قانون الهدى والضلال


 

بسم الله الرحمن الرحيم





هدى الله هو الهدى :

قال تعالى : ( ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى) ، أي قل يا محمد إن هدى الله الذي بعثني به هو الدين المستقيم الصحيح الشامل ، وهو الهدى الحقيقي الذي يصح أن يسمى هدى وهو الهدى كله ليس وراءه هدى.

هدى الله هو الإسلام:

وهدى الله الذي هو الهدى ، أرسل به محمداً صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى : ( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق) ، هذا الهدى هو الإسلام الذي فيه الهدى كله ليس وراءه هدى ، قال الزمخشري في قوله تعالى : ( قل إن هدى الله هو الهدى) يعني أن هدى الله الذي هو الإسلام هو الهدى الحق والذي يسمى هدى الله وهو الهدى كله ليس وراءه هدى ، وما تدعون اتباعه أيها اليهود والنصارى ما هو بهدى إنما هو هوى.

من يترك هدى الله يتركه الله وما اختاره :

قال تعالى : ( ومن يشاقق الرسول من بعد منا تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً) ، هدى الله هو الإسلام وهو سبيل المؤمنين ، فمن يشاقق الرسول صلى الله عليه وسلم – أي يعاديه – فلا يتبع الإسلام ويتبع غير سبيل المؤمنين بعد أن تبين له هدى الله فإن الله تعالى يتركه وشأنه وما اختاره لنفسه من ضلال . ومن المعلوم أن ما اختاره لنفسه هو سبيل الضلال لأنه ليس بعد الحق – الإسلام الذي تركه- إلا الضلال ، قال تعالى : ( فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون ) .

تهديد من يتبع غير هدى الله :

هدى الله هو الإسلام وهو الحق الواجب الاتباع وما عداه هو الضلال الواجب تركه والإقلاع عنه ، فمن تمسك به خسر تولي الله له ونصرته إياه وكان من الظالمين ، قال تعالى مخاطباً رسوله صلى الله عليه وسلم والأمر لأمته : ( ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير). قال ابن كثير في تفسيرها: في هذه الآية تهديد ووعيد شديد للأمة عن اتباع طوائف اليهود والنصارى بعدما علموا من القرآن والسنة عياذاً بالله من ذلك. فإن الخطاب مع الرسول والأمر لأمته.

وفي آية أخرى قال تعالى : ( ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذن من الظالمين). والذي جاءه من العلم هو هدى الله وما شرعه له من أمور الإسلام ، فإذا فرض مجرد فرض أن تتبع ما يهواه اليهود والنصارى إنك إذن لمن الظالمين ، فالخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والمراد أمته.

وفي الآية تهديد ووعيد لمن يتبع أهل الباطل في باطلهم وأهوائهم استمالة لهم ، فقد جاء في تفسير المنار بشأن هذه الآية: هذا الخطاب بهذا الوعيد لأعلى الناس مقاماً عند الله تعالى وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هو أشد وعيد لغيره ممن يتبع الهوى ويحاول استرضاء الناس بمجاراتهم على ما هم عليه من الباطل ، فإنه أورده بالخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم مع أن المراد أمته ليعلم المؤمنين أن أتباع أهواء الناس ولو لغرض صحيح هو من الظلم العظيم الذي يقطع طريق الحق ويردي الناس في مهاوي الباطل.

لا حزن ولا خوف على متبع هدى الله :

قال تعالى : ( قلنا اهبطوا منها جميعاً فإما يأتيكم منى هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون). قال ابن كثير في تفسير الآية: أي من أقبل على ما أنزلت به الكتب وأرسلت به الرسل فلا خوف عليهم فيما يستقبلونه من أمر الآخرة ولا هم يحزنون على ما فاتهم من أمور الدنيا.

وفي تفسير المنار : المهتدون بهدى الله تعالى لا يخافون مما هو آت ولا يحزنون على ما فات لأن أتباع الهدى يسهل عليهم سبيل اكتساب الخيرات ويعدهم لسعادة الدنيا والآخرة ، ومن كانت هذه وجهته يسهل عليه كل ما يستقبله ويهون عليه كل ما أصابه أو فقده لأنه موقن بأن الله يخلفه.

طيب العيش لمتبع الهدى ، والعيش الضنك للمعرض عنه :
قال تعالى : ( قال اهبطا منها جميعاً بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى . ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى. قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً ؟ قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى. وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى). فهذه الآيات بينت سنة الله في متبع هداه وسنته في المعرض عنها. والمقصود بهدى الله في هذه الآية كتبه التي أنزلها على رسله لتبليغها للناس. وفسر بعضهم (هدى الله) بأنه القرآن الكريم لما روي عن ابن عباس أنه قال: (أجار الله تعالى تابع القرآن من أن يضل في الدنيا أو يشقى في الآخرة. ثم قرأ هذه الآية).

والواقع أن (هدى الله) يشمل جميع كتبه التي أنزلها الله تعالى على رسله وأمرهم بتبليغ محتوياتها من الهدى للناس ، ولا شك أن القرآن من جملتها ، بل وأفضلها ، وحيث أنه آخرها ، وأن اتباعه هو الواجب دونها ، فبهذا الاعتبار جاز وصح تفسير (هدى الله) في هذه الآية بأنه القرآن الكريم كما هو المروي عن ابن عباس.

سنة الله في متبع هداه ، ودليلها :

قلنا : إن سنة الله في متبع هداه – أي القرآن – هو تمتعه بطيب العيش في الدنيا ، ودليل هذه السنة قوله تعالى : ( فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى). قال ابن عباس : (لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة) ، والضلال في الدنيا الانحراف عن الإسلام ، والشقاء في الآخرة العقاب فيها.

قال الزمخشري في قوله تعالى : ( فلا يضل ولا يشقى) ، والمعنى أن الشقاء في الآخرة هو عقاب من ضل في الدنيا عن طريق الدين فمن اتبع كتاب الله وامتثل أوامره وانتهى عن نواهيه نجا من الضلال ومن عقابه). ولكن نظم الآية وسياقها يتسعان للقول بأن الشقاء المنتفي عن متبع القرآن يشمل انتفاءه عنه في الدنيا والآخرة ، وهذا التفسير هو أحد الوجوه في تفسير قوله تعالى : (فلا يضل ولا يشقى) والذي ذكره الإمام الرازي في تفسيره لهذه الآية ، وأورد على هذا الوجه من التفسير سؤالاً فقال : ( الوجه الثالث - أي في تفسيرها – لا يضل ولا يشقى في الدنيا. فإن قيل: المتبع لهدى الله قد يلحقه الشقاء في الدنيا. قلنا: المراد لا يضل في الدين ولا يشقى بسبب الدين ، فإن حصل الشقاء بسبب آخر فلا بأس).

والواقع أن متبع هدى الله – أي القرآن الكريم – يحيا حياة طيبة كما وعد الله تعالى وكما هو مقتضى سنته ، قال تعالى : ( من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعلمون) ، والشأن بمتبع هدى الله – القرآن الكريم – أنه مؤمن ويعمل الصالحات وإلا لما كان متبعاً للقرآن ، والحياة الطيبة التي يحياها لا يشقى فيها قطعاً ، لأنها تشمل وجوه الراحة من أي جهة كانت كما قال ابن كثير في تفسيره. ولأن الشقاء ينافي الحياة الطيبة التي يتمتع بها متبع القرآن ، فالشقاء إذن منفي عنه في الدنيا ، كما أن الضلال منفي عنه في الدنيا. ولأن متبع هدى الله همه مرضاة الله فهو قانع بما قسمه الله له في الدنيا غير متسخط على ذلك ، لأنه سعيد بما أنعم الله عليه من نعمة الدين ، فهو في عيش طيب رغيد ، لأن تطلعه – بعد أن أنعم الله عليه بالإسلام – إلى ما عند الله لا إلى الدنيا ومتاعها الزائل ، فهو لا يحرص على تحصيله وإن كان لا يرفضه إذا جاءه ولا يأسف إذا فاته فهو في طيب عيش وحياة طيبة قطعاً.

سنة الله في المعرض عن هداه ودليلها :

وأما سنة الله في المعرض عن هداه ، وهي عيشة الضنك ، كما قلنا ، فهذه السنة ودليلها في قوله تعالى : (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً) إلخ ، وذكر الله هو قرآنه أو دينه الإسلام ، والإعراض عنه يعني تركه وعدم اتباعه ، وابتغاء الهدى من غيره. قال ابن كثير رحمه الله تعالى : ( ومن أعرض عن ذكري) أي خالف أمري وما أنزلته على رسولي وأعرض عنه وتناساه وأخذ من غيره هداه.

وهذا المعرض عن هدى الله له المعيشة الضنك أي الضيقة في الدنيا ، لأن الضنك أصله الضيق والشدة. ووجه ضيق معيشته أنه شديد الحرص على الدنيا متهالك عليها وعلى الزيادة منها خائف من انتقاصها ، لا طمأنينة له ولا انشراح لصدره ، بل صدره ضيق حرج لضلاله ، وإن تنعم ظاهره ولبس ما شاء وأكل ما شاء وسكن حيث شاء فإن قلبه ما لم يعمره هدى الله لا يحس بسعادة ولا بطيب العيش. وهذا في الدنيا.

أما في الآخرة فقد مضت سنة الله في الجزاء أنه سيصيبه عقاب المعرضين عن هداه ، ومن هذا العقاب حشره يوم القيامة أعمى لعماه عن آيات الله وهداه ، قال تعالى مخبراً عن هذا الجزاء وسببه : ( ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى. قال رب لم حشرتني أعمي وقد كنت بصيراً. قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى) ، والمعنى أن هذا المعرض عن هدى الله يحشر يوم القيامة أعمى فيقول : ( رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً) أي في الدنيا فيقول الله تعالى له : ( كذلك أتتك آياتنا فنسيتها) أي لما أعرضت عن آيات الله وعاملتها معاملة من لم يذكرها بعد بلاغها إليك فأنت قد عميت عنها لأن من عمي عن شيء نسيه وتركه ( وكذلك اليوم تنسى) أي تترك في العمى كما كنت أعمى عن آيات الله ، جزاء وفاقاً لأن الجزاء من جنس العمل.

وهذا العقاب الذي ينتظر المعرض عن هدى الله هو أشد وأبقى من عذاب الدنيا. وسيصيب أيضاً المسرفين المكذبين بآيات الله ما أصاب المعرضين عن هدى الله من العيش الضنك في الدنيا والعذاب في الآخرة لقوله تعالى : ( وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى).

ومن يعرض عن هدى الله يقيض له شيطاناً :

والمعرض عن هدى الله ، أي القرآن ، يقيض الله له شيطاناً يصاحبه ولا يفارقه ، يزين له عمل الشر يصده عن سبيل الحق ، ويحسب أنه على هدى وصواب ، وبهذا جرت سنة الله في المعرضين عن هداه قال تعالى : ( ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين. وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون).

وجاء في تفسير هاتين الآيتين : أن من يتعامى ويتغافل ويعرض عن ذكر الله أي عن القرآن الكريم وما أنزل الله فيه ، ويأخذ بأقوال المضلين وأباطيلهم ، نقيض له شيطاناً أي نتح له شيطاناً فهو له قرين دائماً لا يفارقه ، يمنعه من الحلال ويبعثه على الحرام وينهاه عن الطاعة ويأمره بالمعصية ويزين له سيئ الأعمال وهذا عقاب له عن إعراضه عن هدى القرآن كما يقال : إن الله تعالى يعاقب على المعصية بمزيد اكتساب السيئات. وإن الشياطين ليصدون أولئك المعرضين عن هدى الله عن سبيل الحق ويحسب أولئك المعرضون عن هدى الله أنهم مهتدون إلى الحق. وهؤلاء الضالون المعرضون عن هدى الله يصدق عليهم قول الله تعالى : ( قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً).

السنن الإلهية ، للدكتور عبدالكريم زيدان، بتصرف ، ص 35-42 .

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply