بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد: في معنى التدبر وعلاماته
المسألة الأولى: معنى التدبر
قال الميداني: \"التدبر هو: التفكر الشامل الواصل إلى أواخر دلالات الكلم ومراميه البعيدة \"اهـ،
و معنى تدبر القرآن: هو التفكر والتأمل لآيات القرآن من أجل فهمه، وإدارك معانيه، وحكمه، والمراد منه.
المسألة الثانية: علامات التدبر
ذكر الله - تعالى -في كتابه الكريم علامات وصفات تصف حقيقة تدبر القرآن وتوضحه بجلاء من ذلك: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعيُنَهُم تَفِيضُ مِنَ الدَّمعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكتُبنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [(83) سورة المائدة]، {إِنَّمَا المُؤمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَت قُلُوبُهُم وَإِذَا تُلِيَت عَلَيهِم آيَاتُهُ زَادَتهُم إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِم يَتَوَكَّلُونَ} [(2) سورة الأنفال]، {وَإِذَا مَا أُنزِلَت سُورَةٌ فَمِنهُم مَّن يَقُولُ أَيٌّكُم زَادَتهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتهُم إِيمَانًا وَهُم يَستَبشِرُونَ} [(124) سورة التوبة]، {قُل آمِنُوا بِهِ أَو لاَ تُؤمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا العِلمَ مِن قَبلِهِ إِذَا يُتلَى عَلَيهِم يَخِرٌّونَ لِلأَذقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعدُ رَبِّنَا لَمَفعُولاً وَيَخِرٌّونَ لِلأَذقَانِ يَبكُونَ وَيَزِيدُهُم خُشُوعًا} [107-109: سورة الإسراء]، {إِذَا تُتلَى عَلَيهِم آيَاتُ الرَّحمَن خَرٌّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا*} [(58) سورة مريم]، {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِم لَم يَخِرٌّوا عَلَيهَا صُمًّا وَعُميَانًا} [(73) سورة الفرقان]، {وَإِذَا يُتلَى عَلَيهِم قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الحَقٌّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبلِهِ مُسلِمِينَ} [(53) سورة القصص]، {اللَّهُ نَزَّلَ أَحسَنَ الحَدِيثِ كِتَابًا مٌّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقشَعِرٌّ مِنهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخشَونَ رَبَّهُم ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُم وَقُلُوبُهُم إِلَى ذِكرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهدِي بِهِ مَن يَشَاء وَمَن يُضلِل اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن هَادٍ,} [(23) سورة الزمر].
فتحصل من الآيات السابقة سبع علامات هي:
1- اجتماع القلب والفكر حين القراءة، ودليله التوقف تعجبا وتعظيما.
2- البكاء من خشية الله.
3- زيادة لخشوع.
4- زيادة الإيمان، ودليله التكرار العفوي للآيات.
5- الفرح والاستبشار.
6-القشعريرة خوفا من الله - تعالى -ثم غلبة الرجاء والسكينة.
7- السجود تعظيما لله - عز وجل -.
فمن وجد واحدة من هذه الصفات، أو أكثر فقد وصل إلى حالة التدبر والتفكـــر، أما من لم يحصل أياً من هذه العلامات فهو محروم من تدبر القرآن، ولم يصل بعد إلى شئ من كنوزه وذخائره، قال إبراهيم التيمي: \"من أوتي من العلم ما لا يبكيه لخليق ألا يكون أوتي علما لأن الله نعت العلماء فقال: {قُل آمِنُوا بِهِ أَو لاَ تُؤمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا العِلمَ مِن قَبلِهِ إِذَا يُتلَى عَلَيهِم يَخِرٌّونَ لِلأَذقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعدُ رَبِّنَا لَمَفعُولاً وَيَخِرٌّونَ لِلأَذقَانِ يَبكُونَ وَيَزِيدُهُم خُشُوعًا} [(107-109) سورة الإسراء] \"، وعن أسماء بنت أبي بكر ~ قالت: كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قرئ عليهم القرآن كما نعتهم الله تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم، إن كل يوم يمر بك ولا يكون لك نصيب ورزق من هذه العلامات، فقد فاتك فيه ربح عظيم، وهو يوم حري أن يبكى على خسارته.
المسألة الثالثة: مفهوم خاطئ لمعنى التدبر
إن مما يصرف كثيرا من المسلمين عن تدبر القرآن، والتفكر فيه، وتذكر ما فيه من المعاني العظيمةº اعتقادهم صعوبة فهم القرآن، وهذا خطأ في مفهوم تدبر القرآن، وانصراف عن الغاية التي من أجلها أنزل، فالقرآن كتاب تربية وتعليم، وكتاب هداية وبصائر لكل الناس، كتاب هدى ورحمة وبشرى للمؤمنين، كتابٌ قد يسَّر الله - تعالى -فهمه وتدبره، كما قال - تعالى -: {وَلَقَد يَسَّرنَا القُرآنَ لِلذِّكرِ فَهَل مِن مٌّدَّكِرٍ,}[(17) سورة القمر].
قال ابن هبيرة ’: \" ومن مكايد الشيطان تنفيره عباد الله من تدبر القرآن، لعلمه أن الهدى واقع عند التدبر، فيقول هذه مخاطرة، حتى يقول الإنسان أنا لا أتكلم في القرآن تورعا \"، وقال الشاطبي ’: \" فمن حيث كان القرآن معجزا أفحم الفصحاء، وأعجز البلغاء أن يأتوا بمثله، فذلك لا يخرجه عن كونه عربيا جاريا على أساليب كلام العرب، ميسرا للفهم فيه عن الله ما أمر به ونهى\" اهـ.، قال ابن القيم ’: \" من قال: إن له تأولاً لا نفهمه، ولا نعلمه، وإنما نتلوه متعبدين بألفاظه، ففي قلبه منه حرج \" اهـ.، ويقول الصنعاني ’: \" فإن من قرع سمعه قوله - تعالى -: {وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم مِّن خَيرٍ, تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيرًا وَأَعظَمَ أَجرًا وَاستَغفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [(20) سورة المزمل] يفهم معناه دون أن يعرف أن (ما): كلمة شرط، و (تقدموا): مجزوم بها لأنه شرطها، و (تجدوه): مجزوم بها لأنه جزاؤها، ومثلها كثير... فياليت شعري! ما الذي خَصَّ الكتاب والسنة بالمنع عن معرفة معانيها، وفهم تراكيبها، ومبانيها... حتى جعلت كالمقصورات في الخيام.. ولم يبق لنا إلا ترديد ألفاظها وحروفها... \"اهـ.
إن الصحيح والحق في هذه المسألة: أن القرآن معظمه واضح، وبين وظاهر لكل الناس، كما قال ابن عباس - رضي الله عنه-: \"التفسير على أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله \".، ومعظم القرآن من القسمين الأولين.
إن عدد آيات الأحكام في القرآن 500 آية، وعدد آيات القرآن 6236 آية.
إن فهم الوعد والوعيد، والترغيب والترهيب، والعلم بالله واليوم الآخرº لا يشترط له فهم المصطلحات العلمية الدقيقة، من نحوية وبلاغية وأصولية وفقهية. فمعظم القرآن بيِّنٌ واضح ظاهر، يدرك معناه الصغير والكبير، والعالم والأمي، فحينما سمع الأعرابي قول الله - تعالى -: {فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالأرضِ إِنَّهُ لَحَقُّ مِّثلَ مَا أَنَّكُم تَنطِقُونَ} [(23) سورة الذاريات] قال: من ذا الذي أغضب الجليل حتى أقسم. وحينما أخطأ إمام في قراءة آية النحل {فَخَرَّ عَلَيهِمُ السَّقفُ مِن فَوقِهِم وَأَتَاهُمُ العَذَابُ مِن حَيثُ لاَ يَشعُرُونَ} [(26) سورة النحل] قرأها: من تحتهم، صوب له خطأه امرأة عجوز لا تقرأ ولا تكتب، إن القرآن بيِّنٌ واضح ظاهر، وفهمه وفقهه وتدبره ليس صعبا بحيث نغلق عقولنا، ونعلق فهمه كله بالرجوع إلى كتب التفسير، فنعمم حكم الأقل على الكل فهذا مفهوم خاطئ وهو نوع من التسويف في تدبر القرآن وفهمه.
إن إغلاق عقولنا عن تدبر القرآن بحجة عدم معرفة تفسيره، والاكتفاء بقراءة ألفاظه مدخل من مداخل الشيطان على العبد ليصرفه عن الاهتداء به.
وإذا سلمنا بهذه الحجة فإن العقل والمنطق والحزم والحكمة أنك إذا أشكل عليك معنى آية أن تبادر وتسارع للبحث عن معناها والمراد بها لا أن تغلق عقلك فتقرأ دون تدبر أو تترك القراءة.
المفتاح الأول: حب القرآن..............
يتبع.......
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد