اليهود يخونون وبعض فوائد غزوة الأحزاب


 بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

فلما كانت ليلة السبت من شوال -سنة 5هـ- بعثوا إلى يهود: أنا لسنا بأرض مقام، وقد هلك الكُرَاع والخف، فانهضوا بنا حتى نناجز محمداً، فأرسل إليهم اليهود أن اليوم يوم السبت، وقد علمتم ما أصاب من قبلنا حين أحدثوا فيه، ومع هذا فإنا لا نقاتل معكم حتى تبعثوا إلينا رهائن، فلما جاءتهم رسلهم بذلك قالت قريش وغطفان: صدقكم والله نعيم، فبعثوا إلى يهود إنا والله لا نرسل إليكم أحداً، فاخرجوا معنا حتى نناجز محمداً، فقالت قريظة: صدقكم والله نعيم. فتخاذل الفريقان، ودبت الفرقة بين صفوفهم، وخارت عزائمهم.

وكان المسلمون يدعون الله تعالى: (اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا)(1)، ودعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الأحزاب، فقال: (اللّهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللّهم اهزمهم وزلزلهم(2)).

وقد سمع الله دعاء رسوله والمسلمين، فبعد أن دبت الفرقة في صفوف المشركين وسرى بينهم التخاذل أرسل الله عليهم جنداً من الريح فجعلت تقوض خيامهم، ولا تدع لهم قِدرًا إلا كفأتها، ولا طُنُبًا إلا قلعته، ولا يقر لهم قرار، وأرسل جنداً من الملائكة يزلزلونهم، ويلقون في قلوبهم الرعب والخوف.

وأرسل رسول الله-صلى الله عليه وسلم- في تلك الليلة الباردة القارسة حذيفة بن اليمان يأتيه بخبرهم، فوجدهم على هذه الحالة، وقد تهيأوا للرحيل، فرجع إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأخبره برحيل القوم، فأصبح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد رد الله عدوه بغيظهم لم ينالوا خيراً، وكفاه الله قتالهم، فصدق وعده، وأعز جنده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، فرجع إلى المدينة.

وكانت غزوة الخندق سنة خمس من الهجرة في شوال على أصح القولين، وأقام المشركون محاصرين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين شهراً أو نحو شهر. ويبدو بعد الجمع بين المصادر أن بداية فرض الحصار كانت في شوال ونهايته في ذي القعدة، وعند ابن سعد أن انصراف رسول الله-صلى الله عليه وسلم- من الخندق كان يوم الأربعاء لسبع بقين من ذي القعدة.

إن معركة الأحزاب لم تكن معركة خسائر، بل كانت معركة أعصاب، لم يجر فيها قتال مرير، إلا أنها كانت من أحسم المعارك في تاريخ الإسلام، تمخضت عن تخاذل المشركين، وأفادت أن أية قوة من قوات العرب لا تستطيع استئصال القوة الصغيرة التي تنمو في المدينةº لأن العرب لم تكن تستطيع أن تأتي بجمع أقوى مما أتت به في الأحزاب، ولذلك قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين أجلى الله الأحزاب: (الآن نغزوهم، ولا يغزونا، نحن نسير إليهم(3))  راجع \" الرحيق المختوم 275- 287).

 

للمزيد راجع:

\"زاد المعاد\" لابن قيم الجوزية (3/269-275)، و\"سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد\" للصالحي (4/363-423)، و\"ابن هشام\" (3/165-183)، و\"عيون الأثر في سيرة خير البشر\" لابن سيد الناس (2/84-102)، و\"السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية\" لمهدي رزق الله أحمد (443-457).

 

الفوائد من غزوة الخندق

1- تضعضع الكفر بعد هذه الوقعة الغليظة، ورست أصول الإسلام واطمأنت دولته، فما انتهت السنة الخامسة للهجرة حتى أصبح المسلمون قوة تفرض نفسها وتذيق المعاندين بأسها. راجع\" فقه السيرة \" محمد الغزالي ص319.

2-  فضل سلمان الفارسي في إرشاده المؤمنين إلى حفر الخندق.

3- تجلي آيات النبوة المحمدية عند حفر الخندق في ثلاثة مواطن وهي: تفتت الصخرة حتى كانت كثيباً مهيلاً، وما أعلنه عند كل بارقة برقت إذ كان ما أخبر به كما أخبر . وإطعام المئات بصاع شعير وجدي من الماعز.

4-  بيان أن هذه الغزوة كانت تمحيصاً للمؤمنين، وكشفاً لِعَوَار المنافقين.

5-  تجلي الرحمة المحمدية في سعيه -صلى الله عليه وسلم-  للصلح مع العدو الغازي ليخفف به على المؤمنين .

6-  جلال موقف سعد بن معاذ في رفضه الاتفاقيَّة إيماناً وتوكلاً وصبراً وصدقاً.

7-  ظهور بطولة علي بن أبي طالب في منازلته عمرو بن ود وقتله إياه في جولات محدودة.

8-  عظم مصاب المسلمين في سعد بن معاذ وهو القائل عند قدومه على المعركة:

 

لبَّث قليلاً يُدرك الهيجا جمل 

 

لا بأس بالموت إذا حان الأجَل.

9-      عظم دور نعيم بن مسعود في تخذيل كل من اليهود والمشركين.

راجع\" هذا الحبيب محمد -صلى الله عليه وسلم- يا محب\" ص 311- 312.

10- مع أن هذه الغزوة لم يكن فيها التحام بين الجيشين، إلا أنه كانت للظروف  التي لا بستها وكثرة المشركين، وغدر بني قريظة، والريح والبرد القارص في هذا الوقت، وحصول المجاعة في المدينة جعلتها من أشد الغزوات امتحاناً للقلوب المؤمنين، وأي وصف أبلغ من قول الله –عز وجل-: {وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب والحناجر وتظنون بالله الظنونا} الأحزاب: 10- 11. ونجم النفاق وظهرت أمراض القلوب، فروي أن بعضهم كان يقول: كان محمد يَعِدُنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر وأحدنا لا يأمن أن يذهب إلى الغائط، وكان المنافقون والذين في قلوبهم مرض يستأذنون في العودة إلى بيوتهم ويتعللون بأن بيوتهم عورة، وقد قال الله –عز وجل-: {وما هي بعورة إن يريدون إلا فرار} الأحزاب: 3، وكما  أن الشدائد تظهر نفاق المنافقين، فهي كذلك تظهر إيمان المؤمنين، فقد قال الله –عز وجل-: {وَلَمَّا رَأَى المُؤمِنُونَ الأَحزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُم إِلَّا إِيمَانًا وَتَسلِيماً}. الأحزاب: 22.

11- كان تأييد الله–عز وجل- لنبيه-صلى الله عليه وسلم- وللمؤمنين في هذه الغزوة للظروف السالفة أعظم تأييد وأتمَّه، تارة بالمعجزات والخوارق والرحمانية، كما حدث في بيت جابر بن عبد الله وحذيفة -رضي الله عنهما-حيث أذهب الله عنه البرد فكان كأنه في حمام من الدفء. وما رأى النبي-صلى الله عليه وسلم- في حفر الخندق وبشر الصحابة به من الفتوحات العظيمة .

12- في هذه الغزوة وكذلك عزوة بدر ظهر فضل التضرع إلى الله-عز وجل-، وكيف أن الأسباب إذا كانت قليلة فيعوضها ويفضل عنها التوكل على الله –عز وجل- القوي المتين رب الأرباب، ومالك الأسباب.

13- في هذه الغزوة كذلك تعليم للقادة، أن لا يتميزوا عن جنودهم، فهذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لو قعد عن حفر الخندق واكتفى بالإشراف والتوجيه لما لامه أحد، ولكنه -صلى الله عليه وسلم- كان يشاركهم في جوعهم، ويربط على بطنه الحجر، وكان يحمل التراب بنفسه -صلى الله عليه وسلم- بأبي هو وأمي.

14- هذه الغزوة يظهر فيها بجلاء غدر اليهود وخيانتهم، وكيف أنهم كانوا السبب في تجميع الأحزاب حول المدينة، ثم في خيانة يهود بني قريظة في أشد الأوقات وأعظمها محنة، فبدلاً من أن يكونوا عوناً للمسلمين بحسب العهد الذي بينهم كانوا حرباً عليهم مع بقية قوى الكفر.  راجع\" وقفات تربوية مع السيرة النبوية\" أحمد فريد ص 253- 256.

15- أهمية الاستشارة في المعركة حيث استشار النبيٌّ-صلى الله عليه وسلم- الصحابةََََ، فأشار عليه سلمان الفارسي-رضي الله عنه- بحفر الخندق يحول بين العدو وبين المدينة. راجع\" زاد المعاد\"(3/271).

 

 


 


1 - رواه أحمد في المسند (3/3)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/136): \"رواه أحمد والبزار وإسناد البزار متصل ورجاله ثقات وكذلك رجال أحمد إلا أن في نسختي من المسند عن ربيح بن أبي سعيد عن أبيه، وهو في البزار عن أبيه عن جده\".

2 - البخاري، الفتح، الجهاد والسير، باب الدعاء بالهزيمة والزلزلة. رقم (2933).

3 - البخاري، الفتح، كتاب المغازي، باب عزوة الخندق وهي الأحزاب، رقم (4110).

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply