خمسة أقوال· احدها أن المخلقة ما خلق سوياً، وغير المخلقة ما ألفته الأرحام من النطف وهو دم قبل أن يكون خلقاً قاله ابن مسعود والثاني ان المخلقة ما أكمل خلقه بنفخ الروح فيه وهو الذي يولد حياً لتمام وغير المخلقة ما سقط غير حي لم يكمل خلقه بنفخ الروح فيه وهذا معنى قول ابن عباس· والثالث أن المخلقة المصورة وغير المخلقة غير مصورة قاله الحسن·· والرابع ان المخلقة وغير المخلقة السقط تارة بسقط نطفة وعلقة وتارة قد صور بعضه وتارة قد صور كله قاله السدي··· والخامس أن المخلقة التامة وغير المخلقة السقط قاله الفراء وابن قتيبة·

فليحذر الذين يقولون في القرآن الكريم بغير علم ولا هدى، من هذا النهج في تضليل الناس وتعميتهم·

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply