البعد الإنساني والجمالي في نظام الوقف


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 
أقام المسلمون حضارة الإنسان بعد أن أعدوا إنسان الحضارة، ذاك الإنسان الذي يؤمن بحق كل كائن الحق في الحياة والمتعة والعيش، يحميه ويحافظ عليه، بل يسعى دوما في إيجاده وتحقيقه، لا فرق بين الواجد والفاقد أو بين القوي والضعيف ولا بين الصحيح والسقيم، فما لا يقدر عليه الفرد تكفلت به الجماعة، وما عجز عنه الواحد بمفرده ضمنه له المجتمع الذي يحضنه تحقيقا لمبدأ التكافل الاجتماعي في أرقى صوره وأرفع مستوياته، وإن من أجل أنظمة المال في الإسلام نظام الوقف الذي يعد مفخرة استأثر به التشريع الإسلامي عما سواه.

 

والوقف هو الحبس بمعنى:

حبس مال يمكن الانتفاع به في وجوه الخير والبر مع بقاء الأصل، وقد تسابق المسلمون في تحصيل الأجر، وعمل الخير امتثالا لقوله - تعالى -: (لَن تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبٌّونَ وَمَا تُنفِقُــوا مِن شَيءٍ, فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) [آل عمران/92]، وقد سمت السنة الشريفة مثل هذا العمل صدقة جارية أي يجري ثوابها على صاحبها بعد موته، جاء في صحيح مسلم باب: \"ما يلحق الإنسان من ثواب بعد وفاته\" أن رسول الله (ص) قال: ((إذا مات ابن آدم انقطع عنه عمله إلا من ثلاث: إلا من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له))[رقم1631].

 

والمشهور أن عمر بن الخطاب هو أول من وقف في الإسلام، ثم تتابع الناس حتى قال جابر (ص): ما بقي أحد من الصحابة له مقدرة إلا وقف، وقد اقتدت الأمة بسلفها ولم يبق وجه من وجوه الخير إلا وجدنا المسلمين قد وقفوا له أموالا أو عقارات أو بساتين يصرف من ريعها وخراجها في مصالح الناس العامة، وسدا لحاجة المعوزين والفقراء والأيتام وغيرهم...وفي هذا المقال ما يدعو إلى الإعجاب والفخر بهذه الأمة الشاهدة، ومدى ما وصلت من الرقي والمجد الذي لا يجارى... وإنك لا تجد جانب العطف والرحمة في هذا التكافل والتعاون الذي يلقي بظلاله الوارفة على المجتمع فحسب، بل حتى الجوانب الذوقية والجمالية التي تزهو بها الحياة وتتأنق في حليتها لم تهمل في مجتمع إسلامي أعطى لكل شيء حقه، ورحم الله الشاعر الذي قال:

أفلت شموس الأولين وشمسنا أبدا على أفق العلا لا تغرب وسأكتفي بذكر بعض المجالات الحيوية التي اعتنى بها المسلمون في قمة عطائهم لتطوير الوقف وتوسيع نطاقه.

 

1-صيانة جمال المدن ونظافتها:

فقد كانت هناك أوقاف تدر بأموال كثيرة تصرف في نظافة البلد والطرقات، ففي فاس وقف لرفع الحجارة من الطرقات وإزالة الأذى وتنظيف الأسواق، حتى تجنب الأماكن الخضر، وكانت تخصص مبالغ لشراء أدوات التنظيف، ويعرف هذا النوع من الوقف \"بالمساعي\"، ولما كانت حاجة الإنسان إلى سلوك الطرق والسكك ليلا أيضا فإن من الوقف ما يصرف على السرج لإضاءة المساجد والطرقات والميادين والإنارة العامة، فكانت كثير من بلاد الإسلام تنعم بالإضاءة في شوارعها ومساجدها بينما كانت أوربا تعيش في ظلام، وليس الأمر مقصورا على المدن المشهـورة في التاريخ كفاس أو دمشق، أو القاهرة بل حتى في الأماكن الأخرى مثل: \"أشيقر\" -مدينة بالحجاز- وقد ذكر ابن بطوطة في رحلته أن من الوقف ما كان يرصد في تعديل الطريق ورصفها، تنظيما للسير وحماية المارة من العثار والغبار.

ومن الأوقاف الخيرية التي لا تنقطع ما ينفق في رعاية الحيوانات المسنة والضالة والتي لا مالك لها، حفاظا عليها وعلى جمال المدن، بل وعلى زوارها وعمارها كالوقف المخصص ريعه لمنع الكلاب من دخول مكة وكان ينفق على إطعام الكلاب التي ليس لها صاحب، استنقاذا لها من عذاب الجوع حتى تستريح بالموت أو الاقتناء، وفي مرجة دمشق أماكن مخصصة للحيوانات ترتع فيها بعيدا عن الناس.

وهناك وقف الزبادي في دمشق تحدث عنه ابن بطوطة في الرحلة بحيث كل من كسرت آنيته وتعرض لغضب من أرسله، له أن يذهب إلى إدارة الوقف فيترك المكسور ويأخذ إناء صحيحا بدلا منه ويوجد مثله في تونس وفاس، زيادة على أن هذا الوقف يقدم خدمة إنسانية ويعين على معروف، فإنه أيضا يحافظ على نظافة المدينة من شتات الأواني المتناثرة في الطرق العامة ويمكّن من استرجاعها للاستفادة منها ثانية كما يفعل اليوم في إعادة تصنيع بعض المواد والأغراض المهملة.

 

2- تطهير المدن من مظاهر البؤس والشقاء:

ومن الأوقاف ما يرصد لتطهير الشوارع من الشحاتين المحترفين وحفظ كرامتهم، ولكي يبدو المجتمع بمظهر القوة لا العجز، حتى أقيمت دور العجزة، وأخرى للمعوقين والزمنى والعميان مثل وقف سيدي أبي العباس السبتي يأخذون من ريعه ما يعيشون به على كثرتهم ذكورا وإناثا، وأنشئت دور الغرباء قرب المسجد بهذا الوقف، ويصرف راتب لموظف مهمته أن ينادي كل ليلة: \"هل في البلدة جائع أو غريب؟ \" حتى ينال من هذه الدار ما يحتاجه من عناية ورعاية، وحتى لا تزدحم شوارع المـدينـة بالمـجانين والمجاذيب والمجاذيم كما هو الحال في أكثر بلدان العالم الثالث اليوم اهتم الوقف ببناء دور لهم تحفظهم من الناس وتحفظ الناس منهم، ولك أن تتصور بعد ذلك كيف يبدو المجتمع في أكمل صور العافية والنقاء.

 

3- التقليل من أسباب الحرمان:

وذلك بإدخال السعادة والسرور إلى كل بيت، بتزويج العزاب وتجهيز البنات إلى أزواجهن، وقد وجد في الشام وقف لتزويج الفقيرات، ولا يقف الأمر عند تمكين الفقراء من الزواج، بل لقد أحدث الفكر الإسلامي وقفا خيريا يعنى الأعراس والأفراح يخصص لإعارة الحلي والزينة فيستعير الفقراء منه ما يلزمهم، وبهذا يتيسر للفقير أن يبرز يوم عرسه بحلة لائقة، ولعروسه أن تحلى في حلة رائقة حتى يكتمل الشعور بالفرح وتنجبر الخواطر المكسورة، وكذلك يستغني المتوسط في الثروة عن أن يشتري ما لا طاقة له به كما قال شكيب أرسلان. ولم يقف الحد هاهنا عند الإعانة على التزويج وفقط، بل ثمة عناية لما بعد الزواج خاصة في حالة حدوث أي نزاع أو شجار بين الأزواج، فتغضب الزوجة من زوجها وليس لها مأوى تأوي إليه، فإنها تجد ما يسمى بوقف الغاضبات ويسمى في مراكش بدار \"الدقة\" تذهب إليه الزوجة التي يقع بينها وبين زوجها نفور، وتظل آكلة شاربة إلى أن تزول الجفوة، ولفظ الدقة معناه الجمال والحسن، فهذه الدار تصلح ما فسد وتشوه في العلاقة الزوجية، وليس مستبعدا أن يكون ثمة من يصلح بين الأزواج في مثل هذه الحالة المستعصية.

 

4- نظافة الإنسان حماية المجتمع من الأمراض:

لا شك أن المجتمع النظيف هو رحبة الإيمان وساحته، وأن مجتمع الوساخة هو وكر الشيطان ودهاليزه، لذلك سعى المسلمون إلى توفير أسباب التطهير لكل شخص، ففي تونس وقف للاستحمام مجانا توضع فيه صرر من الدراهم أجرة حمام يأخذها من يرغب في ذلك، ثم إن العناية بالمظهر لا تقل أهمية عن العناية بالباطن كما هو معلوم في تعاليم ديننا، ولذلك كان ظهور المسلم بالثوب الجميل والنظيف أحد الوجوه الخيرية التي اعتنى بها الوقف حيث اتخذ وقف لشراء ثوب جديد بدل ثوب أصابه زيت مصباح أو شيء آخر فلوثه، ويترك الثوب المشوه كي يستخدم في غرض آخر.

 

5- العناية النفسية بالمرضى:

حيث ينفق على عدة مؤذنين من كل رخيم الصوت حسن الأداء، فيرتلون القصائد الدينية طول الليل، بحيث يرتل كل منهم ساعة... تخفيفا عن المريض، وإيناس الغريب الذي ليس له من يؤنسه، وإذا كان ثمة مريض قد برح به اليأس من شفائه، فإن وقف \"خداع المريض\" يقوم بتكليف اثنين من الممرضين أن يقفا قريبا منه، بحيث يسمعهما ولا يراهما فيقول أحدهما لصاحبه: \"ماذا قال الطبيب عن هذا المريض؟ \" فيرد الآخـر: \"إن الطبيب يقول: إنه لا بأس به فهو مرجو البرء ولا يوجد في علته ما يشغل البال\"، ولا يخفى ما للناحية النفسية من أثر في العلاج.

 

6- العيش الرفيه:

يظن البعض أن الإسلام معناه تلك الصورة الباهتة الرافضة لكل جمـيل، النابذة لكل حلو وعذب حيث اشتهر عند كثيرين أن هذا الدين يقوم على الزهد كما يفهمونه هم وذلك بترك اللباس اللين في الصيف ولبس الصوف والخشن من الثياب، وتعذيب النفس بإطعامها الطعام الخشن، فهم لا يذيقونها حلوا ولا يمتعونها بجيد الطعام، ويسقونها الماء الحار في الصيف بدل البارد المريء، وكل هذا افتراء على تعاليم الإسلام السامية، فهذا وقف يعنى بسقي الماء المثلوج في الصيف لعابري السبيل وقد يسقونه بماء الخرنوب (أو الخروب وهو حلو المذاق) أو غيره من الأشربة، ووقف آخر يوزع من ريعه الحلوى في شهر رمضان، إذا كان المسلمون يعنون بتوزيع الحلوى على الفقراء فإن إطعامهم الأساسيات أمر مفروغ منه، بل إن تنويع الغذاء للحفاظ على توازن الجسم كان مما تفرغ له وقف آخر يشترى بريعه سمك تضيق به شواطئ تونس ويوزع على الفقراء.

 

7- الطفولة المحرومة:

هناك وقف لإيواء اليتامى واللقطاء، وآخر لختان أولاد الفقراء، يختن الولد ويعطى كسوة ودراهم، ومن طريف ما وصل إليه هدي المسلمين في هذا الشأن وقف \"نقطة الحليب\" وقفه في قلعة دمشق صلاح الدين الأيوبي، لإمداد الأمهات بالحليب والسكر لتغذية أطفالهن وجعل على أحد أبواب القلعة ميزابا يسيل منه الحليب، وآخر يسيل منه ماء مذاب بالسكر، وعين للأمهات يومين في الأسبوع ليأخذن من الوقف حاجتهن من الحليب والسكر وذلك لرفع مستوى المعيشة وتحسين التغذية.

 

8- تشجيع الأطفال على الحفظ والإبداع:

وجد في تونس وقف للصبيان، يعتني بهم وينمي مهاراتهم بحيث يخصص لهم يوم مخصوص الخميس يسألونهم فيه عن جميع ما قرؤوه في الأسبوع، ويعطونهم بعد ذلك دراهم استنهاضا للهمم وتفريحا للقلوب، ولم أذكر الوقف على العلم من توفير المكتبات والمخطوطات والمصاحف وإنشاء المدارس فهذا موضوع آخر.

 

9- المساحات الخضراء وتوفير العمل:

حيث يصرف خراج وقف مخصص لتوزيع البذار مجانا للمزارعين والفلاحين، ولعل هذا أحد الأسباب التي جعلت المسلمين يعرفون بالنشاط الزراعي المتطور حتى قال سينيوبوس: \"إن المسلمين استعملوا جميع أنواع الزراعة، وحملوا كثيرا من النباتات إلى صقلية وإسبانيا وربوها في أوربا فأحسنوا تربيتها حتى تظنها متوطنة\" وإن مما اشتهر عند الكتاب أن المسلمين يهتمون بشيئين اثنين عند فتح أي بلد في وقت معا هما: بناء المسجد وتنظيم الحقل. كذلك ما يعطى من قرض حسن للتجار، وإنقاذهم من الإفلاس وتنشيطا للحياة التجارية، فكما قيل تسعة أعشار الرزق في التجارة.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply