بسم الله الرحمن الرحيم
لم تكن الأسلحة النووية الإسرائيلية بعيدة عن الاستخدام خلال العقود الثلاثة الماضية، سواء فيما يتصل بالاستعداد للاستخدام، أو التهديد بالاستخدام، فهناك تقارير تنشر على نطاق واسع - منذ منتصف السبعينات - تشير إلى أن إسرائيل قامت بتشكيل قوات نووية على نطاق أوسع مما هو متصور، ولا تزال تجري عمليات تطوير وتوسيع لها، فلم تعد الأسلحة النووية الإسرائيلية مجرد قنابل داخل القبو أو السردابº إذ أصبحت إسرائيل تتصرف عملياً - في إطار معين- كأنها دولة نووية معلنة تمتلك قوات نووية.
فلم يعد هناك غموض أو التباس حول النووي الإسرائيلي، ودول المنطقة تدرك جيداً أنها تواجه من الناحية العملية «قوات نووية»، تم نشر عناصر منها على مسرح العملياتº بحيث أصبحت جاهزة للاستخدام، ومن ثم التهديد بالاستخدام فعلياً.
التلويح بالنووي في حرب 1973:
وفي هذا السياق طرحت حرب تشرين الأول 1973 معظم القضايا الخاصة باستخدامات الأسلحة النووية الإسرائيلية في إدارة الصراعº باعتبارها الحرب العربية النظامية الوحيدة واسعة النطاق التي تشنها البلدان العربية ضد إسرائيل في مرحلة ما بعد امتلاكها السلاح النووي بشكل مؤكّد.
وهناك حالة مؤكدة أخرى هددت إسرائيل فيها باستخدام السلاح النووي، وذلك خلال حرب الخليج عام 1991 عندما بدأ العراق يطلق صواريخ سكود المطورة ضدهاº لكن ما حدث يومها مثَّل نمطاً آخر أكثر بساطةº إذ كان هناك سيناريو محدد واضح للاستخدام يمكن أن تطرح فيه احتمالات نووية، وهو استخدام العراق أسلحة كيميائية ضد إسرائيل.
أما حرب أكتوبر فإن السيناريو مختلفº لأن إسرائيل هددت فعليّاً باستخدام الأسلحة النووية خلال الأيام الأولى من الحرب عام 1973، ووفقاً لمعظم المصادر فإن إسرائيل قامت بإعداد أسلحتها النووية: 13قنبلة من طراز غازاكي حملت على قاذفات «إف 14»، وبعض صواريخ «أرض- أرض» للاستخدام الفعلي، وهناك العديد من التقارير والتحليلات تشير إلى أن إسرائيل يمكنها أن تستخدم أسلحتها النووية في إطار «حرب محدودة»، وليس فقط كأسلحة «الملاذ الأخير» للتعامل مع عدة حالات مثلما حدث في حرب عام 1973:
- فقد أشارت كتابات إسرائيلية مختلفة إلى حالات أكثر تعقيداً لاحتمالات استخدام الأسلحة النووية، لا ترتبط بالضرورة بتقدم القوات العربية في اتجاه حدود إسرائيل، وتعرض القوات الإسرائيلية لما يسمى «حرب إبادة» على إحدى الجبهات، أو اتخاذ الحرب شكل «حرب التصعيد» دون وجود إسرائيلي قادر على إيقاف تطور الحرب في اتجاه هزيمة ساحقةº وهو ما يفسر السلوك النووي الإسرائيلي خلال الحرب لحد كبير، وفي هذا الإطار لم يكن السلاح النووي بعيداً عن حرب السادس من تشرين الأول1973، ولكنه أيضاً لم يكن قريباً منها بدرجة تجعل منه سلاحاً آخر.
- إن أنماط استخدام السلاح النووي لا تقف عند حدود أو مستويات نظرية معينةº فهي تتطور وتتسع لتتلاءم مع أوضاع مختلفةº فالملاذ الأخير ليس هو الاستخدام الوحيد للسلاح النووي.
- إن هناك يقيناً بأن عوامل إستراتيجية تتحكم في استخدام الأسلحة النوويةº لكن هناك أيضاً عوامل ذاتية لا تقل أهمية تتصل بخصوص هيكل قيادة القوة النووية، فالانهيار العصبي، وسوء التقديرº قد يتدخلان في حسابات الاستخدام بدرجات تختلف تبعاً لطبيعة آليات اتخاذ قرار استخدام الأسلحة النووية في الدولة.
والمحصلة هنا: أن أسلحة إسرائيل النووية تستخدم في المنطقة - وبالمعنى العام للاستخدام، ومنذ امتلاك إسرائيل لها وإدراك البلدان العربية لوجودها - بغض النظر عما تعلنه إسرائيل أو لا تعلنه بشأنها.
أما بالنسبة لاحتمالات استخدامها فعليّاً فإنها بحكم خصائصها الفنية قابلة للاستخدام الفعلي، أو لا يوجد ما يمنع من حدوث ذلك فنيّاً، ولكن هناك قيوداً مختلفة تحيط بهذا الاستخدام إلا في إطار حالات قصوى ترتبط بتهديد بقاء إسرائيل، وبالتالي يصعب الحديث عن احتمالات محدودة خارج هذا الإطارº لأنه لا توجد علاقة مباشرة بين امتلاك السلاح واستخدامهº فهناك عوامل وسيطة معقدة تتدخل في العلاقة بين القوة والاستخدام المؤثر.
القيود على النووي:
ولكن ليس معنى كل ما سبق أن الأسلحة النووية الإسرائيلية يتم التعامل معها وكأنها أسلحة تقليديةº فوفقاً لعبارة شهيرة لـ«هنري كيسنجر»: فإنه كلما زادت القوة التدميرية لسلاح معين قل الميل إلى استخدامهº فمن يمتلك الأسلحة النووية لا يمكن أن يلوّح بها كالسيف في كل اتجاه، وفي الوقت ذاته فإن الوضع النووي القائم يشير إلى وجود قيود ومحددات تحيط بإمكانية استخدام هذه الأسلحة.
والسؤال هنا: ما هي أهم القيود والمحددات المفروضة على القدرة النووية الإسرائيلية؟
ذات طابع جيوبوليتيكي:
سبق الحديث عن إمكانية استخدام الأسلحة النووية الإسرائيلية، وأنه ممكن من الناحية الفنية والنظرية، ولكن ما هي حقيقة الواقع الإسرائيلي؟ بمعنى هل هناك ما يمنع إسرائيل من اللجوء لاستخدام قدرتها النووية؟
نعمº لأن إسرائيل تعاني قيوداً جيوبوليتيكية، تتمثل في نقاط الضعف في الموقع الجغرافي، وطول الحدود مع بلدان عربية تحيط بها، وصغر في مساحة الدولة، وافتقادها العمق الإستراتيجي، كما تعاني قيوداً ديموغرافية تتمثل في قلة عدد السكان مقارنة بسكان البلدان العربية، ولا سيما أن هذه القلة تضم سكاناً عرباً فلسطينيين يمثلون حوالي ربع سكان إسرائيل، وهذا له مردود سلبي على إستراتيجيتها العسكرية عامة، وإستراتيجيتها النووية بشكل خاص، ويضاف إلى القيود المعروفة على قدرتها النووية خطوط الأمان للدول المجاورة - في حالة الاستخدام الفعلي بهذه القدرة - مثل إثيوبيا، وتركيا، وإيران، وبعض الدول الأفريقية الأخرى التي تقع خارج دائرة الصراع العربي الإسرائيلي، وخطوط الأمان لسكانها المدنيين، وخطوط أمان المصالح الأمريكية في المنطقة العربية.
المساحة والعمق الإستراتيجي:
إن عامل المساحة ذو تأثير سلبي في الإستراتيجية العسكرية برمتهاº حيث إن مساحة إسرائيل تبلغ 26500 كلم، مقابل 12 مليون كلم للبلدان العربيةº وهو ما يؤدي إلى ضيق في فسحة المناورة لجميع صنوف القوات الإسرائيلية، وهذا سبب وجيه لتمسكها بالأراضي التي احتلتها عام 1967، واتباعها لإستراتيجية نقل المعركة إلى أرض الخصم، كذلك فإن عامل المساحة لا يشجع إسرائيل على اقتناء أسلحة إستراتيجية نوويةº فهي غير كافية لإيواء مثل هذه الأسلحة، ولا يوجد لديها أي حلول إلا الاحتفاظ بالأراضي التي احتلتها عام 1967 لكي تتمكن من استخدام صواريخ أريحا الحاملة للرؤوس النووية.
تقع إسرائيل وسط أربعة بلدان عربية هي: مصر وسوريا والأردن ولبنان، وطول حدودها مع هذه الأقطار حوالي 985 كلمº وهو ما يسهل مهاجمتها من عدة جبهات أولاً، ومن ثم عدم تمكنها من صدّ غارات الفدائيين العرب على طول حدودها، وهذا يسهل عمليات الكوماندوز المسلحين بأسلحة كيميائية تكتيكية لشل قدرة الطواقم النووية الإسرائيلية قبل التمكٌّن من استخدام الأسلحة النووية في القطاعات العربية.
القيود الديموغرافية (السكانية):
هذه القيود الديموغرافية تتداخل وتتشابك مع قيود المساحة والعمق الإستراتيجيº أي أن تطوير الكم لا بد أن يغلب على عامل النوع، فإبطال الرادع النووي برادع نووي عادي أو رادع فوق تقليدي سيضفي على الكم ما كان خسره أمام الكيف.
كما أن التحسين في مجالات الإنذار المبكر العربية والاستخبارات ستقلل من أهمية الضربة المفاجئة النووية، وتعيد للكمية أهميتها، فاتساع مساحة المنطقة العربية، وكثرة سكانهاº يسمح للبلدان العربية باستيعاب الضربة الأولىº وهذه ميزة إستراتيجية تتمتع بها هذه البلدان العربيةº لكن العكس تماماً بالنسبة لإسرائيل، فالضربة الأولى من البلدان العربية حاسمة لإسرائيل، والإبادة واردة من أول ضربة عربية لها بقنابل محدودة العيار، إن القاعدة العامة هي احتمالات تأثر إسرائيل بالإشعاع النووي، والتلوث جراء ضربها أهدافاً قريبةº فاستخدام أي قنبلة ضد سوريا، أو الأردن، أو لبنان سوف يكون له تأثير خطير ومباشر على إسرائيل نفسهاº لأن الإشعاع النووي ينتقل بفعل الهواء إلى مسافات بعيدة، مما يطرح القيد التالي والأخير:
خطوط الأمان النووية:
لو فكرت إسرائيل باستخدام قنابلها فإنها ستراعي أمن الدول المجاورة الواقعة خارج دائرة الصراع العربي الإسرائيلي مثل تركيا وأثيوبياº لأن استخدام قنابل ذرية إستراتيجية في شمال سوريا من شأنه أن يحدث إشعاعات نووية تؤثر في المناطق التركية المتاخمة مع الحدود السورية، وكذلك بالنسبة لأثيوبيا يجب أن تراعي خطوط أمانها في حالة استخدام هذه الأسلحة ضد السودان.
أما بالنسبة لإيران فقد كانت ضمن هذه الدول في عهد الشاهº أي قبل الثورة الإسلامية في نهاية السبعينات، أما الآن فإن إيران تقع ضمن دائرة الأعداء بالنسبة لإسرائيل.
وإسرائيل في هذه الحالة لا تستطيع رماية قنابل أكثر من عيار 200 كيلو طن على مسافة 1000كلمº لأن هذا سيؤثر في البلدان العربية، إما من خلال التأثير المباشر، أو الغبار الذري، أو الإشعاع الذريº كما أن هناك صديقاً أمريكياً في المنطقة، هو النفط العربي، والمصالح الأمريكية المتعددة.
وهذا ما يجعل إسرائيل تتعرض للضغوط الدولية لعدم توقيعها على معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية، هذه الضغوط ستضمن عدم التحول الإسرائيلي إلى الدرع المعلنة، وستبقى حالة الغموض هي السائدةº وهو ما يزيد من درجة الخطورة، فلا يمكن لإسرائيل أن تنصاع لقانون دولي، أو أي معاهدات وضغوط أيّاً كانتº حتى وإن كانت قد وقّعت اتفاقيات، فإنها لا تلزمها بشيء.
وتبقى الجغرافيا هي وحدها المسيطر والحاكم في جميع الأوضاع والأحوال، والمحصلة أنه إذا استطاع التقدم التكنولوجي أن يهمش دور الجغرافياº فإن القدرة النووية الإسرائيلية واستخدامها كعنصر فعال للردع لن تستطيع أن تفلت من قيود الجغرافيا، بل إن هذه القدرة ستبقى أسيرة المساحة المحدودة للدولة الإسرائيلية، وموقعها، وحدودها، وطبيعة وضعها من الناحية الديموغرافية المعقدة.
والمحصلة أن هذه القيود المفروضة على القدرة النووية الإسرائيلية تعتبر حافظاً لإيجاد إستراتيجية عربية فاعلة، وفي الوقت الذي تلعب فيه هذه القيود دوراً في تحجيم حدة التهديد النووي الإسرائيليº فإنها تساهم في عملية تسهيل البدء في اختيار الدرع العربية.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد