في وفاة بابا الفاتيكان.. مؤشرات ودلالات!


 

بسم الله الرحمن الرحيم



لم ينشغل العالم بأحد من باباوات روما في العصور الحديثة قدر انشغالهم بالبابا الحالي يوحنا بولس الثاني، فالبابا البولندي الأصل، الأول من غير الإيطاليين الذي يتولى رئاسة الكنيسة الكاثوليكية الرومانية منذ قرابة أربع عقود، والأصغر سناً يوم تنصيبه (كان في الثامنة والخمسين).

إلا أن وفاة هذا الرمز المسيحي تطرح تساؤلات حول المستقبل والماضي الكنسي الذي يمثله الفاتيكان وشخصية البابا.

في الموقف تجاه المسلمين ينبغي الإشارة بداية إلى جملة من المفاتيح والمؤشرات، من بينها أن بعض المرشحين لخلافة البابا لديهم مواقف يمكن وصفها بالسلبية تجاه العالم الإسلامي، والمؤكد أن عدداً من القضايا العربية والإسلامية ستوضع كملفات ساخنة أمام البابا القادم، ولعل أهمها مدى تأثر حاضرة الفاتيكان بالنزعة المسيحية العنصرية التي تجلت في الولايات المتحدة الأمريكية في السنوات العشرة الأخيرة، فيما عرف باسم اليمين المسيحي المتصهين.

ومن بين تلك الملفات أيضاً قضية الاعتذار المباشر من حاضرة الفاتيكان ومن البابا الجديد للعالم العربي والإسلامي عن فترة الحروب الصليبية، خاصة في ظل ما جرى من اعتذار مماثل لليهود عن إساءة معاملتهم عبر التاريخ، فهل سيعتذر لهؤلاء كما اعتذر لأولئك؟.

والحقيقة أن البابا يوحنا بولس الثاني كان له توجه ومواقف تقدمية بخصوص القضايا العربية عموماً من قبيل تصريحه الأخير \"الحاجة إلى جسور لا جدران\"، الذي انتقد فيه بناء إسرائيل الجدار العازل في الأراضي الفلسطينية.

ربع قرن من تاريخ سيادة البابا الراحل على الفاتيكان قام خلالها بحوالي مئة رحلة دولية، وأصدر حوالي اثنتي عشرة رسالة بابوية، وألقى العديد من الخطب، والتقى بالكثير من الشخصيات، كل ذلك في حقبة من التاريخ شهدت هيمنة أمريكية سياسية، وتوجه الاقتصاد العالمي نحو \"النيو - ليبرالية\".

والقول بأن البابا رفض قبضة النظام العالمي المهيمن والجموح والشطط الأمريكيين صحيح تماماً، لكن لـ\"البابا\" مواقف سياسية عديدة اتصفت معظمها بالاعتدال والتناقض أحياناً.

فقد سبق أن التقى في الفاتيكان مع الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، حيث واجه انتقادات شديدة اللهجة من إسرائيل، وفي يناير/كانون الثاني 1984 أعاد الفاتيكان علاقاته الدبلوماسية مع الولايات المتحدة، والتي كانت قد قطعت في العام 1867م، وقام بأول زيارة من نوعها لبابا إلى كنيس يهودي في روما، كما كان أول بابا يلتقي زعيماً سوفيتياً عندما التقى الرئيس ميخائيل غورباتشوف في الفاتيكان في ديسمبر/ كانون الأول 1989م.

وفي المقابل أقام الفاتيكان في عهده علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، وهو صاحب الاعتراف التاريخي بعدم مسؤولية اليهود عن صلب المسيح.

للبابا الراحل حراك سياسي واضح كان يعتمد باعتقادي على سياسة التوازنات، فقد التقى الزعيم الكوبي فيدل كاسترو، ثم زار كوبا والأردن، وإسرائيل وأراضي السلطة الوطنية الفلسطينية، وعارض الحرب على العراق، وطالب بأن تكون الخيار الأخير، واعتبر الحرب \"هزيمة للبشرية\"، كما اعتذر عن محاكم التفتيش حيث كان الناس يعذبون لدفعهم إلى اعتناق المذهب الكاثوليكي.

هي إذا طبيعة السلطوية الدينية التي تفرض عليه سياسات محددة حتى على صعيد القضايا الاجتماعية مثل: معارضته للشذوذ، وزواج المثليين، والإجهاض.

وقد أثار الكتاب الأخير للبابا يوحنا بولس الثاني جدلاً حاداً في أوساط اليهود والشواذ، وذلك بمقارنته بين الإجهاض والهولوكوست، وبوصفه زواج الشاذين بأنه جزء من أيديولوجية جديدة للشر.

ووصف البابا في كتابه الخامس الذي صدر أمس بعنوان \"الذاكرة والهوية\" الإجهاض بأنه \"إبادة بشكل قانوني\"، يمكن مقارنتها بمحاولات القضاء على اليهود وجماعات أخرى في القرن العشرين.

في هذا السياق لم يكن البابا بعيداً عن سياسة التنصير التي تجري على قدم وساق في الدول الإسلامية والعربية، وليس سراً أن بابا الفاتيكان ألقى خطاباً قبل أشهر بسبعين لغة منها العربية، والتقط هذا الخطاب في أنحاء العالم، ونقل بعض البرامج التنصيرية.

ومن المهم التقاط بعد أفكار هذا \"الحبر\" لمعرفة توجهاته نحو الإسلام، حيث يرى بابا الفاتيكان بعد سقوط الشيوعية أن من مصلحة الكنيسة ومصلحة رجال السياسة توجيه عموم الشعب المسيحي نحو خصم جديد يخيفه به وتجنده ضده، والإسلام هو الذي يمكن أن يقوم بهذا الدور في المقام الأول، وكان البابا يغادر مقره بمعدل أربع رحلات دولية لكسب الصراع مع الأيديولوجيات العالمية وعلى رأسها الإسلام.

ولعل أكبر إنجاز للبابا على صعيد التنصير ونشر المسيحية هو تغلغل هذه الديانة إلى المجتمعات العربية خاصة في الخليج العربي.

فثمة كنائس عديدة في دول الخليج نجح البابا عبر جهده الشخصي ببنائها بعد أن كانت أمراً محظوراً إلى وقت قريب، فهنالك عشرات الكنائس في الإمارات على سبيل المثال، وثمة 14 كنيسة لحوالى مائتي ألف مسيحي معظمهم من الأجانب في الكويت أيضاً.

ومن الحقائق غير المعروفة أن البابا انفق بلايين الدولارات على إرسال المنصرين، وإجراء البحوث، وعقد المؤتمرات، والتخطيط لتنصير أبناء العالم الثالث، وتنظيم وتنفيذ ومتابعة النشاط التنصيري في كل أنحاء العالم، وتقويم نتائجه أولاً بأول.

إن تصنيف علاقة البابا الكاثوليكي باليهود وبالمسلمين كانت تحددها نصوص الوثائق الكنسية الصادرة في عهده، العنصر الرئيسي الأول هو غياب ذكر أي كلمة عن التبشير والتنصير في أي وثيقة ذات علاقة باليهود، مقابل التأكيد أن التنصير جزء لا يتجزأ من سائر النشاطات الكنسية بين أصحاب الديانات الأخرى ولا سيما الإسلام، ويتضح ذلك مثلاً في وثيقة البعثات التبشيرية التي أصدرها البابا يوحنا بولس الثاني في 7/12/199م، أكد فيها أن \"عنصر التبشير جزء لا ينفصل عن طبيعة الحياة المسيحية، وهو الذي يحدّد وجهة الحركة الكنسية\"، والعنصر الرئيسي الآخر الذي يميز ما بين العلاقتين أنه رغم المواقف اليهودية المتطرفة المعروفة تجاه البابا يوحنا بولس الثاني إلى درجة إعلان اللعنة الأبدية عليه عشية زيارته لفلسطين المحتلة، لا تذكر الوثائق الكنسية كلمة واحدة عن الموقف الذي ينبغي اتخاذه من التطرّف اليهودي تجاه المسيحيين وتجاه سواهم على السواء، أما عند الحديث عن الحوار مع المسلمين فيختلف الأمر تماماً.

يمكن القول إن الفاتيكان هو الوجه الديني للعولمة، والتي تهدف في النهاية إلى فرض النموذج الحضاري الغربي على بقية دول العالم، ويتكامل دور الفاتيكان هذا مع دوره القديم في الحروب الصليبية، ثم التنصير الذي تعانق مع الاستعمار الغربي للعالم العربي والإسلامي ولإفريقية ولآسيا، ثم الدور الاستشراقي الذي لا يزال مستمراً، ولكن الفاتيكان يغير أساليبه لتتواءم مع طبيعة العالم المعاصر، ويعتمد مبدأً خطيراً اسمه \"الحوار مع الأديان غير النصرانية\"، ويأتي على رأسها الإسلام، وليس الحوار سوى جزء من ممارسة التنصير والدعوة إلى النصرانية، لذا تطلق بعض المراجع على الكنيسة عبارة \"الشريك الكامل للإمبريالية الغربية\".

ويمكن القول أيضاً في هذا السياق إن علاقة البابا وبوش عكرتها حرب العراق رغم قناعات دينية مشتركة بين الاثنين.

وقد التقى البابا وبوش ثلاث مرات منذ تولي الرئيس الأمريكي منصبه عام 2001م، والرجلان حقيقة يتقاسمان المفهوم ذاته لـ\"ثقافة الحياة\"، فبوش جمهوري محافظ متدين نشأ نشأة بروتستانتينية، ولا يخفي أهمية الدين في حياته الشخصية، ومناهضته الإجهاض بشدة، وكذلك الزواج بين مثليي الجنس، وكذلك الحال بالنسبة للبابا الذي يعد أول بابا يجتاز عتبة كنيس يهودي، ويدخل مسجداً، وهو بحق البابا الذي غير معالم البابوية وطبعها بشخصيته القوية، إذ اتسم عهده بالتسييس، وبالمواقف المحافظة على مستوى النظريات الأخلاقية ما أبعد عنه قسماً من المؤمنين الذين وجدوا هوة بين تعاليمه والحياة المعاصرة وتحدياتها.

وبعد 24 عاماً دخل البابا مجدداً في صلب السياسة العالمية عبر موقفه الرافض تماماً للتدخل الأحادي في العراق، وقد أثارت مواقف البابا المناهضة لغزو العراق سخط السلطات الأمريكية، لكن هذه المواقف تبدو منسجمة مع روحية حبرية يوحنا بولس الثاني التي وضعت السلام والحوار بين الشعوب والديانات في صلب نهجها.

التساؤل المطروح الآن إذاً هو: شكل البابوية الجديد بعد رحيل يوحنا بولس الثاني، ومدى خضوع مؤسسة الفاتيكان للمتغيرات في هذا العالم؟

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply