بسم الله الرحمن الرحيم
فموضوع المتاجرة في الأسهم موضوع يطول جدا، ولكني سأحاول الاختصار مع جعل العرض عرضا تاريخيا ليسهل متابعة الموضوع. وأسأل الله العون والتوفيق.
الأصل في المتاجرة في أسهم الشركات المساهمة الحل، بشرط كون النشاط الذي تعمل فيه مباحا، وبشرط عدم وجود التمويل الربوي لعملياتها وعدم استثمار فوائض الأموال في الربا. وقد أثيرت بعض المسائل الأخرى غير التمويل الربوي، مثل حكم الشركة المساهمة نفسها، وحكم السهم نفسه، وحكم تداول السهم وفيه نقود أو ديون. ولكنها كانت في الغالب تلقى القبول العام من المفتين والباحثين، ما عدا المسألة المهمة وهي التمويل الربوي.
تنص أنظمة الشركات المساهمة على إتاحة المجال للشركة للحصول على تسهيلات. ويبقى أن دور مجلس إدارة الشركة هو الذي يحدد نوع التسهيلات المستخدمة، فبعض الشركات تأخذ تسهيلات ربوية، وبعضها تأخذ مرابحات إسلامية.
من المهم التأكيد على أن المصدر المهم للحصول على معلومات عن الشركة هو عقد تأسيس الشركة، والنظام الأساسي لها، ونشرة الاكتتاب (في حال كون الشركة تحت التأسيس)، والقوائم المالية التي تنشرها الشركة بين الحين والآخر. وأهم تلك القوائم المالية ما ينشر في نهاية السنة الماليةº لأنها تكون مذيلة بإيضاحات مهمة تبين بعض المصطلحات المالية العامة في القوائم المالية مثل التسهيلات والقروض والودائع وما إلى ذلكº مما يمكن أن يكون له معنيان محرم ومباح.
بناء على ما سبق، وبعد دراسة القوائم المالية لغالب الشركات لم يكن أمام كثير من المفتين إلا أن يحرم تداول أسهم الشركات المساهمة بسبب طغيان التمويل الربوي على عملياتها. وكان هذا هو السائد في الفتوى إلى عهد قريب.
كانت الهيئة الشرعية لشركة الراجحي المصرفية للاستثمار أول هيئة شرعية مؤسسية حسب علمي- تقوممنذ ما يزيد على عشر سنوات- بتجويز تداول أسهم الشركات المساهمة التي تقترض أو تقرض بالربا من باب الرخصة للمسلمين، مع تأكيدهم على أن الربا حرام. وقد رخصت للناس في تلك الأسهم بثلاثة شروط، هي: كون نشاط الشركة مباحا، وأن لا يزيد القرض الربوي عن ثلث رأسمالية الشركة، وأن يطهر نصف ربح القرض الربوي. وقد استدلت الهيئة الشرعية بالقواعد العامة في الشريعة في عموم البلوى ورفع الحرج، والحاجة العامة والتوسعة على الناس في حال طغيان المحرمات في التعاملات. وقد كان ذلك في أكثر من قرار للهيئة الشرعية، أهمها القرار ذو الرقم 183، في 7 شوال 1414هـ، والقرار ذو الرقم 310 في 6 ربيع ثاني 1419هـ. مع تأكيد الهيئة الشرعية في كل القرارات المشار إليها على أن \"جواز التعامل بأسهم تلك الشركات مقيد بالحاجة، فإذا وجدت شركات مساهمة تلتزم اجتناب التعامل بالربا وتسد الحاجة فيجب الاكتفاء بها عن غيرها ممن لا يلتزم بذلك. \"
كانت القرارات المشار إليها تاريخية بمعنى الكلمة، وأوجدت أسواقا ضخمة من المنتجات البنكية القائمة على أسهم تلك الشركات المساهمة التي تنطبق عليها الشروط السابق ذكرها. وأخذت بها فيما بعد بعض الهيئات الشرعية القائمة على بعض البنوك الإسلامية وبعض المفتين. ويدخل في تلك المنتجات: الوساطة في الأسهم، والبيع الآجل لها، والتورق عبرها، وإنشاء الصناديق الاستثمارية الإسلامية، بل وأجازت بعض الهيئات الشرعية صناديق استثمارية بناء على بيع الخيارات في الأسهم تكييفا لها على أنها من بيع العربون (مع تحفظي على بعض ما ذكر). بل صدر في بعض الأسواق العالمية مؤشر للأسهم يعمل حسب تلك الفتوى تقريبا (مؤشر دو جونز للأسهم الأمريكية).
بعد ممارسات مختلفة من البنوك الإسلامية تبين للهيئات الشرعية أن منطلق الفتوى السابق قد أغفل جانبين مهمين: الأول أن كثيرا من المتداولين لا يريد الربح السنوي الموزع، بل يريد المضاربة والاسترباح من تقلبات سعر السهم (يسمى المتاجرة بالأسهم)، والثاني أن جانب الأصول في الشركة (طبيعة استثمارات الشركة) يحتاج ضبطا أكثر. فصدر من الهيئة الشرعية لشركة الراجحي المصرفية للاستثمار قرار جديد، هو القرار ذوالرقم 485 في 23 شعبان 1422هـ، أكد على الشروط الثلاثة السابق ذكرها، وزاد عليها شرطين هما: أن لا يزيد الاستثمار المحرم في الشركة عن 15% من إجمالي الأصول، وأن لا يزيد الجزء المحرم في الربح الموزع عن 5% من إجمالي إيراد الشركة. مع تأكيد الهيئة الشرعية على أن الربا حرام، وأن القرار رخصة تقدر بقدرها وأن المنطلق في النسب المشار لها في الضوابط مسألة اجتهادية بحتة قابلة للتغيير.
مع انتشار الفتوى، وانتشار عمل التدقيق على القوائم المالية للشركات، كثرت الاجتهادات من كل الأطراف. وبدأت سوق الأسهم (ومنتديات الأسهم في الإنترنت على وجه الخصوص) بالتشتت حيال قضية الحلال والحرام في الأسهم. وأصبح كثير من الناس يصنف الشركات إلى ثلاثة أنواع: شركات نقية من الربا (وهي مباحة)، وشركات مشبوهة (وهي الشركات مباحة النشاط التي تقترض بالربا وتودع بالربا ولكن بنسب أقل من النسب التي وضعها العلماء، وهي مباحة على من يرى العمل بالضوابط)، وشركات محرمة (وهي التي تجاوزت نسب مديونياتها الربوية أو استثماراتها المحرمة النسب المذكورة في القرار).
مع كل ما سبق، لا يزال قول جماهير العلماء المعاصرين على حرمة تداول أسهم الشركات المساهمة التي تقترض أو تقرض بالربا، وهو قول غالب الهيئات العلمية على مستوى العالم الإسلامي. ولا أنسى أنني كلفت نحوا من 300 طالب من طلاب المستوى الرابع في كلية الشريعة الفصل الثاني من العام الدراسي 1425 بسؤال العلماء وطلبة العلم الشرعي الذين يعرفونهم عن حكم تلك المسألة، وجاءت ردود تفوق المائتين، ولم أفاجأ كثيرا بالإجابات، حيث كان أكثر من 95% منهم يرون حرمة ذلك.
من الجدير بالذكر أن كثيرا من متعاملي الأسهم (ومنهم من أخبرني بذلك شخصيا أو كتابيا) كان يظن أن مجرد نشر قائمة من بنك إسلامي تعني أن تلك الشركة نقية من التعاملات الربوية. ولم يدر بخلدهم أن تلك الشركات المساهمة تتعامل بالربا أو الاستثمار المحرم. بل كان منهم من يستغرب أن تقوم شركة صناعية أو زراعية أو خدماتية بالاقتراض أصلا، فضلا عن أن يكون ربويا. وكان الظن بأن رأس المال هو المصدر الرئيس لتمويل الشركة. ولم يدر بخلد كثير من المساهمين (وبعض طلبة العلم أيضا) أن الشركات المساهمة (وكثير من الأنشطة التجارية الأخرى) تعمل عبر آلية القروض وتقلل رأس المال إلى أقل حد ممكن.
مع انتشار المرابحات الإسلامية، بفضل الله - تعالى -، ثم بفضل انتشار البنوك الإسلامية، بدأت بعض الشركات المساهمة النظر في أساليب تمويل إسلامية لعملياتها، وإيداع فوائضها في الحسابات التوفيرية الإسلامية (على ما يشوب بعضها من تجاوزات). وبدأت بعض الشركات المساهمة تعلن ذلك التوجه وتبرزه في الصحف والمجلات والنشرات الدعائية. وهي بادرة جيدة، ويجب دعمها من كل أحد، خاصة من المشايخ وطلبة العلم والمساهمين في الشركات. ومن أهم أوجه دعمها أن يقوم المستثمرون الغيورون على إنشاء صناديق لا تعمل إلا في الأسهم النقية.
لكن ذلك أعاد الكرة مرة أخرى في السؤال عن الرخصة التي جاءت من بعض الهيئات العلمية وبعض العلماء، وهل لتلك الرخصة مبرر الآن مع وجود المرابحات الإسلامية، ومع اقتصار كثير من العملاء على المضاربة فقط، بدون النظر في الاستثمار طويل الأجل في أسهم الشركات المساهمة.
والذي يظهر لي أن الرخصة كانت في وقت أحوج ما يكون الناس لها. والآن، ومع الظروف السابق شرحها أرى الرجوع عن تلك الرخصة، وتنبيه المتعاملين مضاربة أن هناك في السوق السعودية وحدها ما يزيد عن خمسة عشرة شركة مساهمة نقية من الربا والاستثمار المحرم. ومن المهم دعم تلك الشركات أكثر من غيرها بعمليات المضاربة التي يقومون بها. وسيكون لذلك العمل دعم لكثير من منتجات البنوك الإسلامية المطروحة، سواء في جانب التمويل أو الاستثمار.
بخصوص وجود موقع على الإنترنت تعرف منه الشركات المساهمة النقية من الربا، فأنا لا أعرف أن هناك شيئا بهذه الخصوص. ولكن المواقع المشهورة على الإنترنت الخاصة بتعاملات الأسهم تقوم أحيانا بنشر بعض الفتاوى الخاصة بذلك. وسأذكر قائمة بها مع بعض الروابط التي نشرت بها شخصيا شيئا من ذلك.
وأما السؤال بخصوص تعامل بعض الناس مع بعض البنوك التي تعمل وفق ضوابط شرعية، أو عبر نافذة إسلامية، فإن الشخص نفسه هو الذي يحدد قناعته في الفتوى. فإن كان يدين الله - تعالى -بفتوى المفتين القائمين على الهيئة الشرعية للبنك، فلا بأس عليه بعد ذلك. وإن كان لا يثق بممارسات البنك، أو لم يقتنع أن الفتوى صحيحة فعليه الخروج من تلك الاستثمارات إلى استثمارات يطمئن لها. فإن تعامل مع بنك أو نافذة إسلامية، وكان يظنها كذلك فتبين له خلاف لك، فأرى أن عليه أن يترك ذلك الاستثمار وليس عليه تطهيرº لأنه عمل ذلك ظانا أنه جائز شرعا.
وأنا شخصيا غير مقتنع من ممارسات كثير مما يسمى \"النوافذ الإسلامية\" بسبب عدم وجود الرقابة الشرعية عليها. بل ثبت لدي أن كثيرا من تلك البنوك تكذب على المتعاملين في جوانب كثيرة، منها ادعاء أن الصندوق إسلامي، أو أن الأسهم التي فيه إسلامية، أو أن عليه رقابة أو غير ذلك. وبعض الصناديق التي يزعم أنها إسلامية تكتفي بالقول إنها لا تستثمر في أسهم البنوك التجارية الربوية.
كذلك القول في حكم من يريد التعامل مع بنك ويسأل عن طبيعة الأسهم، فأقول إن عليه أن يتحرى عن الحكم الشرعي. وقد بينت فيما سبق مآخذ العلماء القائلين بالجواز. وعلى السائل أن يحكم بنفسه. والذي لا شك فيه أن الأبرأ لذمة الشخص أن يبحث عن الشركات المساهمة النقية التي لا تتعامل بالربا، سواء أراد شراءها شراء استثماريا طويل الأجل، أم كان مضاربا، أم كان متورقا بها.
أما حكم تداول أسهم البنوك التجارية السعودية فالذي أراه حرمة تداول أسهم كل البنوك الربوية حتى التي يوجد فيها نوافذ إسلامية، وحتى الآخذة في التحول إلى بنوك إسلامية. ولا يصح في نظري التعامل بتلك الأسهم حتى يعلن البنك أنه قد أكمل أسلمة كل التعاملات الخاصة به في الداخل والخارج، وكان عنده رقابة شرعية فاعلة تدلل على ذلك. أما إن كان البنك إسلاميا وينص نظامه الأساسي على ذلك ففي نظري يجوز تداول سهمهº حتى لو كان غالب أصوله نقود وديون. ومن ذلك أسهم شركة الراجحي المصرفية للاستثمار وبيت التمويل الكويتي وبنك دبي الإسلامي وغيرها.
أما السؤال عن حكم تداول سهم شركة لا يعلم نشاطها فالأصل أن المساهم شريك في الشركة، ولا ينبغي له مثل ذلك الجهل. واستغرب من بعض السائلين حين أسأله عن الشركة التي يسألني عنها ما نشاطها فيجيب بعدم معرفته بذلك. والذي ينبغي له أن يعرف ذلك. ولكن لو لم يعرف ذلك، فهل تبطل شراكته؟ الذي أراه من واقع سوق الأسهم أن ذلك لا يبطل الشركة. وقد تكون من المضاربة المطلقة التي لم يتحدد فيها نشاط. والله أعلم.
أما حكم من تداول أسهم شركة مشبوهة وحصل منها على ربح من الأرباح الموزعة، فإن كان يعمل بفتوى من يرى ذلك، فعليه اتباع الفتوى بإخراج نسبة تطهير حسب ما نصت عليه الفتوى. وإن كان جاهلا للحكم، فهناك قولان في المسألة، وأنا لا أرى أن عليه تطهيراº لأن الله لا يؤاخذ إلا بالعلم، وهو جاهل. ومع ذلك، فالصدقة أمر محبب على كل حال. والصدقة تطفئ غضب الرب - جل وعلا -. وإن كان الربح من جراء زيادة سعر السهم في السوق، وليست من الأرباح الموزعة، فإن العلماء المفتين بجواز ذلك لم يجعلوا عليه شيئا من التطهير.
أما اتباع هيئة شرعية معينة فالأصل فيها أن الشخص مسؤول أمام الله - سبحانه وتعالى -، ولن يغني عنه أحد، \"وكلكم آتيه يوم القيامة فردا\". ولا يصح ما يقوله بعض العوام من جعل العلماء وفتاواهم حرزا من النار. فالعالم يفتي حسب ما يظهر له. ولكن الشخص مطالب بطلب العلم، والسؤال عما يشكل عليه ممن يثق في علمه وورعه وفهمه للموضوع الذي يفتي فيه. وكم اتصل علي أناس لا يرون العمل بفتوى المرخصين في الشركات المساهمة التي تقترض بالربا، ويقولون عن أنفسهم إنهم عوام، ولكنهم لم يستسيغوا العمل بتلك الفتوى. وكنت أجيبهم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: \"استفت قلبك ولو أفتاك الناس وأفتوك. الأثم ما حاك في النفس وكرهت أن يطلع عليه الناس\". وعليه، فلا بد من قناعة الشخص المسلم بالفتوى التي يعمل بها، ولا يصح له تتبع الرخص.
وبعض الناس يفرق بين المضاربة وبين الاستثمار طويل الأجل، ويقول: إن المضارب لا عليه إن اشترى أسهم شركة تقترض أو تقرض بالربا. والذي أرد به على هؤلاء أن أسألهم: ما المسوغ الشرعي لك في ربح السهم في حال ارتفاعه؟ فلن يكون له إجابة إلا أن يقول: إنني شريك في تلك الشركة. وكذلك أقول له: ماذا لو خسرت الشركة بعد أن اشتريت بدقائق، هل تستطيع أن تنفي صلتك بالشركة، حتى لا تتحمل أي خسارة؟ طبعا لن يستطيع ذلك، وسيكون عليه من الخسارة ما على بقية حملة الأسهم الاعتيادية لتلك الشركة المساهمة. بل لو حدث للشركة اندماج مع شركة أخرى، أو لو بيعت على شركة أخرى، أو لو أفلست، أو سحبت من التداول أو سحب ترخيصها بالعمل، لكان لكل ذلك أثر على المضارب وعلى المستثمر على وجه السواء. ومن ثم، فلا فرق هنا بين المضارب وبين المستثمر. بل نرى أن غالب التأثيرات القوية في قيمة السهم تحدث حين زيادة رأس المال، أو حين قرب نهاية السنة وتوقع الأرباح. والذي سبب ذلك الإشكال أن المفتين بجواز تداول أسهم الشركات المساهمة التي تقترض وتقرض بالربا أوجبوا التطهير على مالك السهم في حال حصوله على ربح من الشركة (حسب التفصيل الذي وضعوه). وقالوا إن المضارب ليس عليه شيء من التطهير بحكم أن التطهير على الربح الموزع، إلا أن أصدرت الشركة أرباحا والسهم في يد الشخص المضارب فيجب عليه التطهير. ولكن يجب أن لا يفهم من هذا أن المضارب له أن يتعامل بكل الشركات المساهمة التي تقترض بالربا بغض النظر عن الضوابط التي وضعها المجيزون لذلك.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد