ما كان للعرب صناعةٌ سوى ما كانت تغزل نساؤهم، وما كانُوا يحيكونه ويدبغونه في اليمن، والحيرة، ومشارف الشام، وتناثرت بقاعٌ متفرقة يشتغل أهلُها بالزِّراعة، أمَّا الرَّعي فكان مهنة منتشرة-على شقائها-لقلةِ الكلأ ونُدرةِ العشب، وانصرف العَرَبُ إلى التِّجارةِ، فكانت أكبرَ وسيلةٍ, للتكسب والرِّزقِ، وشهدت أرضُ الجزيرة رحلاتهم الدَّائبةَ شمالاً وجنوبًا، صيفـًا وشتاءً، إلى الشام و اليمن، ترويجاً لتجارتهم المهمة، التي كانُوا يعتمدُون عليها، ويُقيمون لها الأسواقَ الشَّهيرةَ:كعكاظ، وذي المجاز، ومجنة، وغيرها, إلا أن تجارتهم هذه، وأسواقهم تلك،كانت تتهددها حروبُهم الدَّائمةُ، ومعاركهم الشرسة، وقبائل متناثرة في الصحراء، لا تعرف لها حرفةً سوى قطع طريق القوافل ونهبهاº لذا فإنَّ تجارتهم الخافتة ما كادت تضيء إلا في الأشهر الحرم، وكان أهلُ الحجاز-العرب واليهود- يتعاطون الرِّبا، ويبالغون فيه مبالغة شديدة، ولا يعتبرونه غُبناً أو منقصة خُلُقٍ,، إنما يرونه تجارةً محضةً، فقد سرت فيهم سريانَ الحياةِ الطبيعيةِ.
أمَّا الأحوالُ الاقتصاديةُ في شبه جزيرة العرب، فقد كانتِ البادية تعتمد على الاقتصاد الرعوي، فالقبائل العربية تستقر في الأماكن التي يتوفر فيها الماء وتصلح لرعي الإبل والأغنام والماعز. وعندما يشح الماء فإنها تضطر للانتقال مما يجعلها في حروب مع بعضها للحصول على المورد الأفضل. وتوجد في شبه جزيرة العرب واحات زراعية متناثرة يستقر فيها السكان لكنها عرضة لغزو البدو لها. ويقوم في المدن نشاط تجاري وزراعي وصناعي، وقد يغلب عليها نوع من هذه النشاطات، فمكة كان يغلب عليها النشاط التجاريº لأنها تقع بواد غير ذي زرع ، وتتحكم بطرق التجارة بين اليمن والشام حيث تمر القوافل محملة بالتوابل والبخور والعطور، وقد استفادت مكة من مكانة الكعبة الدينية عند العرب في حماية قوافلها التجارية وعقد\"الإيلاف\"مع القبائل التي تجتاز ديارها، واشتهرت برحلة الصيف إلى الشام ورحلة الشتاء إلى اليمن.أما المدينة-وكانت تعرف قبل الإسلام بيثرب-فكان يغلب عليها الاقتصاد الزراعي حيث اشتهرت ببساتين النخيل والأعناب والفواكه الأخرى والحبوب و الخضروات.أما الطائف فقد غلبت عليها الزراعة وخاصة بساتين الأعناب والفواكه و الخضروات، وكذلك الصيد حيث تتوافر فيها الحيوانات البرية كالبقر الوحشي والحمار الوحشي والغزلان والظباء والأرانب. وأما اليمامة فاشتهرت بزراعة القمح الذي كان يزيد عن حاجاتها فتصدر منه إلى الحجاز. وأما اليمن ففيها زراعة واسعة ومناطق رعوية طبيعية إضافة إلى قيامها بالنشاط التجاري الكبير بنقل التوابل والبخور والعطور, والأبنوس, والعاج, والحرير, من الهند, إلى بلاد العرب, والشام. وكانت السواحل الشرقية لشبه جزيرة العرب تربط تجارة الصين والهند بالهلال الخصيب (العراق وسوريا).وكانت شبه جزيرة العرب تستورد الدقيق والزيت والأقمشة من الشام، كما تستورد التمور والأُدم من العراق. وقد ساعدت أسواق العرب في الجاهلية على نشاط التبادل التجاري، واشتهرت منها أسواق عكاظ, ومجنَّة, وذي المجاز, ودومة الجندل, ونطاة-بخيبر-وبدر, وحباشة. واستعمل العرب الدينار البيزنطي والدرهم الفارسي في التبادل التجاري،كما استعملوا المكاييل والموازين ومقاييس الطول في عمليات البيع والشراء. أما الصناعة في شبه الجزيرة العربية، فقد اشتهرت اليمن بصناعة البرود اليمانية. وعُرفت المدينة بصياغة الحلي الذهبية والفضية º وصناعة السيوف والرماح والقسي والنبال والدروع والحراب،كما قامت في المدن العربية حرف التجارة, والحدادة, والصياغة, والدباغة، والغزل, والنسيج، والخياطة، والصباغة. ولكن معظم الحرفيين كانوا من الموالي والعبيد ولم يكونوا عرباً. وقد شاع التعامل بالربا في مكة والطائف ويثرب ونجران، ومارسه اليهود وانتقل منهم إلى العرب، وكان على نوعين: ربا النسيئةº وهو زيادة المبلغ على المدين مقابل تأجيل الدفع. وربا الفضل وهو الزيادة التي تترتب على بيع العينات المتماثلة بسبب اختلاف جودتها. وكانَ الرِّبا يُؤخذ أضعافاً مضاعفة، وقد حَرَّمَهُ الإسلامُ بنوعيه،قال-تعالى-{وأحَلَّ اللهُ البيعَ وحرَّم الرِّبا }البقرة 275.وكان العرب يعرفون أنواعاً من المعاملات المالية كالقراض, والمضاربة, والرهن، وكان الغرر يحيط بكثير من عقود البيع والشراء كالمنابذة, والملامسة, والنجش, وبيع الحاضر للبادي. وكذلك كان الاحتكار يدخل في معاملاتهم التجارية، كما تفرض عليها المكوس الباطلة. وقد حرَّم الإسلامُ البيوعَ التي فيها غَرَرٌ أو ضَرَرٌ كَمَا حَرَّمَ الرِّبا والاحتكارَº تحقيقاً للعدلِ بينَ النَّاسِ.فَعَاشَ النَّاسُ في خيرٍ, ورَفَاهِيةٍ, لما تمسكوا بهدي الإسلامِ في سياستِهم واقتصادِهم، وأصابهم الضَّنكُ والضِّيقُ لمَّا تنكبوا الصِّراطَ المستقيمَ.
نستنج مما سبق أن بلاد العرب بأقسامها الآنفة الذكر لم يكن فيها اقتصاد ذو قيمة تُذكَرُº فيغلب عليها أنها بَوَادٍ, صحراويَّةٌ، إلا ما كان من بلاد اليمن فقد كانت بلاداً خِصبةً في الجملةِ, ولاسيما أيام سد مأرب حيثُ ازدهرتِ الزِّراعةُ والفِلاحةُ عامة بصورةٍ, تدعُو إلى العجب، وقد ذكرها في القرآن الكريم إذ قال-تعالى-:{ لقد كان لسبأٍ, في مسكنهم آية ..... } سبأ، الآية:15. فلم يشكروا وأعرضوا عن طاعة الله ورسوله فسلبهم الله-تعالى-ما أعطاهم فخرب سدهم، وأحدبت أرضهم، ورحل عنها أكثرها فالتحق بعضهم بالعراق, وبعضهم بيثرب ومنهم الأوس والخزرج, وآخرون بالشمال والشام. ومع هذا فقد وجدت في اليمن صناعات فاخرة في وقتها كصناعة الكتان, والسلاح من سيوف وحراب ودروع وغيرها. هذا بالنسبة إلى أهل اليمن، أما القبائل العدنانية فكان جلها يعيش في الصحراء ينتجع الكلأ والعشب لماشيته ويعيش على ألبانها ولحومها إلا ما كان من قبائل قريش القاطنين بالحرم فإنهم يعيشون على رحلتي الشتاء إلى اليمن والصيف إلى الشام، وقد امتن الله تعالى ذلك عليهم في قوله : { لإيلاف قريش ... } فكانوا في رغد من العيش، على خلاف غيرهم ، فإنهم كانوا يعيشون على شظف العيش وضيقه، وما كان لقريش من سعة الرزق إنما كان لها من أجل حماها للحرم وتقديسها له، كما هو كرامة الله لأرحام وأصلاب ينتقل فيها رسول الله-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ-.
نتائج واستنباطات من الكلام السابق:
1 بيان أن الاقتصاد في بلاد العرب بصورة عامة لا يُعتَبر شيئاً يُذكَرُ إلى جانبِ غيرِهِ في البلادِ الأُخرى.
2 بيان أنَّ شمال بلاد اليمن كان ذا اقتصادٍ, لا بأس بهº لوجود خِصبٍ, وصناعةٍ,.
3 خراب سد مأرب, وهجرة أهله من بلادهم كان نقمةً إلهيةًº سببها الكفرُ والإعراضُ عن طاعةِ اللهِ ورسولِهِ .
4 بيانُ إكرامِ اللهِ-تعالى-لقريشٍ, بتحقيقِ أهمِّ هَدَفٍ, للإنسان في هذه الحياةِ، وهو الأمنُ من الخوفِ، والإطعام من الجوع.
5 وجوبُ شكرِ اللهِ-تعالى-على نعمِهِ, إذ طلب ذلكَ من قُريشٍ, بقولِهِ:{فليعبدوا رب هذا البيت ... } قريش:الآية:4, والعبادةُ هِيَ الشٌّكرُ, وأعظمُها إقامةُ الصَّلاةِ, فَمَن لم يُصَلِّ مَا شَكَرَ.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد