{فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيهِ قَالُوا يَا أَيٌّهَا العَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهلَنَا الضٌّرٌّ وَجِئنَا بِبِضَاعَةٍ, مُزجَاةٍ, فَأَوفِ لَنَا الكَيلَ وَتَصَدَّق عَلَينَا إِنَّ اللَّهَ يَجزِي المُتَصَدِّقِينَ، قَالَ هَل عَلِمتُم مَا فَعَلتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذ أَنتُم جَاهِلُونَ، قَالُوا أَئِنَّكَ لأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذَا أَخِي قَد مَنَّ اللَّهُ عَلَينَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصبِر فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجرَ المُحسِنِينَ، قَالُوا تَاللَّهِ لَقَد آثَرَكَ اللَّهُ عَلَينَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ، قَالَ لا تَثرِيبَ عَلَيكُم اليَومَ يَغفِرُ اللَّهُ لَكُم وَهُوَ أَرحَمُ الرَّاحِمِينَ، اذهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلقُوهُ عَلَى وَجهِ أَبِي يَأتِ بَصِيراً وَأتُونِي بِأَهلِكُم أَجمَعِينَ}.
يخبر تعالى عن رجوع إخوة يوسف إليه وقدومهم عليه ورغبتهم فيما لديه من الميرة والصدقة عليهم بردّ أخيهم بنيامين إليهم {وَجِئنَا بِبِضَاعَةٍ, مُزجَاةٍ, } أي ضعيفة لا يقبل مثلها منا إلا أن يتجاوز عنّا قيل: كانت دراهم رديئة. وقيل: قليلة. وقيل حب الصنوبر، وحب البطم ونحو ذلك. وعن ابن عبَّاس: كانت خَلَقَ الغِرَائِرِ والحبال، ونحو ذلك.
{فَأَوفِ لَنَا الكَيلَ وَتَصَدَّق عَلَينَا إِنَّ اللَّهَ يَجزِي المُتَصَدِّقِينَ}{هَل عَلِمتُم مَا فَعَلتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذ أَنتُم جَاهِلُونَ}. {أَئِنَّكَ لأَنتَ يُوسُفُ }.
{قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذَا أَخِي}{قَد مَنَّ اللَّهُ عَلَينَا}، أي بإحسانه إلينا وصدقته علينا، وإيوائه لنا وشدّه معاقد عزنا، وذلك بما أسلفنا من طاعة ربنا، وصبرنا على ما كان منكم إلينا وطاعتنا وبرنا لأبينا، ومحبته الشديدة لنا وشفقته علينا أي فضلك، وأعطاك ما لم يعطنا أي لست أعاتبكم على ما كان منكم بعد يومكم هذا، ثم زادهم على ذلك فقال:
{وَلَمَّا فَصَلَت العِيرُ قَالَ أَبُوهُم إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَولا أَن تُفَنِّدُونِي، قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ القَدِيمِ، فَلَمَّا أَن جَاءَ البَشِيرُ أَلقَاهُ عَلَى وَجهِهِ فَارتَدَّ بَصِيراً قَالَ أَلَم أَقُل لَكُم إِنِّي أَعلَمُ مِن اللَّهِ مَا لا تَعلَمُونَ، قَالُوا يَا أَبَانَا استَغفِر لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ، قَالَ سَوفَ أَستَغفِرُ لَكُم رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ}.
قال عبد الرزاق: أنبأنا إسرائيل، عن أبي سنان، عن عبد الله بن أبي الهذيل، سمعت ابن عبَّاس يقول: {لَولا أَن تُفَنِّدُونِي} أي تقولون: إنما قلت هذا من الفند، وهو الخرف، وكبر السن. قال ابن عبَّاس وعطاء ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة: {تُفَنِّدُونِي} تسفّهون. وقال مجاهد أيضاً والحسن : تهرمّون.
{قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ القَدِيمِ} قال قتادة والسٌّدِّي: قالوا له كلمة غليظة.
قال الله تعالى{أَلَم أَقُل لَكُم إِنِّي أَعلَمُ مِن اللَّهِ مَا لا تَعلَمُونَ} أي أعلم أن الله سيجمع شملي بيوسف وستقر عيني به وسِيرِيني فيه ومنه ما يسرني.
فعند ذلك {سَوفَ أَستَغفِرُ لَكُم رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ}.
قال ابن مسعود وإبراهيم التيمي وعمرو بن قيس وابن جُرَيج وغيرهم، أرجأهم إلى وقت السحر. قال ابن جرير: حدثني أبو السائب، حَدَّثَنا ابن إدريس قال: سمعت عبد الرحمن بن إسحاق يذكر عن محارب ابن دثار قال: كان عمر يأتي المسجد فسمع إنساناً يقول: : {سَوفَ أَستَغفِرُ لَكُم رَبِّي}. وقد قال الله تعالى
قال ابن جرير: حدثني المثنىº قال: حَدَّثَنا سليمان بن عبد الرحمن أبو أيوب الدمشقي، حَدَّثَنا الوليد، أنبأنا ابن جُرَيج، عن عطاء وعكرمة عن ابن عبَّاس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: \"سوف استغفر لكم ربي\"يقول: حتى ليلة الجمعة وهو قول أخي يعقوب لبنيه.وهذا غريب من هذا الوجه وفي رفعه نظر والأشبه أن يكون موقوفاً على ابن عبَّاس رضي الله عنهما.
{فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيهِ أَبَوَيهِ وَقَالَ ادخُلُوا مِصرَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ، وَرَفَعَ أَبَوَيهِ عَلَى العَرشِ وَخَرٌّوا لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأوِيلُ رُؤيَاي مِن قَبلُ قَد جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَد أَحسَنَ بِي إِذ أَخرَجَنِي مِن السِّجنِ وَجَاءَ بِكُم مِن البَدوِ مِن بَعدِ أَن نَزَغَ الشّيطان بَينِي وَبَينَ اخوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ العَلِيمُ الحَكِيمُ، رَبِّ قَد آتَيتَنِي مِن المُلكِ وَعَلَّمتَنِي مِن تَأوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ أَنتَ وَلِيِّ فِي الدٌّنيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسلِماً وَأَلحِقنِي بِالصَّالِحِينَ}.
هذا إخبار عن حال اجتماع المتحابين بعد الفرقة الطويلة التي قيل: إنها ثمانون سنة، وقيل: ثلاث وثمانون سنة، وهما روايتان عن الحسن. وقيل: خمس وثلاثون سنة، قاله قتادة. وقال مُحَمد بن إسحاق: ذكروا أنه غاب عنه ثماني عشرة سنة. قال: وأهل الكتاب يزعمون أنه غاب عنه أربعين سنة.
وظاهر سياق القصة يرشد إلى تحديد المدة تقريباً، فإنَّ المرأة راودته، وهو شاب ابن سبع عشرة سنة، فيما قاله غير واحد، فامتنع فكان في السجن بضع سنين، وهي سبع عند عكرمة وغيره. ثم أخرج فكانت سنوات الخصب السبع، ثم لما امحل الناس في السبع البواقي جاء اخوتهم يمتارون في السنة الأولى وحدهم، وفي الثانية ومعهم أخوه بنيامين، وفي الثالثة تعرّف إليهم وأمرهم بإحضار أهلهم أجمعين، فجاؤا كلهم.
{فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيهِ أَبَوَيهِ}{وَقَالَ ادخُلُوا مِصرَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ}. قيل: هذا من المقدم والمؤخر، تقديره قال ادخلوا مصر وآوى إليه أبويه. وضعفه ابن جرير وهو معذور. وقيل: بل تلقاهما وآواهما في منزل الخيام، ثم لما اقتربوا من باب مصر قال {ادخُلُوا مِصرَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ}. قاله السٌّدِّي: ولو قيل: إن الأمر لا يحتاج إلى هذا أيضاً، وانه ضمن قوله: ادخلوا بمعنى: اسكنوا مصر، أو أقيموا بها
وكان جملة من قدم مع يعقوب من بنيه وأولادهم - فيما قاله أبو إسحاق السبيعي عن أبو عبيدة عن ابن مسعود - ثلاثة وستين إنساناً.
وقال موسى بن عبيدة، عن مُحَمد بن كعب، عن عبد الله بن شداد: كانوا ثلاثة وثمانين إنساناً.
وقال أبو إسحاق عن مسروق: دخلوا وهم ثلثمائة وتسعون إنساناً.
قالوا: وخرجوا مع موسى وهم أزيد من ستمائة ألف مقاتل. وفي نص أهل الكتاب: أنهم كانوا سبعين نفساً وسموهم.
قال الله تعالى: {وَخَرٌّوا لَهُ سُجَّداً} أي سجد له الأبوان والأخوة الأحد عشر تعظيماً وتكريماً، وكان هذا مشروعاً لهم، ولم يزل ذلك معمولاً به في سائر الشرائع حتى حرم في ملّتنا.
{وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأوِيلُ رُؤيَاي مِن قَبلُ}{قَد جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَد أَحسَنَ بِي إِذ أَخرَجَنِي مِن السِّجنِ}. أي بعد الهمِّ والضيق جعلني حاكماً، نافذَ الكلمة، في الديار المصرية حيث شئت {مِن بَعدِ أَن نَزَغَ الشّيطان بَينِي وَبَينَ اخوَتِي} أي فيما كان منهم إليّ من الأمر الذي تقدم وسبق ذكره.
ثم قال: قدرته {إِنَّهُ هُوَ العَلِيمُ الحَكِيمُ} أي بجميع الأمور {
ثم لما رأى يوسف عليه السلام نعمته قد تمت، وشمله قد اجتمع، عرف أن هذه الدار لا يقربها قرار. وأن كل شيء فيها ومن عليها فان. وما بعد التمام إلا النقصان فعند ذلك أثنى على ربّه بما هو أهله، واعترف له بعظيم إحسانه وفضله. وسأل منه - وهو خير المسؤولين - أن يتوفاه، أي حين يتوفاه، على الإسلام. وأن يلحقه بعباده الصالحين. وهكذا كما يقال في الدعاء. \"اللهم أحينا مسلمين وتوفّنا مسلمين\" أي حين تتوفانا.
ويحتمل أنه سأل ذلك عند احتضاره عليه السلام، كما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عند احتضاره أن يرفع روحه إلى الملأ الأعلى والرفقاء الصالحين، من النبيين والمرسلين كما قال اللهم في الرفيق الأعلى - ثلاثا - ثم قضي.
ويحتمل أن يوسف عليه السلام سأل الوفاة على الإسلام منجزاً في صحة بدنه وسلامته، وان ذلك كان سائغاً في ملتهم وشرعتهم. كما روي عن ابن عبَّاس، أنه قال: ما تمنى نبي قط الموت قبل يوسف.
فأما في شريعتنا فقد نهى عن الدعاء بالموت إلاّ عند الفتن، كما في حديث معاذ في الدعاء الذي رواه أحمد \"\"لا يتمنى أحدكم الموت لضرّ نزل به، إما محسناً فلعله يزداد، وإما مسيئاً، فلعله يستعتب، ولكن ليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي\"والمراد بالضر ها هنا ما يخص العبد في بدنه من مرض ونحوه لا في دينه. والظاهر أن نبي الله يوسف عليه السلام سأل ذلك إما عند احتضاره، أو إذا كان ذلك أن يكون كذلك.
وقد ذكر ابن إسحاق عن أهل الكتاب: أن يعقوب أقام بديار مصر عند يوسف سبع عشرة سنة، ثم توفي عليه السلام، وكان قد أوصى إلى يوسف عليه السلام أن يدفن عند أبويه إبراهيم وإسحاق. قال السٌّدِّي: فَصُبِّره وسيَّره إلى بلاد الشام، فدفنه بالمغارة عند أبيه إسحاق وجده الخليل عليهم السلام.
وعند أهل الكتاب: أن عمر يعقوب يوم دخل مصر مائة وثلاثون سنة. وعندهم انه أقام بأرض مصر سبع عشرة سنة، ومع هذا قالوا: فكان جميع عمره مائة وأربعين سنة.
هذا نص كتابهم، وهو غلط إما في النسخة، أو منهم، أو قد اسقطوا الكسر، وليس بعادتهم فيما هو أكثر من هذا، فكيف يستعملون هذه الطريقة ها هنا؟.
وقد قال تعالى في كتابه العزيز: <span style="\"FONT-SIZE:" 10pt;="" font-family:="" tahoma\"="" lang="AR-SA">هذا نصهم فيما رأيته وفيما حكاه ابن جرير أيضاً. وقال مبارك بن فضالة عن الحسن: ألقي يوسف في الجب وهو ابن سبع عشرة سنة، وغاب عن أبيه ثمانين سنة، وعاش بعد ذلك ثلاثاً وعشرين سنة. ومات وهو ابن مائة سنة وعشرين سنة. وقال غيره: أوصى إلى أخيه يهوذا، صلوات الله عليه وسلامه.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد