أغوات الحرمين الشريفين من الزاوية الوقفية

بسم الله الرحمن الرحيم

الأغوات جمع آغاº وهي كلمة فارسيّة الأصل تستعمل لتقدير واحترام الرّجال ذوي المكانة. وتدلّ في بعض استعمالاتها الدّارجة على الأخصياء الذين كانوا يقومون بالخدمة في المسجد الحرام والمسجد النّبويّ الشّريف. ومن المؤكّد أنّ لقب الأغوات لم يكن متداولا في العصور المتقدّمة، ولعلّهم عرفوا بذلك أيام العثمانيّين.

وبالرّغم من التوقّف عن استقبال أغوات جدد منذ سنة 1399هجريّة أي منذ ثمانية وعشرين عاما مضت إلاّ أنّ موضوعهم أثار اهتماما في الآونة الأخيرة. ولعل في السطور التالية ما يلقي بعض الضوء على هذه الطّائفة من الجانب الوقفيّ.

***

قد يرتبط وقف الأوادم لخدمة المساجد تّقرّبا إلى الله - تعالى -بما ورد في القرآن الكريم من قصّة امرأة عمران لمّا حملت بمريم - عليها السلام - وكانت تأمل أن تلد غلاما ـ فنذرت لله - تعالى -ما في بطنها محرّرا من أي أمر دنيوي، مفرّغا لخدمة بيت المقدس. قال الله - تعالى -: {إذ قالت امرأة عمران ربّ إنّي نذرت لك ما في بطني محرّرا فتقبل منّي إنّك أنت السميع العليم. فلمّا وضعتها قالت ربّ إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى}[سورة آل عمران: 35، 36]. ويقول المفسّرون إنّ ذلك كان جائزا في شريعة بني إسرائيل فكانوا ينذرون لله خدّاما من أولادهم. وكان فرضا على أولادهم أن يطيعوهم في نذرهم. وهذا النوع من الأوقاف غير جائز في الملّة المحمّديّةº فلا يصح وقف الحرّ ولا وقف حُرٍّ, نفسه.

أمّا وقف العبيد (الرّقيق) فإنّ عمر بن الخطّاب - رضي الله عنه - أشار على من يليَّ بعده أمر وقفه ـ الذي كان في خيبر ـ أن يشتري من غلّة الوقف رقيقا لخدمة ذلك الوقف.

ويعني كون الأغوات أخصياء أنّهم فاقدون للقدرات الذّكوريّةº وهي حالة قد تكون خلقيّة أو نتيجة تعرّضٍ, لحادث عرضيّº وهاتان الًصّورتان نادرتا الوجود. وقد تُسلب تلك القدرات بفعل فاعل وهو الإخصاءº كما هو حال الغالب الأعم من الأغوات.

وللإخصاء صور عديدة منها: قطع عٍ,رق في الخصيتين قبل البلوغ. ويقال بأن الإغريق والبيزنطيين كانوا يخصون عبيدهم. ولا زال الإخصاء يستعمل ـ بشكل أو بآخر ـ عقابا وحائلاً دون تكرار جرائم جنسيّة معيّنة في الولايات المتّحدة الأمريكيّة على سبيل المثال.

والإخصاء في دين الإسلام مباح بالنسبة للبهائم ومحظور بالنسبة لبني آدم. إلاّ أنّ بعض الملوك والسّلاطين تأوّلوا ذلك الحظر فخصِوا بعض عبيدهم لعدّة أغراض منها توجيههم للخدمة في المسجد الحرام والمسجد النّبويّ.

ولا بد من الاعتراف بأنّ موضوع أغوات الحرمين يحتاج إلى مزيد من البحث والاستقصاء، دون أن يحول ذلك بيننا وبين الاستفادة من المعلومات المتوفّرة حاليّا. وهي تبيّن أنّ كيانهم يتكوّن إجمالا من الأفراد والمرافق الوقفيّة.

***

كان أغوات مكة رقيقا غير أخصياء في عهد معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه -. فهو أول من استخدم الرقيق لخدمة الكعبة المشرّفة. وفي عهد ابنه يزيد صاروا أخصياء. إلا أنّ ذلك لم يستمرّ طوال الدّولة الأمويّة فيما يظهر. وعاد أمرهم في عهد أبي جعفر المنصور العبّاسيّ، واستمرّ الأمر على ذلك. أمّا أغوات المدينة فكانوا رقيقا أخصياء منذ عهد صلاح الدين الأيّوبيّ أول من وقفهم للخدمة في الحرم النّبويّ الشريف.

و في مراحل تاريخية مختلفة أهدى ملوكٌ وأصحاب ثراء بعضا من الأغوات للخدمة في الحرمين الشريفينº تقرّبا إلى الله. ربّما بإخصائهم ـ على جهالة ـ قصدًا وهم صغار، وليس بمستبعد أن يكون منهم فاقد للقدرات الذّكوريّة خلقيّا. ويسري على هؤلاء ما يسري على وقف العبيد من أحكام. فهم صورة من جنس وقف الرقيق.

***

حدث تغيّر على أغوات الحرمين قبل ما يقرب من مائتي سنةº فإنّ أحد الباحثين المهتمّين بالأغوات ـ وهو الدكتور أحمد عبد الرحيم نصر ـ وجد أنّ معظمهم منذ سنة 1814م كان يستقدم من منطقة ولّو (Wallo) بأثيوبيا ومديرية دارفور بالسودان.

وهذا يثير شكّا في عبوديّة معظمهم بعد هذا التّاريخ. إذ لا يعقل أن تنحصر العبوديّة في منطقتين من العالم لهذه الفترة الطويلة من الزمن.

أمّا ما يبرّر كونهم أخصياء وأحرارا في نفس الوقتº فهناك روايتان شفهيّتان

ممّا يتداوله النّاس بهذا الخصوص. تقول إحداهما: إنّ القبائل الحبشية كانت تخصي أبناءها وتقدمهم هدية للحرمين الشريفين لخدمتهما. أمّا الرّواية الثانية فتعيد ذلك لأسباب تتعلّق بصراعات محلّيّةº وأنّ الطّفل في تلك البلاد قد يقع في قبضة أحد أفراد قبيلة مناوئة فيخصيه نكاية وانتقاما. فإذا كُتبت له الحياة بعد ذلك فلا يرى أهله حلا لمشكلته أفضل من أن يتشرّف بالخدمة في الحرمين.

وتبدو الرّواية الثّانية أقرب للفهم والعقل، إضافة إلى اتّساقها بواقعيّة مع عدّة حالات منها إحالة أحد أغوات المدينة وهو ياقوت أغا للتّقاعد سنة 1329 هجريّة، ومنها عزل أحد أغوات مكة وهو عبد الله أغا ثمّ إعادته للكيان بعد سنواتº وذلك أيّام الملك فيصل بن عبد العزيز.

وهناك حالة خروج طوعيّ من السلك الأغواتيº فقد عرف أهل مكة المكرّمة منذ خمسة وثلاثين عاما تقريبا أحد الأغوات جاء من اندونيسيا. فبقي لفترة في سلكهم ثمّ رجع إلى بلاده. مع ملاحظة أنّ اندونيسيا من البلاد التي لا تعرف الإخصاء ولا استعباد البشر أصلا منذ دخول الإسلام إليها قبل أكثر من خمسة قرونº ممّا يرجّح أنّ حالته كانت خلقيّة.

وهذه الحالات تتعارض مع القول بعبوديّتهم أو كونهم أوقافا بشريّة أهداهم أهلهم. مما يمكّننا من القول بأنّ السواد الأعظم من الأغوات منذ مائتي سنة تقريبا لا علاقة لهم بالعبوديّة أو بتجهيز مسبق لتكوين أوقاف آدميّة على الحرمين.

وهكذا فإنّ قيام الأغوات بالخدمة في المسجد الحرام والمسجد النّبويّ الشّريفº فهو ـ إن شاء الله ـ مثل الانضمام لأي عمل مباح. إضافة إلى الشّرف والأجر العظيمين لمن احتسب ذلك منهم عند الله.

 ***

أمّا المرافق الوقفيّة الخاصة بأغوات الحرمين فيبدو أنّها تكونت بكيفية طبيعيّة حين لاحظ بعض أهل الخير من المسلمين ما يقوم به الأغوات من خدمة المسجدين الشّريفينº فأرادوا أن يتقرّبوا إلى الله بوقف عقارات ومزارع ينتج عنها ريع مستمرّ. ولا بعرف بالتحديد تاريخ أول وقف خاص بأغوات الحرمين. إلاّ أنّ حيثيات إحدى الفتاوى التي صدرت في سنة 1373 هجرية عن الشّيخ محمد بن إبراهيم آل الشّيخ مفتي الديار السعوديّة في حينه. تبيّن أنّه كان لهم وقف يعود إلى ثمانمائة سنة.

وأوقاف الأغوات منتشرة في مكة المكرّمة والمدينة المنوّرة وجدة والطّائف والأحساء والبصرة واليمن والمغرب. ولهذه الأوقاف عوائد مجزية تدرّ عليهم مداخيل كبيرةº توزّع عليهم بالتّساوي.

ولكل منهم ـ طوال حياته ـ حقّ التّصرّف فيما يناله من مستحقّاتº الأمر الذي جعلهم يعيشون في رغد من العيش. ومن المهمّ ملاحظة أنّهم اقتنوا الجواري والعبيد ـ الذين عرفوا في الأوساط المحلّية بعبيد الأغوات ـ قبل أن تحرّر الحكومة السعوديّة الرّقيق.

ويقول مرجع تاريخيّ عن أغوات المدينة إنّهم يعيشون جميعهم في أفضل أحياء المدينة شرقي المسجد، ويقال إن أثاث بيوتهم أفخم من أي أثاث آخر في المدينة، والبالغون منهم جميعًا متزوجون من إماء سوداوات أو حبشيات. ويقول المؤرخ المدنيّ الشّريف العيّاشيّ: أنّ لهم ديارا وخدما وأتباعا وضياعا وخيرا وسعة دنيا، ولا يشغلهم عما هم بصدده من خدمة المسجد.

وقد عرف الأغوات بعامة بأعمال الخير ومنهم من عرف بالعلم والتفقه في الدين، وكان من بين (أغوات) المدينة المنورة من اشتهر بعمل الخيرات ومساعدة المحتاجين من الناس فمنهم من بنى المساجد والأربطة والمدارس في المدينة. ويبقى مسجد (الأغا) في حي قباء بالمدينة خير شاهد على ذلك ولا يزال المسجد موجوداً كما وُقف رباط على الفقراء لا يزال يحمل اسم الأغواتº (يلاحظ أنّ كبار المسؤولين في الدولة العثمانيّة كانوا أيضا يعرفون بالأغوات. فربما حدث خلط في هذا الجانب). إلاّ أنّ المؤكّد أنّ أغوات الحرمين جادوا بما وجدوا من خير على أهليهم في بلادهم التي قدموا منهاº فنفعوا أوطانهم. بل إنّ أحدهم استطاع قبل أكثر من ثمانين سنة أن ينشئ وقفا بالمدينة المنوّرة على أهل بعض البلاد الحبشيّة.

***

هناك إشكال يتعلّق بالتّركة التي يعقبها أحد أغوات الحرمين إذا توفّيº ذلك أنّها تعود على البقيّةº إن كان من مكة فللمكّيّين منهم، وإن كان من المدينة فللمدنيّين منهم. حتّى أنّ أحدهم مات قبل سنوات بمكة، وكانت له سيّارة \"كاديلاك\". فبيعت بعد وفاته، ووزع ثمنها على البقيّة بالتساوي.

ويعود هذا الأشكال إلى أنّ أغوات الحرمين وإن كانوا أحرارا في ذواتهم فإنّهم المصدر التّمويليّ الأساس لهم كان يعود إلى المرافق الوقفيّة التي تكوّنت على مرّ السّنين وفق شروط منها أن يتنازل من ينضمّ إليها ـ بعد موته ـ عن جميع ما تحت يده للجماعة ليعود في مجمله إلى أوقافهم ضمانا لبقائها ونموّها. وأنّ الخضوع لهذا الشّرط ممّا أقرّه الملوك والسّلاطين الذين تعاقبوا على حكم الحرمين الشّريفين على مرّ السّنين، وأقرّه الملك عبد العزيز لمّا دخل الحجاز. فقد صدر عنه تقرير ملكيّ مسجّل في كتابة عدل مكة المكرّمة برقم 835 تاريخ 19/4/1346هـ وهذا نصه: \"فبخصوص الأغوات الخاصّين بالحرم المكي فهم بأمورهم الخاصة على ما كانوا عليه ولا يحق لأحد أن يعترض عليهم او يتدخل في شؤونهم\". وفي عام 1355هـ صدر في مكة المكرمة نظام خاص للأغوات: تنص المادة (40) منه على ما يلي: \"إن نظام الأغوات مؤيد بالفرمانات السلطانية وتقارير الملوك المسجلة والمخلّدة بأيديهم، وان تقرير صاحب الجلالة الملك عبد العزيز المسجل لدى كاتب عدل مكة قد جاء مصدقاً لهذه التقارير والفرامانات ومؤيداً للنظام الشامل لأمورهم الخاصة والعامة\". وتنص المادة (42) منه: \"إن رئيس الأغوات وجماعته أمة مستقلة في نظامهم الداخلي، وان هذا الاستقلال الإداري ممنوح لهم بتقرير صاحب الجلالة الملك عبد العزيز المعطى لهم والمنصوص عليه في المادة (40)\".

وبعد وفاة الملك عبد العزيز - رحمه الله - أيد الملك سعود تقرير والده بتقرير ملكي برقم 35 وتاريخ 4/3/1374هـ وهذا نصه: \" أننا نقر أغوات الحرم المكي أن يبقوا على الترتيب والعادة التي يسيرون عليها في أمورهم الخاصة وألا يتعرض لهم في هذه الأمور أو يتدخل في هذه الشئون أحد. \"

وأمّا في هذه الأيّام فإنّ الدّولة وإن أغلقت مجال استقدام أغوات جددº إلاّ أنّها كرّمت الموجودين منهم، ومنحتهم الجنسيّة السعوديّة. ويتلقى كلّ منهم مكرمة ملكيّة كل عام تصلهم عن طريق الرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي. ومرتبات كافية إضافة إلى عوائد أوقافهم.

وعلى العموم فإنّ موضوع أغوات الحرمين لا زال في حاجة لمزيد من البحث من عدة أبعاد. إلاّ أنّ عددهم في الحرمين لا يتجاوز الأفراد. وأصغرهم سنّا في الستّين من عمره.

وإذا انقرضوا فإنّ مآل أوقافهم ستعود لمصالح الحرمين الشّريفين. ولعلّ المسؤولين يبقون على كيانها الوقفيّ لرعاية الرّاغبين في التّطوّع للخدمة بالمسجد الحرام والمسجد النّبويّ وفق أسس أفضل.

ولله الأمر من قبل ومن بعد.