مجالات السياسة الشرعية وتطبيقاتها ( 6 )


بسم الله الرحمن الرحيم

 المقالة الرابعة:

جاء في الحلقة الماضية إيراد تطبيق تقعيدي وصفي، يمكن تنزيله على كثير من قضايا الواقع التي تندرج تحته في كل بلد من البلاد الإسلامية وغيرها.

وفي هذه الحلقة نواصل الحديث إن شاء الله - تعالى - عن صور أخرى من صور الضرب الأول من النوع الثاني، فمن تلك الصور أيضاً:

- تغيٌّر الحكم التطبيقي لتغيٌّر العلَّة التي بُني عليهاº بالنظـر إلى تغير حال الناس أو تغير الحال في محل الحكم.

 

(1) ومن أمثلته التي يذكرها أهل العلم: ما ورد من أمر عثمان - رضي الله عنه - بالتقاط ضوالّ الإبل لمصلحة أهلهاº مع أنَّ النَّصَّ جاء آمراً بتركها (2)º لتغير المصلحة التي بني عليها المنعº فالأمر بتركها في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحقق المصلحة منهº لغلبة الصلاح في الناس حيث تترك ضالة الإبل حتى يجدها ربٌّها.

وأمّا في زمن عثمان - رضي الله عنه - فقد حصل تغيّر في حال الناس أورث خوفاً على أموال الرَّعيَّة من أن تمتدّ إليها يد الخيانةº فرأى عثمان - رضي الله عنه - أن المصلحة حينئذ في الأمر بالتقاطها وتعريفها، كسائر الأموال، ثم تباع، فإذا جاء صاحبها أعطي ثمنها، إذ لم يعد الأمر بتركها يحقق المصلحة منه على الوجه الأصلحº ولو عادت علَّة المنع من الالتقاط كما كانت في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - لعاد الأمر بالمنع من الالتقاط (3).

 

ومن أمثلته المعاصرة: منع بيعِ واقتناءِ أطباق البث الفضائي، ثم الإذن بها بضوابط تتعلق بالمشاهِد والمشاهَدº ثم لمَّا ظهرت القنوات النافعة، لم نجد الفتوى التي تأذن فحسب، بل وجدنا الفتوى التي تحض على الاشتراك في القنوات الصادرة عن لجان شرعية، كقناة المجد، وقناة الناس في وضعهما الحالي

 

ومنها: وقف عمر - رضي الله عنه - لسهم المؤلفة قلوبهم لما نتفت علة التأليف في القوم الذين كانوا يؤلفون إلى بعض عهد الصديق - رضي الله عنه -.

 

ومن أمثلته المعاصرة: مشروعية التقاط لقطة الحرم بغرض تسليمها مباشرة إلى الجهة المختصة بحفظ ما يلتقط من أموال الحجاج والمعتمرين والزوارº لما يترتب على ذلك من تحقيق المقصد الشرعي بحفظ المال، وإمكان إيصاله إلى صاحبه، أو مراجعة صاحبه للجهة المختصة لتسلّم ماله المفقود منها، ولا سيما مع غلبة الظن بفقدها لتركها عرضة للسرّاق وضعاف النفوس ممن يتصيدون غفلة الزائرين وانشغال الطائفين والعاكفين والركع السجود.

 

ومنها: مسألة منع بيعِ واقتناءِ أطباق البث الفضائي، ثم الإذن بها بضوابط تتعلق بالمشاهِد والمشاهَدº وإنَّما منعها من منعها من أهل العلم الكبار في حينه، لانحصار استعمالها في الشرّ في وقتٍ,، وغلبته فيما بعدº ثم لمَّا ظهرت القنوات النافعة، لم نجد الفتوى التي تأذن فحسب، بل وجدنا الفتوى التي تحض على الاشتراك في القنوات الصادرة عن لجان شرعية، كقناة المجد، وقناة الناس في وضعها الحالي، مثلاً، وهذا كلّه من حرص أهل العلم على فتح الذرائع المشروعة، وتشجيع البَدَل المشروع، ونشر الخير نشراً آمناً من الخلط والمزج بالشرّ ما أمكن ذلك.

 

ومنها: مسألة تعليم المرأة في المملكة العربية السعودية تعليما نظامياً، فلم يمنعه شرعاً أحد من العلماء المعتبرين - كما يزعم بعض النَّاس - وغاية ما في الأمر أنَّ الاختلاط - في بعض البلدان - بين الجنسين كان هو السِّمة العامة لتعليم النساء نظاميا في تلك الحقبة التي مُنِع فيها، ولذلك استنكره - حينها - كثير من المواطنين حميَّة وغيرة من غير فتوىº فلمَّا اتفق العلماء والولاة على ضمانات خلو التعليم من مفسدة الاختلاط وتوابعها، مثل قلة الاحتشام وما يترتب عليه -لم يكتف العلماء بالسماح بتعليم المرأة، بل قادوا هم مؤسستها الحكومية، وأشرف عليها مفتي الديار ورئيس القضاة حينها الشيخ العلامة محمد بن إبراهيم - رحمه الله -.

 

- ومن تلك الصور: تغيٌّر الحكم التطبيقي المبني على العرفº لتغير العرف الذي بني عليه الحكم الأول. ومن أمثلته: تعجيل المهر بعضه أو كله، أو تأجيلهº بحسب العرف، وما يترتب على ذلك لدى القضاة، من اعتبار الزوجة ناشزاً أو غير ناشز إن هي امتنعت عن الدخول في طاعة الزوج (4).

 

وهذا الفرق يدركه العلماء ورجال السياسةº ولذلك نجد اللجان الشرعية في حركة حماس الإسلامية، تبني موقفها الحالي من الامتناع عن الصلح على موقف الكيان الصهيوني من عدم الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني الذي هو جزء من الأمة المسلمة في أرضه كلها وماله

 الضرب الثاني: مسائل ثبت في كل واحدة منها أكثرُ من حكم، بنص أو إجماع أو قياسº بحيث يجتهد أولو الأمر في اختيار الأصلح (5) منها - شرعا - للواقعة المماثلة.

 

ومن أمثلته: أحكام المهادنة التي مرّ ذكرها في التطبيق السابق، وكذا الخيارات المصلحية في أحكام الأسرى.

ومن أمثلته المعاصرة: فتوى شيخنا العلامة / عبد العزيز بن عبد الله بن باز - رحمه الله - في الصلح مع اليهود، فقد نال منه بها قومٌ، ظنّاً منهم أنَّ الشيخ قد أخطأ، مع أنَّ فتواه - رحمه الله - جاءت على الأصول الفقهية المعتبرة في مشروعية الصلح بمعنى (الهدنة).

والشيخ - رحمه الله - قد بيّن حرمة الصلح الدائم مع اليهود، وأكَّده في الفتوى ذاتها، وفي بيانه لمراده - رحمه الله - في فتاوى لاحقة (6)، وهذا الفرق يدركه العلماء ورجال السياسةº ولذلك نجد اللجان الشرعية في حركة حماس الإسلامية، تبني موقفها الحالي من الامتناع عن الصلح على موقف الكيان الصهيوني من عدم الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني الذي هو جزء من الأمة المسلمة في أرضه كلها وماله، وهو ما يفسِّر عدم جنوح قيادات الكيان الصهيوني للسلمº بينما لو فعل ذلك، فلن تجد حركة حماس ما يمنعها شرعا من الصلح (الهدنة) مع هذا الكيان.

 

هذا ما ناسب ذكره في هذه الحلقة. وفي الحلقة القادمة سيكون الحديث إن شاء الله - تعالى -عن الضرب الثالث من هذا النوع، وذلك الضرب هو: مسائل ورد بشأنها أحكام شرعية، لكن احتف بها ما يقتضي عدم فعلها، أو استثنائها من أحكام نظائرها. وهو من أهم مجالات السياسة الشرعية وأكثرها تطبيقا في واقعنا المعاصر، ولذلك سأورد إن شاء الله - تعالى -في الحلقة القادة جملة مهمة من التطبيقات العصرية.

والله الموفق.

 

-------------

(1) ينظر: الموطأ، للإمام مالك: ك/الأقضية، ب/ القضاء في الضوال، ح (51).

(2) في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سأله أعرابيُّ: كيف ترى في ضالة الإبل؟ فقال: ((دعها فإن معها حذاءها و سقاءها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يجدها ربها))، رواه البخاري: ك/ اللقطة، ب/ ضالة الغنم، ح(2428)º ومسلم: ك/ اللقطة، في أول أحاديثها ولم يوضع فيه تحت باب، ح (1722).

(3) ينظر: رفع الحرج في الشريعة الإسلامية، لشيخنا د. يعقوب الباحسين: 362.

ومن أمثلته المعاصرة: مشروعية التقاط لقطة الحرم بغرض تسليمها مباشرة إلى الجهة المختصة بحفظ ما يلتقط من أموال الحجاج والمعتمرين والزوار

 (4) ينظر: السياسة الشرعية في الفقه الإسلامي، لعبد الرحمن تاج: 82º و المدخل إلى السياسة الشرعية، لعبد العال عطوه: 45. ونشوز المرأة: عصيانها لزوجها، وامتناعها عنه. ينظر: المصباح المنير، للفيومي: (نشز).

(5)ينظر: إجابة الغزّالي على سؤال المصيصي في: البحر المحيط، للزركشي: 6/258-259º و خطبة ابن حبان لكتابه: المسند الصحيح على التقاسيم والأنواع، وهي في: الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان، لعلاء الدين الفارسي: 55º وينظر: مقدمة أستاذنا د. فؤاد عبد المنعم لكتاب: السياسة الشرعية، لإبراهيم بن يحيى خليفة المشهور بِدده أفندي: 66º ورفع الحرج في الشريعة الإسلامية، لشيخنا د. يعقوب الباحسين: 361º ونظرية الأخذ بما جرى به العمل في المغرب في إطار المذهب المالكي، لعبد السلام العسري: 213.

(6)ولعلّ من أسباب سوء فهم بعض طلبة العلم، عدم إدراكهم للفرق بين مصطلح الصلح في الشريعة الإسلامية، وفي القانون الدولي، وبيانه: أنَّ المراد بـ (الصلح) بالمعنى القانوني الدولي، هو: عقد اتفاق دائم بين الأطراف المتصالحة. بخلاف معنى الصلح في المصطلح الشرعي الذي يعد رديفا للهدنة في المصطلح الشرعي الفقهي الإسلامي وفي القانون الدولي. وقد بينت ذلك بتفصيل في الجواب على سؤال عن حكم التطبيع مع الكيان الصهيوني نشر في موقع المسلم من قبل.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply