مع القرآن الكريم


 بسم الله الرحمن الرحيم

القرآن الكريم الذي هو كلام الله - تعالى -، المنزل على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، المنقول إلينا متواتراً، المكتوب في المصاحف، المتعبدُ بتلاوته، المبدوء في المصحف بصورة الفاتحة، المختوم بصورة الناس، المحفوظ من التغيير والتبديل.

وهو كتاب الله تبارك وتعالى، فيه نبأ من قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن إبتغى الهدى في غيره أضله الله، هو حبل الله المتين، ونوره المبين، والذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا تتشعب مع الآراء، ولا يشبع منه العلماء، ولا يمله الأتقياء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته أن قالوا: (إنا سمعنا قرآناً عجباً) (الجن: 1).

من علم علمه سبق، ومن قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أجر، ومن دعا إليه هُدي إلى صراط مستقيم.

أنزله الله على رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - ليقوم المؤمنون بتلاوته، فتنشرح بتلاوته صدروهم، وتستنير أفئدتهم وقلوبهم، وينالوا به مثوبة الله يوم القيامة، وما تقرّب أحد إلى الله - تعالى -بمثل كلامه.

 

والقرآن كله خير وفضل وبركة، فقد جاء في السنة أخبار شتى في ذكر فضل القرآن وفضائله، ولو أردنا الحديث عن فضل القرآن لاستغرقنا الليالي والأيام، ولكن من باب الإشارة أقول: إن فضل القرآن يتلخص في النقاط التالية: -

أولا: أنه أفضل الكتب المنزلة، وأنزل على أفضل الأنبياء.

ثانيا: أن القرآن ناسخ للكتب السماوية السابقة كلها، ومهيمن عليها، فهو مشتمل علـى ما إشتملت عليه الكتب التي أنزلت قبله وزيادة.

ثالثاً: إجتمع للقرآن شرف الزمان، وشرف المكان حيث نزل في أشرف الشهور(شهــر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) (البقرة: 185). ونزل في أحب البقاع إلى الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين، وهي بقاع مكة والمدينة.

رابعاً: تكفل الله بحفظه دون غيره من الكتب السماوية، قال - تعالى -: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) (الحجر: 9).

 

أيها الأخوة: هذا فيما يتعلق بفضل القرآن ومنزلته، أما فضائله وهي ما جاءت به السنة من ثواب في تعلمه وتعليمه عموماً، أو ما جاء في فضل بعض السور أو الآيات من الثواب الأخروي، أو الفوائد الدنيوية فهي لا تعدُ ولا تحصى، وقد ألف فيها العلماء مؤلفات ضخمة لكن حسبنا في هذه العجالة بضع أحاديث تقف معها فإستمعوا لها.

يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) (رواه البخاري). ويقول - صلى الله عليه وسلم -: (إقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه) (رواه مسلم). ويقول - صلى الله عليه وسلم -: (لا حسد ـ أي لا غبطة ـ إلا في إثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الله وآناء النهار) (متفق عليه).

ويقول - صلى الله عليه وسلم -: (من قرأ حرفاً من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقل (آلم) حرف، ولكن ألف حرف، ولا حرف، وميم حرف) (رواه الترمذي).

 

هذه نبذة عن القرآن وفضله وفضائله، وإن كتاباً هذا أنه لجدير بالحفظ والعناية والإهتمام، فما أنزله الله - تعالى -إلا للفهم والتدبر والعلم والعمل (كتابُ أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب) (ص: 29). وقد يسر الله فهمه لمن أراد الإنتفاع به (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مذكر) (القمر: 17).

 

أنزله الله باللغة العربية ليعقله العرب ويؤمنوا به ويبلغوه إلى بقية الأمم (إنا أنزلناه قرءاناً عربياً لعلكم تعقلون) (يوسف: 2).

فأدرك الصحابة الشرف الذي حباهم الله به فأقبلوا عليه يحفظونه ويرتلونه ويتعلمونه ويعملون بما فيه، فنفذوا أحكامه، وأقاموا حدوده، وطبقوا شرائعه، فطهرت به نفوسهم، وصلحت به سرائرهم، فإستطاعوا أن يبدلوا الكفر والفساد في العالم إيماناً وصلاحاً، والجهل والضلال علماً وهداية.

ثم دبّ الضعف في الأمة الإسلامية بقدر ما دبّ فيها من التهاون بهذا القرآن الذي هو أكبر نعمة أنعم الله بها على هذه الأمة.

 

والمتأمل في حال الناس اليوم يدرك تماماً ما هم عليه من الإعراض عن القرآن وهجره، فكثير من الناس حظه من القرآن إستماعه كما يستمع إلى غيره من الكلام، بل قد يكون سماعاً لا إستماعاً. والمحسن منهم من يقرؤه لحصول البركة وتكثير الحسنات غافلاً عن العمل بما فيه.

وإن أقرب مثال على تفريط الناس بالقرآن لهو الإقتصار على التحصن والتداوي به من الأمراض الحسية دون المعنوية، فالله - سبحانه وتعالى - يقول: (وينزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً) (الإسراء: 82). ويقول - سبحانه - (قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء) (فصلت: 44).

حقاً إنه شفاء ورحمة وهدى للمؤمنين جميعاً، لكن لما أعرض كثير من الناس عن القرآن، وطنوا أنه مقصور على فئة من الناس، حُرموا هذا الشفاء بسبب أنفسهم، وإلا فإن كلام الله - تعالى -مبارك وشفاء للمؤمنين الموقنين، والتداوي به ليس حكراً على قارىء معين، بل كل من حسن إعتقاده وخلُصت نيته، وكان مطيعاً لله - تعالى -، مبتعداً عن معاصيه، حري بالنفع والإنتفاع بهذا القرآن بإذن الله - تعالى -.

فهل يعي الكل منا أن القرآن شفاء ورحمة فيجدوا فيه الدواء الشافي والدرع الواقي بإذن الله - تعالى -من أذى الجن ومسهم، وسيطرة السحرة والمشعوذين، وفشو الأمراض النفسية، فالقرآن درع متين، وحصن حصين، وهو حفظ للمؤمنين من تلك الشرور.

 

أيها الأخوة: هذا مثال واحد على تفريطنا وإضاعتنا للقرآن، ناهيكم عن تفريطنا به فيما يتعلق بتوجيهاته نحو الصلاة وبر الوالدين، وحسن الجوار، والعدل في معاملة الناس، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والأخلاق الفاضلة أو التواضع وغيرها.

 

نسمع كلام الله - تعالى -ونهيه عن الغيبة والكذب والرذيلة لكننا نتجاهل ما نسمع، ونتجاسر على فعل ما عنه نزجر، فهل هذه حال المسلمين الذين أنزل عليهم القرآن هدى ونوراً، وحكماً دستوراً.

 

أيها الأحبة في الله: بعد هذه المقدمة الموجزة أود أن أقف معكم وقفتين:

الوقفة الأولى: حول حفظ القرآن. فقد صرح العلماء بأن حفظ القرآن واجب على الأمة، أي أنه يجب ألا ينقطع عدد التواتر فيه، فإن قام بذلك قوم سقط عن الباقين، فيصبح حفظ القرآن فرض كفاية في حق سواد الأمة وعامة المسلمين. أما حفظ بعضه كالفاتحة فهو فرض عين على كل فرد إذ لا تصح الصلاة بغير الفاتحة.

ومع ذلك فإن حفظ القرآن ودراسته أفضل ما يشتغل به الدارسون، ويتعب فيه الباحثون، وقد ذكر العلماء لحفظ القرآن الكريم فوائد نوجز منها ما يلي: -

أولا: الفوز بسعادة الدارين إذ صاحب الحفظ عمل صالح.

ثانيا: شحذ الذاكرة والذهن، فتجد الحافظ لكتاب الله في الغالب أسرع بديهة، وأضبـط وأتقن من غيره، لكثرة مرانه على ضبط الآيات وتمييز المتشابه منها في اللفظ، ومن المتقرر لدى الأطباء أن الذاكرة تقوى بالمران والتعويد على الحفـــظ، وتضعف بالكسل والخمول.

ثالثاً: سعة العلم، ولذا تجد الحافظين يتفوقون على أقرانهم غير الحافظين في كثيـر من المجالات.

رابعاً: تأثير القرآن على صاحبه بالسمت الحسن والسلوك القويم.

وإذا كانت هذه فوائد الحفظ فإنه له عوامل ضرورية أهمها الرغبة والتطلع والإهتمام، فإذا إجتمعت هذه في شخص دفعته إلى الحفظ لاسيما مع العمر المناسب من سن الخامسة إلى الخامسة عشر، فهو العمر الذهبي للحفظ، ولا يعني هذا أن الكبير لن يحفظ، كلا، بل أن كثيراً من الناس حفظوا القرآن بعد هذا العمر، لكن المهم هو الرغبة والإهتمام، وتنظيم الوقت وتحديد نسبة المحفوظ، كل على حسب إستطاعته، ثم بعد الحفظ يأتي دور المراجعة والترداد، فمهما حفظ الإنسان من القرآن فإنه يتفلت منه، وعلاج ذلك يكون بالتعاهد وكثرة القراءة كما أرشدنا إلى ذلك المصطفى - صلى الله عليه وسلم -.

وإذا كان العمر الذهبي للحفظ من الخامسة إلى الخامسة عشر، فإن هذا يقتضى إهتمامكم أيها الآباء بتعليم صغاركم وتشجيعهم على حفظ القرآن الكريم.

يقول العلامة إبن القيم ـ - رحمه الله - ـ: أما تدبير العلم فينبغي أن يحمل الصبي من حين يبلغ خمس سنين على التشاغل بالقرآن والفقه وسماع الحديث، وليحصل له المحفوظات أكثر من المسموعات، لأن زمن الحفظ إلى خمس عشر سنة، فإن بلغ تشتت همته. وأول ما بنبغي أن يكلف حفظ القرآن متقناً، فإن يثبت ويختلط باللحم والدم.

وأنتم أيها الكبار لا تحقروا أنفسكم وتحرموها الخير، لا يقل أحدكم: إني كبرت وليحفظ ما يطيق ولو شيئاً يسيراً من كلام الله - تعالى -فإنه يأتي شفيعاً له يوم القيامة.

 

الوقفة الثانية: حول آداب التلاوة: وقد جاء الإسلام بالآداب العامة التي شملت كل جانب من جوانب الحياة، ومن ذلك آداب القرآن التي هي أجدر أن يتأدب بها الناس، لأنهم يتأدبون مع كلام الله - تعالى -، فمن ذلك:

أولاً: الإخلاص لله - تعالى -في قراءة القرآن، فيستحضر المسلم بأنه يناجي ربه، ويقرأ على حال من يرى الله - تعالى -، فإن لم يكن يراه فإن الله يراه.

ثانياً: يستحب أن يقرأ على طهارة، ويستاك وينظف فاه، ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم قبل القراءة، ولا بأس بأن يقرأ وهو محدث حدثاً أصغر لكن لا يمس المصحف.

ثالثاً: يستحب أن يقرأن القرآن مستقبل القبلة بخشوع وسكينة في مكان نظيف بعيد عن الضجيح واللغط.

رابعاً: أن يرتل القرآن بتدبر وخشوع، ولكن شأنك أيها القارىء الخشوع والتدبر لآخر السورة، ولا مانع من ترديد الآية للتدبر، فقد قام النبي - صلى الله عليه وسلم - بآية يرددها حتى أصبح، وهي قوله - تعالى -: (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) (المائدة: 118). ثم لا ننسى أيها الأخوة أن البكاء عن قرآة القرآن من صفات عباد الله الصالحين (ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعاً) (الإسراء: 109).

 

أسأل الله - تعالى -أن يجعلنا من الخاشعين عن تلاوة كتابه الذي يزدادون إيماناً مع إيمانهم، إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.  

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply