دروس وفوائد تربوية من حديث


بسم الله الرحمن الرحيم

\" إِنَّ مِن الشَّجَرِ شَجَرَةً لا يَسقُطُ وَرَقُهَا وَإِنَّهَا مَثَلُ المُسلِمِ...\"

لقد تنوعت الأساليب التي اتبعها النبي - صلى الله عليه وسلم - في تعليم الصحابة الكرام - رضي الله عنهم -º فكان التعليم والتربية بالقدوة، عن طريق ضرب المثل، التربية بالقصة، بالوصية، بالموعظة، بالملاحظة، بالممارسة والعمل، وعن طريق السؤال وغير ذلك.

دعونا نستعرض أمثلة على أحد هذه الأساليب التربوية، ألا وهو (التعليم عن طريق السؤال): إن طريقة السؤال والجواب، من الأساليب التربوية الناجحة قديماً وحديثاً، وقد تكررت في تعليم النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه في كثير من الأحاديث النبويةº لما فيها من لفت انتباه السامعين وإعداد أذهانهم لتلقي الجواب الصحيح

وهذا الأسلوب يعتبر من أبرز الأساليب التي اتبعها سيدُنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تعليم الصحابة الكرام - رضي الله عنهم -.

وإليكم مثالا: عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال أتدرون ما المفلس قالوا المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع فقال إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار \". [أخرجه الإمام مسلم في البر والصلة (2581) والترمذي في صفة القيامة (2418)]

مثالٌ آخر: وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: \" تدرون من المسلم؟ \" قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: \" من سلم المسلمون من لسانه ويده\"، قال: \" تدرون من المؤمن؟ \" قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: \" من أمنه المؤمنون على أنفسهم وأموالهم، والمهاجر من هجر السوءº فاجتنبه \". [أخرجه الإمامُ أحمدُ في مسنده (6886)].

مثالٌ آخر: عن عبد الله بن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وهي مثل المسلم حدثوني ما هي؟ فوقع الناس في شجر البادية، ووقع في نفسي أنها النخلة، قال عبد الله فاستحييت، فقالوا: يا رسول الله أخبرنا بها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هي النخلة. قال عبد الله: فحدثت أبي بما وقع في نفسي، فقال: لأن تكون قلتها أحب إلي من أن يكون لي كذا وكذا. [البخاري في صحيحه في مواضع، منها: العلم حديث رقم (131)، وفي تفسير القرآن (4698)، ومسلم في صفة القيامة برقم (2811)].

وفي رواية: قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: أَخبِرُونِي بِشَجَرَةٍ, مَثَلُهَا مَثَلُ المُسلِمِ تُؤتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ, بِإِذنِ رَبِّهَا، وَلا تَحُتٌّ وَرَقَهَا؟ فَوَقَعَ فِي نَفسِي أَنَّهَا النَّخلَةُ، فَكَرِهتُ أَن أَتَكَلَّمَ وَثَمَّ أَبُو بَكرٍ, وَعُمَرُ، فَلَمَّا لَم يَتَكَلَّمَا قَالَ النَّبِيٌّ - صلى الله عليه وسلم -: هِيَ النَّخلَةُ. فَلَمَّا خَرَجتُ مَعَ أَبِي قُلتُ: يَا أَبَتَاهُ! وَقَعَ فِي نَفسِي أَنَّهَا النَّخلَةُ، قَالَ: مَا مَنَعَكَ أَن تَقُولَهَا؟ لَو كُنتَ قُلتَهَا كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِن كَذَا وَكَذَا، قَالَ: مَا مَنَعَنِي إِلاَّ أَنِّي لَم أَرَكَ وَلا أَبَا بَكرٍ, تَكَلَّمتُمَا، فَكَرِهتُ. [البخاري في الأدب (6144)].

وفي أخرى، قَالَ: بَينَا نَحنُ عِندَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - جُلُوسٌ إِذَا أُتِيَ بِجُمَّارِ نَخلَةٍ,، فَقَالَ النَّبِيٌّ - صلى الله عليه وسلم -: \" إِنَّ مِن الشَّجَرِ لَمَا بَرَكَتُهُ كَبَرَكَةِ المُسلِمِ \" فَظَنَنتُ أَنَّهُ يَعنِي النَّخلَةَ، فَأَرَدتُ أَن أَقُولَ هِيَ النَّخلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، ثُمَّ التَفَتٌّ، فَإِذَا أَنَا عَاشِرُ عَشَرَةٍ,، أَنَا أَحدَثُهُم فَسَكَتٌّ فَقَالَ النَّبِيٌّ - صلى الله عليه وسلم - هِيَ النَّخلَةُ \". [البخاري في الأطعمة (5448)] وهذا أعم من الذي قبله.

ولنتفيؤ معا الظلال الوارفة لهذا المثال الأخير ولنقطف بعضا من ثمار فوائده ولنتذوق جنى عوائده:

1- في هذا الحديث الشريف تشبيهُ المسلم بالنخلة، وهي الشجرة الطيبة التي ضُربت مثلا لكلمة التوحيد.

قال العلماء: وشبه النخلة بالمسلم في كثرة خيرها، ودوام ظلها، وطيب ثمرها، ووجوده على الدوام، فإنه من حين يطلع ثمرها لا يزال يؤكل منه حتى ييبس، وبعد أن ييبس يتخذ منه منافع كثيرة، ومن خشبها وورقها وأغصانها، فيستعمل جذوعا وحطبا وعصيا ومخاصر وحصرا وحبالا وأواني وغير ذلك، ثم آخر شيء منها نواها، وينتفع به علفا للإبل، ثم جمال نباتها، وحسن هيئة ثمرها، فهي منافع كلها، وخير وجمال، كما أن المؤمن خير كله، من كثرة طاعاته ومكارم أخلاقه، ويواظب على صلاته وصيامه وقراءته وذكره والصدقة والصلة، وسائر الطاعات،... وغير ذلك، فبركة النخلة موجودة في جميع أجزائها مستمرة في جميع أحوالهاº وكذلك بركة المؤمن عامة في جميع الأحوال ونفعه مستمر له ولغيره حتى بعد موته.

والنخلة أصلها ثابت وجذورها ضاربة في الأرضº والمسلم ثابت في عقيدته.

ولا تقتلعها الريحº والمسلم الصادق لا تزلزله أعاصير الفتن، ولا ترده عن عقيدته شبهات التشكيك والتضليل.

وهي عالية باسقةº وكذلك المسلم يتعالى على النقائص والدناءات، ويترفع عن المعاصي والسيئات.

وثمرها طيّبº وما يصدر عن المسلم من العلوم والخير قوت للأرواح مستطاب.

وإذا ضربت بحجر عادت على ضاربها بأطيب الثمر، وكذا المسلم يقابل الإساءة بالإحسان.

ولا يسقط ورقها، وكذلك المؤمن لا تسقط له دعوةº فهو بين ثلاث: فإما أن يستجيب الله له، وأما أن يؤخر إجابته لحكمه يعلمها - سبحانه -، وإما أن يعوّضه عنها ـ يوم القيامة ـ خيرا منها.

2- وفيه دليل على بركة النخل وما يثمره.

3- استحباب حضور الصغار مجالس الكبار ـ إذا كان لهم تمييز وحسن أدب ـ لتنمو مداركهم، وتتسع أفهامهم.

4- إعطاء الصغير حق المشاركة في الحديث والتعبير عما يختلج في صدره، لقول عمر - رضي الله عنه -: \" مَا مَنَعَكَ أَن تَقُولَهَا؟ \" ويفهم منه أنه لو تكلم بذلك لم يمنعه أحد.

5- توقير صغار الصحابة لكبارهمº فابن عمر امتنع من إبداء الإجابة ـ وقد عرفها ـ لئلا يقال بعدُ: \" عرفها صبي ولم يعرفها أبو بكر وعمر \" وما هذا إلا من قوة فهمه وعظيم أدبه - رضي الله عنه -.

وفيه تقديم الصغير أباه في القول، وأنه لا يبادره بما فهمه وإن ظن أنه الصواب.

6- وفيه أن العالم الكبير قد يخفى عليه بعض ما يدركه من هو دونه، لأن العلم مواهب، والله يؤتي فضله من يشاء.

7- امتحان المعلم أذهان الطلبة بما يخفى مع بيانه لهم إن لم يهتدوا إليه بنفسه، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: \" هِيَ النَّخلَةُ \".

8- وفيه إشارة إلى أن الممتحَن ينبغي أن يتفطن لقرائن الأحوال الواقعة عند السؤالº لأن فهمه فرع عن حلّه. لقول ابن عمر ـ كما في رواية أبي عوانة في صحيحه ـ: \" فظننت أنها النخلة من أجل الجمّار الذي أتى به \". [والجمّار: هو ما يؤكل من قلب النخل، ويكون ليّنا].

9- وفيه إشارة إلى أن الممتحِن ينبغي له أن لا يبالغ في التعمية بحيث لا يجعل للمُمتحَن بابا يدخل منه، بل كلما قربه كان أوقع في نفس سامعه.

10-وفيه استحباب الحياء ما لم يؤد إلى تفويت مصلحة، ولهذا تمنى عمر أن يكون ابنه لم يسكت.

وقد بوب عليه البخاري في العلم، وفي الأدب.

11- وفيه دليل أن بيع الجمار جائز، لأن كل ما جاز أكله جاز بيعه، ولهذا بوّب عليه البخاري في البيوع.

12- وفيه دليل على جواز تجمير النخل، وقد بوب عليه البخاري في الأطعمة، لئلا يظن أن ذلك من باب إضاعة المال.

13- وفيه ضرب الأمثال والأشباه لزيادة الإفهام، وتصوير المعاني لترسخ في الذهن، ولتحديد الفكر في النظر في حكم الحادثة.

14- وفيه إشارة إلى أن تشبيه الشيء بالشيء لا يلزم أن يكون نظيره من جميع وجوهه، فإن المؤمن لا يماثله شيء من الجمادات ولا يعادله.

15- وفيه أن الإنسان مجبول (مطبوع)على محبة الخير لنفسه ولولده.

16- وفيه أن الوالد يُسرٌّ بنجابة ولده وحسن فهمه، ويحب أن تظهر فضيلته في الفهم من صغره.

17- وفيه الإشارة إلى حقارة الدنيا في عين عمر - رضي الله عنه -º لأنه قابل فهم ابنه لمسألة واحدة بحمر النعم مع عظم مقدارها وغلاء ثمنها.

أنت ترى إلى هذا الحديث الشريف وما فيه من فوائد تربوية وعلمية، فما بالك بالموروث الهائل الذي جاءنا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكم فيه من نفائس العوائد وعظيم الفوائد، فلنعتصم بحبل الله كما أمرنا الله، ولنسأل الله أن يرزقنا الفهم عنه وعن رسوله - صلى الله عليه وسلم -º فإن الفهم في الدين علامة الهداية والرشادº أخذا من قوله - صلى الله عليه وسلم - \" من يرد الله به خيرا يفقه في الدين \".

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply