الفيض في حكم الطلاق في الحيض ( 1-3 )


بسم الله الرحمن الرحيم 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وأمينه على وحيه، وأرسله الله رحمة للعالمين وبشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وأزال الله به الغمة فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين..

أما بعد:

فإن الأحكام المتعلقة بالطلاق في الحيض، خاصة حكم وقوع الطلاق أو عدم وقوعه من المباحث الجديرة بالعناية والاهتمام والتي تدعو الحاجة إلى بحثها بحثاً مستفيضاً، لذا رأيت أن أجمع إلى أمهات المؤلفات، ويجد فيها القارئ بحول الله بغيته وأمنيته وقد أسميته (الفيض في تحقيق حكم الطلاق في الحيض) وهذا الموضوع كما لا يخفى على طلبة العلم قد بحثه غير واحد من أهل العلم في مؤلفاتهم ومنهم على سبيل المثال لا الحصر، شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية(1).وتلميذه ابن القيم(2)، وابن حزم في المحلى(3)، وابن حجر(4) في الفتح والصنعاني(5) في سبل السلام والشوكاني في نيل الأوطار(6).

الأحكام المتعلقة بالطلاق في الحيض، خاصة حكم وقوع الطلاق أو عدم وقوعه من المباحث الجديرة بالعناية والاهتمام والتي تدعو الحاجة إلى بحثها بحثاً مستفيضاً، لذا رأيت أن أجمع إلى أمهات المؤلفات

وأحمد شاكر وغيرهم(7) إلا أنني أريد جمع الأدلة وبسط القول في هذا الموضوع مع التحقيق والترجيح خاصة في مسألة وقوع الطلاق في الحيض أو عدم وقوعه وذلك على النحو التالي:

1 ذكر من قال بوقوع الطلاق في الحيض أو عدم وقوعه.

2 استقصاء الأدلة لكل من الفريقين ومناقشة ما يحتاج منها إلى مناقشة.

3 الاعتناء بالأحاديث الواردة فيها وتخريج ما يحتاج منها إلى تخريج مما لم يكن في الصحيحين أو أحدهما، مع بيان وجه الدلالة من كل دليل، ومناقشة وجه الدلالة من المخالف إن وجدت.

4 ذكر منشأ الخلاف وثمرته في هذه المسألة وفي غيرها من المسائل المتعلقة بالطلاق في الحيض.

5 حكمة الشرع فيما نهى عنه أو أمر به مما يتعلق بتلك المسائل.

6 الخروج من كل مسألة في هذا الموضوع بترجيح مع التوجيه.

 

معنى الطلاق.

معناه في اللغة:

الطلاق في اللغة له عدة معان منها التخلية والإرسال يقال طلقت الناقة إذا سرحت حيث شاءت وحبس فلان في السجن طلقاً بغير قيد، وأطلقه فهو مطلق وطليق: سرحه فهو رفع القيد مطلقاً(8) ومنه الطلاق المعروف، قال الجوهري في الصحاح، وطلق الرجل امرأته تطليقاً، وطلقت هي بالفتح تطلق طلاقاً فهي طالق وطالقة أيضاً قال الأعمش: أجارتنا بيني فإنك طالق.

 قال الأخفش: لا يقال طلقت بالضم، ورجل مطلاق أي كثير الطلاق للنساء، وكذلك رجل طلقه مثال همزةٍ,.

وناقة طالق ونعجة طالق أي مرسلة ترعى حيث شاءت، والطالق من الإبل التي يتركها الراعي لنفسه لا يحتلبها على الماء يقال: استطلق الراعي ناقة لنفسه(9).

 

معناه في الشرع:

أما تعريف الطلاق في الشرع فمعناه متفق عليه بين الفقهاء على اختلاف مذاهبهم وإن تفاوتت ألفاظهم غير أن بعضهم يضيف بعض القيود الخاصة باللفظ.

قال الكمال بن الهمام في فتح القدير: وفي الشرع يعني معناه في الشرع: رفع قيد النكاح بلفظ مخصص(10).

وعرفه المالكية: بأنه صفة حكمية ترفع حلية تمتع الزوج بزوجته موجباً تكررها مرتين زيادة على الأولى للتحريم(11).

وعرفه الشافعية والحنابلة: بأنه حل قيد النكاح(12) وبناءً على ما تقدم يتبين لنا أن معناه في الشرع ينصرف إلى حل القيد المعنوي وهو في المرأة.

 

تعريف الحيض.

تعريفه في اللغة:

الحيض في اللغة السيلان يقال: حاض الوادي: إذا سال، وحاضت الشجرة إذا سال صمغها قال الجوهري في الصحاح، حاضت المرأة تحيض حيضاً ومحيضاً فهي حائض وحائضة أيضاً، عن الفراء، وأنشد:

كحائضة يزني بها غير طاهر.

ونساء حيض وحوائض، والحيضة المرة الواحدة، والحيضة بالكسر الاسم، والجمع الحيض، والحيضة، أيضاً: الخرقة التي تستثفر بها المرأة. قالت عائشة - رضي الله عنها -: (ليتني كنت حيضة ملقاة) وكذلك المحيضة، والجمع المحائض واستحيضت المرأة أي استمر بها الدم بعد أيامها فهي مستحاضة، وتحيضت، أي قعدت أيام حيضها عن الصلاة، وفي الحديث: تحيَّض في علم الله ستاً أو سبعاً، وحاضت السمرة حيضاً وهي شجرة يسيل منها شيء كالدم(13).

هذا وقد نقل النووي - رحمه الله - في المجموع عن صاحب الحاوي أن للحيض ستة أسماء وردت في اللغة أشهرها الحيض، والثاني الطمث، والثالث العراك، والرابع الضحك، والخامس الإكبار، والسادس الإعصار(14).

 

معناه في الشرع:

الحيض في الشرع: اختلفت فيه عبارات الفقهاء - رحمهم الله - غير أن المعنى متقارب.

فقد عرفه الكاساني الحنفي بأنه اسم لدم خارج من الرحم لا يعقب الولادة مقدر بقدر معلوم في وقت معلوم فلا بد من معرفة لون الدم وحاله ومعرفة خروجه ومقداره ووقته(15).

وعرفه المالكية: بأنه الدم الخارج من الفرج على عادة الحيض من غير علة ولا نفاس(16).

وعرفه الشافعية: بأنه دم يرخيه رحم المرأة بعد بلوغها في أوقات معتادة(17).

وعرفه الحنابلة: بأنه دم طبيعي يخرج مع الصحة من غير ولادة من قعر الرحم يعتاد أنثى إذا بلغت في أوقات معلومة(18).

وبناءً على ما تقدم فالحيض هو الدم الخارج من أقصى رحم المرأة في حال صحتها وبلوغها من غير ولادة ولا مرض ولونه عادة أسود ذو رائحة كريهة.

 

حكم الطلاق في الحيض.

الطلاق في الحيض طلاق بدعي مخالف للسنة وقد أجمع العلماء - رحمهم الله - على ذلك.

قال ابن المنذر ما نصه: (وأجمعوا على أن الطلاق للسنة: أن يطلقها طاهراً قبل عدتها(19) بل قد ذكر النووي وابن قدامة الإجماع على تحريمه).

قال - رحمه الله - في شرح صحيح مسلم ما نصه: (أجمعت الأمة على تحريم طلاق الحائض الحائل بغير رضاها فلو طلقها أثم)(20).

وقال ابن قدامة في المغني (وأما المحظور) فالطلاق في الحيض أو في طهر جامعها فيه أجمع العلماء في جميع الأمصار وكل الأعصار على تحريمه ويسمى طلاق البدعة(21).

 

الأدلة على تحريم الطلاق في الحيض:

قال - تعالى -: (يَا أَيٌّهَا النَّبِيٌّ إِذَا طَلَّقتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) (الطلاق: من الآية1).

قال ابن جرير في تفسيره حدثنا أبو كريب قال: حدثنا ابن إدريس قال سمعت الأعمش عن مالك بن الحارث عن عبد الرحمن بن يزيد عن عبد الله قال: الطلاق للعدة طاهراً من غير جماع وروى ابن جرير أيضاً بسنده عن عكرمة عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أنه كان يرى طلاق السنة طاهراً من غير جماع وفي كل طهر وهي العدة التي أمر الله بها.

ومن الأدلة على تحريم الطلاق في الحيض ما جاء في الصحيحين وغيرهما عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أنه طلق امرأته وهي حائض فسأل عمر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال له: مره فليراجعها ثم ليتركها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء(22).

وفي رواية لمسلم في قصة طلاق ابن عمر لزوجته أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ليراجعها فردها وقال: إذا طهرت فليطلق أو يمسك قال ابن عمر وقرأ النبي - صلى الله عليه وسلم -: (يَا أَيٌّهَا النَّبِيٌّ إِذَا طَلَّقتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ)(23) وفي رواية لمسلم أيضاً عن سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر قال: طلقت امرأتي وهي حائض فذكر ذلك عمر للنبي - صلى الله عليه وسلم - فتغيظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال مره فليراجعها حتى تحيض حيضة أخرى مستقبلة سوى حيضتها التي طلقها فيها فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهراً من حيضتها قبل أن يمسها فذلك الطلاق للعدة كما أمر الله، وكان عبد الله طلقها تطليقة واحدة فحسبت من طلاقها وراجعها عبد الله كما أمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(24).

فهذه الأدلة واضحة الدلالة على تحريم الطلاق في الحيض، ولهذا تغيظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لطلاق ابن عمر في الحيض ولا يغضب - صلى الله عليه وسلم - إلا إذا كان حراماً ويدل على الحرمة أيضاً الأمر بإمساكها بعد المراجعة ثم يطلقها في الطهر.

هذا وليعلم أن تحريم الطلاق في الحيض خاص بالمدخول بها أما من لم يدخل بها فيجوز طلاقها حائضاً وطاهراً قال ابن القيم - رحمه الله - ما نصه: وأما من لم يدخل بها فيجوز طلاقها حائضاً وطاهراً كما قال - تعالى -: (لَا جُنَاحَ عَلَيكُم إِن طَلَّقتُمُ النِّسَاءَ مَا لَم تَمَسٌّوهُنَّ أَو تَفرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً) (البقرة: من الآية236).

وقال - تعالى -: (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) (الطلاق: من الآية1)، وهذه لا عدة لها وبينه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: \"فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء\" ولولا هاتان الآيتان اللتان فيهما إباحة الطلاق قبل الدخول لمنع من طلاق من لا عدة له عليها(25).

هذا وقد قال ابن حجر في فتح الباري، إنه يستثنى من تحريم طلاق الحائض صور: منها ما لو كانت حاملاً ورأت الدم وقلنا الحامل تحيض فلا يكون طلاقاً بدعياً ولا سيما إن وقع بقرب الولادة، ومنه إذا طلق الحاكم على المولى واتفق وقوع ذلك في الحيض، وكذا في صورة الحكمين إذا تعين ذلك لرفع الشقاق، وكذا الخلع(26).

وهذه الشروط كلها مستنبطة من حديث ابن عمر المتقدم في قصة طلاق زوجته، ومن صور طلاق السنة أيضاً أن يطلقها وهي حامل فقد جاء في بعض روايات حديث ابن عمر أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال لعمر مرة فليراجعها ثم ليطلقها طاهراً أو حاملاً. رواه مسلم(27).

 

حكمة المنع من الطلاق في الحيض:

اختلف العلماء - رحمهم الله - في حكمة المنع من الطلاق في الحيض على ثلاثة أقوال:

القول الأول:

إن المنع من الطلاق في الحيض لكونه حال النفرة والزهد في الوطء، فلا يطلقها إلا في حال الرغبة في الوطء، وهذا هو المشهور من مذهب الحنفية وهو قول أبي الخطاب من الحنابلة، فقد جاء في تبيين الحقائق للزيلعي ما نصه: \"وليس له أن يطلقها في حالة الحيض لأنها زمان النفرة فلعله يندم في زمان الطهر عند توقان النفس إلى الجماع فلا يمكن تفويت ما جعل الشرع نظر له ولا يقال إنما كره في حالة الحيض لأجل تطويل العدة لأنا نقول لو طلقها في حالة الحيض بعدما طلقها في طهر لم يجامعها فيه كان مكروهاً وليس فيه تطويل العدة(28).

وجاء في الإنصاف ما نصه: \"أكد الأصحاب على أن العلة في منع الطلاق في الحيض هي تطويل العدة، وخالفهم أبو الخطاب فقال: لكونه في زمن رغبة عنها.

 

القول الثاني:

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply